لا يتردد بعض العرب من مؤيدي الثورة المضادة سواء كانت ملكية أم 'جمهورية'، من 'تقييم' الدول الأخرى، تركيا أو روسيا مثلًا، وهم من جيل يشهد له بأنه جيل مشروع الدولة الوطنية العربية الفاشلة وتحديدًا في المشرق، بعدما أشبعونا شعارات عن قومية هذا النظام أو ذاك، وعن نفاق الغرب وإمبريالية أميركا. ووصل بهم العجز إلى درجة الانفصال عن الواقع والانشغال في ابتداع مصطلحات 'سياسية إستراتيجية' كبرى.

وآخر هذه المصطلحات ما ذهب إلى تبنيه وترويجه مؤخرًا مؤيدو نظام بشار الأسد والثورة المضادة ووسائل إعلام، وهو مصطلح 'الاستدارة'، في سياق الحديث عن 'الاستدارة التركية' تجاه روسيا وزيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لبطرسبورغ ولقاء فلاديمير بوتين.

وإلى جانب 'المصطلحات الكبرى' حاول هؤلاء التضليل من خلال نشر صور مفبركة يظهر فيها وكأن إردوغان ينحني وهو يصافح بوتين خلال لقائهما الأخير. وهذه الفبركة الصغيرة تكشف حجم الانفصال الكبير عن الواقع ومحاولة غسل أدمغة الناس بعد خمس سنوات من الحرب السورية التي أعلن النظام مرارًا بأنه على 'خبط العصا' من الإعلان عن الانتصار فيها.

وإذا يعيب مؤيدو الثورة المضادة والاستبداد في الوطن العربي على دولة مثل تركيا بأنها تقوم باستدارة في علاقاتها مع دولة مهمة مثل روسيا، فإن 'العيب كل العيب'، رغم تحفظي على استخدام تعبير 'العيب' عمومًا، على الدول العربية التي 'تمانع' من الاستدارة، ليس لدول أجنبية، بل لشعوبها، ومن لا يستدر للداخل –للشعب  فمن المؤكد أنه سيرضخ خانعًا للخارج.

وإذ يعبر مؤيدو الثورة المضادة والاستبداد عن شماتتهم بـ'فشل سياسة إردوغان' تجاه سورية، فإن آخر من يحق له الشماتة من الآخر هم العرب، بعدما صارت شعوبنا مشردة لاجئة في تركيا وغيرها.

وتجربة مئة عام مضت، أكدت أن الحاكم العربي عمومًا لا يجيد 'الاستدارة' لا داخليًا ولا خارجيًا، لأن مصلحة الوطن أو الأمن القومي لا يتجاوز كونه أمن مصالحه أو مصالح عائلته 'الحاكمة'. فيما أن الحكومات الديمقراطية لا ترى حرجًا في أن 'تستدير' و'تربع الدوائر' و'تدور المربع' إذا تطلب أمنها القومي ومصلحة شعوبها ذلك.

حصلت في العام الماضي 'استدارات كبرى' لعل أبرزها 'الاستدارة الأميركية – الكوبية' بعد عقود من 'ممانعة أميركية – كوبية' رافقها غسيل أدمغة عقائدي متبادل وشيطنة للآخر طيلة قرن. كما حصلت 'استدارة' أخرى وهي مصالحة إيران مع 'الشيطان الأكبر' بعدما أوصلها الغرب إلى وضع يهدد بانهيار النظام اقتصاديًا.

ولا يجيد الحاكم العربي عمومًا 'الاستدارة' وإنما الاستباحة، وما يحصل على أرض سورية من استباحة من كل بقاع الأرض يؤكد أن المقولة المنسوبة لابن خلدون بأن 'الطغاة يستجلبون الغزاة' هي أدق توصيف للحالة السورية والعربية، وكأنها 'معادلة خلدونية' خاصة بنا، نحن العرب، فقد طبقها معمر القذافي ومن قبله صدام حسين، وكلها 'أنظمة جمهورية علمانية قومية ثورية...'.

حاول الأخيران 'الاستدارة' نحو أميركا في آخر سنوات حكمهما لكن يبدو أن 'استدارتهما' كانت متأخرة بعدما 'استدار' شعبيهما عن شعاراتهما الوطنية والقومية وضد الإمبريالية نحو اتجاهين نشعر بهما 'على جلدنا' اليوم، وهما الطائفة والإرهاب، فقد أصبحت الطائفة الحاضنة 'الآمنة' في وجه وحشية الدولة، وصار الإرهاب أقوى وسائل التعبير عن 'الطموح للتغيير'، تغيير إلى الأسوأ بعدما استباحت هذه الأنظمة كل شيء ممكن بما في ذلك هويتها الوطنية.

استدانة

الحديث عن الاستدارة والأمن القومي ومصالح الشعب يقود إلى الحديث عن الاستباحة، وأشكال الاستباحة الداخلية والخارجية متعددة، سياسية وعسكرية واقتصادية أيضًا. والاستباحة الاقتصادية قد تكون استباحة داخلية فئوية لاقتصاد الدولة وقد تكون استباحة خارجية برهن الدولة للخارج.

وفي مصر يجري الحديث هذه الأيام عن استدانة قرض من صندوق النقض الدولي بقيمة 12 مليار دولار، في ظل تقارير، منها تقرير نشرته مجلة ' الإيكونوميست' الاقتصادية، والتي تتحدث عن انهيار محتمل للاقتصاد المصري.

وقضية الاستدانة في تاريخ مصر الحديث ليست جديدة مثل بقية دول العالم الثالث، وكانت مصر أيام العهد الملكي مرهونة للخارج بقناتها وأرضها، ولحقه اقتراض من الخارج في زمن حكم  الرئيس الخالد جمال عبد الناصر. لكن الاقتراض أو الاستدانة في عهد الناصرية كانت لمشاريع قومية كبرى مثل السد العالي ولمواجهة إسرائيل. وهنا لا بد من التأكيد أن الرئيس عبد الناصر كان أكثر 'انفتاحا' من بعض رؤساء الأنظمة الحاليين، وكان على استعداد للـ'استدارة' نحو أي جهة كانت بما فيها الغرب وأميركا، إذا تماشى ذلك مع المصلحة الوطنية المصرية والقومية العربية، لكن هذا الاستعداد الناصري قابله الغرب بحقد وانغلاق واضحين.

انضمت مصر لصندوق النقض الدولي أواسط أربعينيات القرن الماضي، لكنها لم تتوجه للحصول على قروض منه إلا مرات قليلة، الأول في فترة حكم السادات، ومرتين في فترة حكم مبارك، ومن ثم في فترة حكم المجلس العسكري بعد تنحي مبارك، ومرة خلال تولي محمد مرسي الحكم. لكن كل هذه الطلبات للقروض لم تكن بحجم القرض الذي يطالب به نظام السيسي، وكانت المبالغ عادة لا تتجاوز نصف المليار إلى مليار دولار. إلا أن القرض الحالي يصل إلى 12 مليار وسبقه معونات ومساعدات خليجية بمليارات الدولارات.

والمفاوضات الجارية مع الصندوق هي مقدمة لضمان حزمة تمويل تصل إلى 21 مليار دولار، وذلك في ظل نقص العملة الصعبة منذ العام 2011، وفي ظل تراجع السياحة وتراجع المستثمرين الأجانب، وتراجع الاحتياطي الأجنبي لدى مصر إلى نحو 15 مليار في نهاية الشهر الماضي، مقابل نحو 36 مليار دولار في العام 2011.

القرض الضخم من صندوق النقض الدولي له شروطه، وسيدفع ثمنه الشعب المصري ومعظمه من الطبقات المسحوقة اقتصاديا، كما يرافقه اشتراطات بالمزيد من الخصخصة لأملاك الدولة وتقليص المساعدات  وخفض الدعم الحكومي على المواد البترولية والكهرباء ورفع نسبة الضرائب على المنتجات الاستهلاكية.

والانهيار الاقتصادي له أسبابه العامة، الاستبداد والفساد والإرهاب. ولنبدأ من الأخير، فقد دمر الإرهاب السياحة في سيناء من خلال استهدافه هذا القطاع وكانت ذروته إسقاط الطائرة الروسية، وقد أظهر ذلك ضعف الحكم المركزي في مصر. أما الفساد، فقد استفحل بعد الثورة في ظل صراع بين 'المؤسسة العسكرية' ورجال الأعمال، وهو صراع على تقاسم ثروات الوطن. أما الاستبداد، فقد أدى إلى حالة 'اغتراب' شاملة للشعب عن وطنه بعدما فقد الأمل بأي انفراج. وهذا هو مكمن قوة السيسي، بأنه أوصل البلاد إلى حضيض صار يخشى المواطن المصري أن يثور عليه حتى لا يهبط إلى حضيض آخر.

اقرأ/ي أيضًا | نتنياهو وإردوغان وخطاب 'الديمقراطية'

كما أن علاقة الاستبداد – الإرهاب – الاقتصاد هي علاقة دائرية تغذي عناصرها بعضها البعض. ولنا أن نتذكر أن كل العمليات الإرهابية في قلب العاصمة التركية مثلاً، أو في المدن الألمانية أو الفرنسية لم تستطع ضرب اقتصاد هذه الدول رغم أن حجم وعدد ضحايا الإرهاب في هذه الدول يفوق ضحايا الإرهاب في مصر. لكن الفرق واضح، تلك الدول تديرها حكومات ديمقراطية وفيها اقتصاد سوق لا يهيمن عليه العسكر ولا 'نوفوريتش' بفضل قربهم من الأسرة الحاكمة.

فيما يشمت أنصار الثورة المضادة والاستبداد بـ'استدارة' هذه الدولة أو تلك، تعيش أوطاننا استباحة دائمة بينما 'يمانع' ذاك الحاكم الاستدارة إلى المرآة، ليس إلا، ليرى أن الجماهير التي تخيلها خلفه وحوله إما هُجرت وإما قُتلت.

اقرأ/ي أيضًا لـ رامي منصور