لقد لفت انتباهي بالأمس قول سائد لضيف يهودي 'رفيع المستوى' في إحدى الاذاعات العربية المحلية حول استمرار الصراع بين اليهود والفلسطينيين وتعثر المفاوضات بينهما، وأن السبب مرتبط بوجود الأيديولوجيين في الحكومة الاسرائيلية وكثرة الفلسطينيين المتطرفين في السلطة الفلسطينية وخارجها، على حد قوله. بالرغم من أن هذا الضيف، الذي تمت مقابلته ليس سياسيا وإنما هو أكاديمي، فقد اختار مفردات لسيناريو واضحة أحداثه، التي تفصل بين الشر والخير بمفاهيم القوى العالمية.

إن القضاة الذين يقررون عدم إدانة مستوطن بحجة وضعه النفسي، ومبرراتهم بأنه أقدم على الجريمة إلا أنه لا يمكن إدانته بسبب التقرير الطبي المقدم ويوضح معاناته من 'الاضطراب النفسي'، فيما أدانت القاصرين المشاركين في الجريمة بتهمة القتل هو مثال جلي من عالم 'العدالة الجنائية' الأيديولوجية.

كذلك فإن رفض المحكمة العليا الإسرائيلية التماسا، لنواب حزب التجمع في القائمة المشتركة، طالب بإصدار المحكمة أمرا احترازيا يلزم سلطات الأمن الإسرائيلية بتنفيذ خطوات قضائية ضد منفذي الجريمة الإرهابية بحق عائلة الدوابشة في قرية دوما بالضفة الغربية، وأقوال وزير الأمن الإسرائيلي بأنه 'في جهاز الأمن يعرفون المسؤول عن الاعتداء الذي تم خلاله إحراق بيت عائلة الدوابشة في دوما، لكننا نمتنع عن محاكمتهم من أجل عدم كشف مصادر استخبارية في المحكمة'، انها أمثلة تعكس أقوال الضيف المحترم آنف الذكر.

التفوه الصريح لأشخاص في مكانة مفتاحية تعكس ثانية الفاصل بين المفردات مثل من هو 'الأيديولوجي' ومن هو 'المتطرف'، أو بالأحرى 'العدو من الداخل'. تعبير أول لرئيس المخابرات في العام 2006: 'عربي إسرائيلي من أم الفحم، مثلي ومثلك، هو معتقل وبجانبه معتقل يهودي، لا يمكن الكشف عن مساواة في كيفية تعامل الجهاز معهما في حال أن للاثنين نفس التهمة'. وتعبير ثان لقاض يهودي، الذي كتب في قراره: 'وفق اختبار النتيجة، تعمل دولة إسرائيل، وضمن سلطاتها المختلفة، بمسارين متوازيين ومختلفين بماهيتهما في تهم أيديولوجية. المسار الأول- تابع للفتيان اليهود: معظم الإجراءات مجمدة أو ملغاة بطرق مختلفة قبل وصولها للقضاء. المسار الثاني- تطلب الدولة فرض السجن الفعلي ضد الفتيان العرب- معظمهم مدانون، لا يوجد تأجيل لإجراءات ولا يوجد تأجيل للوائح اتهام'.

وتنصب هذه السياسة أيضا في مجال هدم البيوت فمبررات هذه السياسة هي أيديولوجية والتي ترى بالعربي خارق الأنظمة، والتوفير المكثف للجنود وأفراد حرس الحدود والشرطة في منطقة هدم البيت لهو دليل لهذه النظرة الأيديولوجية والتي تدرك أن العربي هو 'المتطرف والخطير أمنيا'.

تستند هذه العقائد على أوهام أسطورة النظام والقانون. فمنذ فترة طويلة، قبل بداية وجود 'دولة اسرائيل' وإنشائها، وثم فرض الحكم العسكري في الجليل والمثلث والنقب في الأعوام 1948-1966، ومنذ وجود الاحتلال في عام 1967 يتم تداول أسطورة تحت عنوان 'سيادة القانون في إسرائيل'.

مضمون الأسطورة شيء مثل هذا: 'إسرائيل كانت ودائماً ديمقراطية ليبرالية. يتم احترام جميع العناصر المقياسية لسيادة القانون: الحقوق المدنية، وحرية التعبير، وسلطة قضائية مستقلة، والحق في الاستئناف، وهلم جرا. صحيح، هناك هفوات عرضية وهناك خارج عن القاعدة، ولكن هذه الحالات يتم تسليط الضوء عليها، حيث يحتوي النظام على آليات لتصحيح الأخطاء. وماذا مع المناطق المحتلة؟ حسنا، هذه قصة مختلفة تماما. يفهم الجميع أن سيادة القانون تنتهي وراء 'الخط الأخضر'. الأنظمة العسكرية، وأنظمة الطوارئ، والوضع الأمني، والسلامة العامة، واحتياجات الجيش والمستوطنون، وتباين التفسيرات للقانون الدولي- كل هذا يعني تعليق المفاهيم التقليدية للعدالة وحقوق الإنسان ريثما يتم التوصل إلى حل سياسي'.

تُنشر هذه الأسطورة في الدوائر المختلفة لأسباب مختلفة تماما. أنصار الفئات المسيطرة الذين يفهمون جيدا بما يكفي من بساطة الادعاء أن أفعال القمع تجري وفقا لسيادة القانون، يجدون من المفيد أن 'هنا' الأمور هي على ما يرام، ولكن 'هناك' لا نملك الإضافة القانونية.

أكثر أهمية، يجد المعارضون من الأحزاب المعارضة (الذين يتصفون بالليبرالية) أن وجود هذه الأسطورة مفيد ومسؤول عن سلوكهم وأفكارهم وعواطفهم: وهكذا يُوظف هؤلاء المعارضين الأسطورة كنقد لما يفعل الطرف الآخر، ويتساءلون 'كيف لأفعال القمع المروعة أن تحدث في سياق حقوق الإنسان: الاحتجاز دون محاكمة، وفرض العقاب الجماعي، والإجلاء، وهدم البيوت، وحظر مؤسسات مدنية وقمع حركات سياسية!'. من ناحية أخرى، يُمكن استخدام النظام القانوني لكبت أو تأخير الانتهاكات الجسيمة التي تُرتكب بحق الفلسطينيين (على سبيل المثال، عن طريق الاستئناف أمام المحكمة العليا). كل ما يمكن فعله من طرف هيئات الحقوق المدنية هو رصد وإدانة هذه الانتهاكات وفقا لــ 'المعايير العالية' التي تنطبق هنا في إسرائيل!

لكن من وراء ذلك، تتقبل الأسطورة عدم ارتباطها على الإطلاق بالواقع. يستطيع الملاحظ تأكيد النواحي التالية:

الشرطة: هل أعضاؤها مسؤولون أمام وزير 'الأمن الداخلي' وهم أنفسهم، يعملون في أراض فلسطينية محتلة؟ وماذا عن الشرطة العاملة في القدس الشرقية وفي القرى المحيطة ومخيمات اللاجئين؟ (هل القدس الشرقية 'هنا' أو 'هناك'؟) ثم هناك حرس الحدود، هل هم هنا أو هناك- وهل أفرادها جزء من الشرطة أم جزء من الجيش؟

المحاكم: هل هي نفس المحاكم الإسرائيلية العادية التي تقاضي حالات من المناطق المحتلة؟ مصادرة الأراضي، والإبعاد، هدم المنازل، الاستئناف، والمؤكد أن هذه المحاكم هي نفسها التي تتعامل مع جرائم (أعمال القتل والاعتداءات والمضايقات وغيرها) المستوطنين من الأراضي المحتلة، وهي نفسها تتعامل مع الجرائم العادية وقضايا هدم البيوت في الداخل الفلسطيني.

وزارة القضاء: هل هناك بعض من أعضاء موظفي الوزارة الذين يتعاملون مع مسائل الاحتلال فقط؟ لا... لكنهم بالتأكيد هم المسؤولون عن جانبي 'الخط الأخضر'.

السجن والاحتجاز: ماذا عن تلك السجون في الأراضي المحتلة- عوفر وقدوميم وكفار عتسيون وغيرها، والتي يتم تشغيلها من خلال مصلحة السجون الإسرائيلية العادية وليس الجيش؟ ثم هناك السجون ومراكز الاعتقال في إسرائيل- عتليت، الرملة، مجدو، عسقلان وبئر السبع ولكنها هي أيضا تنتمي لنفس المصلحة!.

المستوطنون: نعم، إنهم يعيشون في الأراضي المحتلة ويشكلون هناك أنظمة عسكرية مستقلة، وهم بالتأكيد يخضعون للنظام القانوني الإسرائيلي العادي.

الجيش: بالتأكيد هم من المواطنين الإسرائيليين العاديين. بعض من هؤلاء الأطباء والمحامين موظفي المحاكم العسكرية، وفي 'الإدارة المدنية' وهم نفس الأشخاص الذين يعتقدون أن الاحتلال 'هناك'، ولكنهم يتصرفون 'هنا' وفق نفس الأنظمة.

هذه الأطراف جميعا تخدم أسطورة النظام. من الإهانة القول إن لدى الإنسان المنطقي والعقلاني لا تتوفر الأدلة التفصيلية، التي تؤكد الفارق الشاسع بين الحقائق وبين مضمون الأسطورة سالفة الذكر. يقولون إن 'هدم البيوت يتم بمبررات موضوعية وفق النظام والقانون'، وهذا ادعاء أيديولوجي ساذج يندمج في مضمون العقيدة. الأغلبية المسيطرة، وأنا متأكد من ذلك، تفهم الأمور جيدا بما يكفي، ولكنها تحتاج لطريقة ملائمة أخلاقيا للتهرب من بعض الخيارات السياسية والمهنية الصعبة والمركبة.

يسمح وجود هذه الأسطورة العمل كالمعتاد. هنالك الانتقادات المعتدلة حول سياسة القمع والظلم والاستبداد هنا وهناك، ولكنها تقابل بردود فعل ساخطة (بالقول إن قاضيا واحدا من محكمة العدل 'انضم إلى أعداء إسرائيل' وبعدما علقت المحكمة قرار هدم بيوت فلسطينيين). الهزلية القائمة في سياق سيادة القانون أن الجهاز القضائي الأعلى يُطالب، من ناحية أخرى، جهات سياسية بإصدار قرارات سريعة لهدم البيوت في المناطق المحتلة، فهل يُعتبر هذا التوجه في اطار القصة الأخرى التي تحصل 'هناك'، أو أنها حاصلة 'هنا' أيضا؟!

وفي نفس الوقت، هنا في أروقة المحاكم وفي أروقة الصفوف السياسية الأكاديمية المسيطرة يُواصل تأكيد سيادة القانون، بينما على بعد مئات من الأمتار فقط يجرى هدم البيوت، وإطلاق النار، والتعذيب والاعتقال دون سابق إنذار، واصدار أوامر وقرارات الحظر. كمشهد الأكاديمي القانوني الذي يحاضر حول سيادة القانون وخرقه الموضوعي، وفقط على بعد أمتار منه يتواجد 'الفاصل الوهمي' والذي من وراءه يمارس الحاكم كافة ممارسات الكراهية والتمييز والاستبداد. فهل هذا الأكاديمي 'المنطقي!' لا يشم روائح الغاز السامة التي تخترق نوافذ قاعة المحاضرة؟ هل سيستمر في تأكيد التعبير الموضوعي أو سيتأثر ولو قليلا بالروائح السامة؟

نسمع الكلمات الجميلة حول سيادة القانون، إنها هي القاعدة التي لا يمكن تخطيها وخرقها، وآمل أن أكون مخطئا، ولكن بدون أي شك فهؤلاء الذين يتكلمون حول هذه السيادة هم الذين لا يستحضرون حالات هدم البيوت ظلما وعقابا، وهم ينكرون حالات القتل بدم بارد، أو الذين يتجاهلون فرض أنظمة الطوارئ الانتدابية.

أُكرر الفكرة القائلة 'إن تجزئة سيادة القانون والنظام جغرافيا هجس من محض خيال'. فما حصل ويحصل 'هناك'، حاصل 'هنا' بنفس الشراسة، لأن المُمثلين الأساسيين للأسطورة هم ذواتهم هنا وهناك. وقول ذلك الضيف الكريم 'أن الحاكم هو الأيديولوجي والمحكوم هو المتطرف' يكرر قاعدة الأسطورة. المنطلق هو مهما استبد المجرم العقائدي فهو ليس بخارق الأنظمة لمبررات 'العامل النفسي أو نقص الأدلة'. أما بالنسبة للضحية (المُدرك كمجرم حقيقي بواسطة الطرف الحاكم) بمجرد الادعاء أن تصرفاته وأفكاره تُعتبر خرقا للنظام فقليل من الأدلة تكفي لإصدار الحكم والذي يهدف تطبيق مبدأ تلك العقيدة ومضمونها ليس فقط عقابا فرديا وإنما هو عقاب جماعي. هذا هو الأساس الذي يربط بين العقيدة والجغرافيا وخرق النظام.