لا أحب كتابة الردود، بل أفضل عرض ما لدي من 'بضاعة' فكرية وعلى القارئ القرار. اشتدت الهمم وصوب كلا الفريقين سهامه نحو الآخر مدّعيا النجاح؛ كانت الحوادث الأخيرة والنقاشات حول قضايا المثلية والاختلاط والفن، لها أبعاد على كل المجتمع العربي ولها إسقاطات على الإنقسام الحاد الذي شهدته البلاد، بين علمانيين وإسلاميين، حول قضايا هامشية، قياسًا لما ينتظرنا من تحديات على المستوى القومي والاجتماعي.

الثنائيات تقتلنا، الحياة ليست بيضاء أو سوداء. أنا لست مع جبهة النصرة في سوريا ولست مع النظام السوري أيضًا؛ لا أؤيد إيران، وعلى علم بدورها المريب بتقسيم العراق واليمن، ولكني لست في صفوف الخارجية الإسرائيلية ضد إيران. أنا نقديٌّ تجاه ممارسات الإخوان المسلمين في غزة ومصر لكني لست مع السيسي ولا أبي مازن في مشروعهما المتواطئ والإقصائي؛ لا أقصد المناكفة وتسجيل النقاط على الخطابات السائدة عند التيارات الفكرية المختلفة، شيوعية وإسلامية ويسارية في الشأن العربي وإسقاطاته على التجاذبات المحلية. بل سأحاول رسم معالم الطريق الثالث، وهو يفترض ألا يكون، أيضًا، حاجة نخبويّة أو مجرد حاجة ممكنة أو ترف فكري، بل حاجة تقوم أساسًا على واقع البشر وحاجاتهم الفعلية وآمالهم بالانعتاق من الظلم نحو الحرية وعالم أفضل.

تبرز أهمية الطريق الثالث، عندما تشتد المواجهة ما بين الفكر العلماني والنظرة الإخوانية للإسلام السياسي في العالم العربي؛ هذه المواجهة تظهر حاليًا في أعمق مشاهدها في مصر، قبل وبعد الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي، ولكنها موجودة بشكل أعنف في سوريا وبشكل أهدأ في تونس والمغرب والأردن وعدة دول أخرى، وموجودة بيننا أيضا.

مشكلة الحوار في المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع العربي في البلاد، أنه لا يكون “حوارًا” بقدر ما هو هجوم متبادل من كافة الأطراف وضمن مستوى عالٍ من الاتهامية والإقصائية؛ ربما نكون قد تعودنا على خطاب الإقصاء والتخوين والتكفير من الإخوان والسلفيين، ولكن متابعة الأوضاع في الوطن العربي والداخل أكدت بأن الخطاب العلماني يحمل، أيضًا، مستوى لا يقل خطورة من الحدة والعدوانية وهذا ما يمنع إمكانية الوصول إلى حلول وسطية.

 في هذا الصدد، تظهر من جديد أهميّة منظومة المنهج الفكري المسمى “العلمانية المؤمنة”، السبيل الوحيد للخروج من أزمة الصراع بين الطرفين بعيدًا عن الهيمنة لأي طرف إسلامي أو علماني. حسب مفهوم العلمانية المؤمنة، فهي تختلف عن العلمانية المطلقة التي ظهرت في أوروبا في عصر التنوير وطالبت بإبعاد الدين عن الدولة؛ فالعلمانية المؤمنة تطالب بإبعاد رجال الدين عن الدولة ولكن مع إبقاء الدين مصدرًا أساسيًّا للحضارة والثقافة والممارسة السياسية في حال اتفق عليها غالبية الشعب لأن الإسلام، وبعكس الكنيسة في العصور الوسطى، لا يوجد فيه رجال دين يدّعون السلطة والوصاية على الناس، العلمانية المؤمنة تطالب بمجتمع ديمقراطي مدني حديث يتمتع بكل أسس الحضارة المتقدمة وتعتمد على تداول السلطة وتطبيق برنامج سياسي واجتماعي واقتصادي منبثق من الأولويات الدنيوية المعاصرة، وليس التراث الديني الذي طبق في أزمنة مختلفة شكلا ومضمونا. وبالتالي، فإن العلمانية المؤمنة لا تهدف إلى “أدلجة” المجتمع سواء نحو العلمانية أو الإسلام السياسي، وإنما تطرح برامج ذات صبغة أخلاقية ديمقراطية ترتبط مع مشاكل وقضايا العصر بشكل مباشر وتربط الأسباب بالمسببات.

إن عبارة 'الطريق الثالث' في ما يبدو، قد صيغت منذ بداية القرن، وإن كانت أكثر استخدامًا في الغالب من جانب الديمقراطيين الاجتماعيين والاشتراكيين في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية مباشرة، قدّر الديمقراطيون الاجتماعيون بوضوح تام أنهم قد اكتشفوا طريقا متميزًا عن رأسمالية السوق الأميركية، وعن الشيوعيّة السوفيتيّة. قاد القائد الخالد جمال عبد الناصر هذا الطريق، وتوجه بمؤتمر باندونج لعدم الانحياز، وفي هذا الوقت بذات نقول 'نعم، نحن أبناء الطريق الثالث'.