ما بين قمة العرب وفتح أبواب البيت الأبيض أمام الزعماء العرب والحراك السياسي الداخلي في إسرائيل، ثمة رابط لا تخطئه العين الخبيرة، رابط ناظمه من يجلس في البيت الأبيض من رئيس وإدارة ومستشارين. فقمة البحر الميت بمخرجاتها التوافقية والتصالحية ما كانت لتتم بهذا الانسياب والسلاسة لولا التحضيرات الأميركية - العربية السابقة للقمة (لقاء ترامب مع الملك عبد الله، ولقاءه مع ولي عهد المملكة السعودية الأمير محمد بن سلمان)، والمشاركة الأميركية الفعالة في القمة التي أدارها من خلف الكواليس المبعوث الأميركي، جيسون غرينبلات.

وقد جاءت مخرجات القمة بالتفويض لزعامات العرب باستمرار العمل على إعادة إطلاق مفاوضات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وهي بحق يمكن تسميتها "قمة التفويض". وبرغم أن الكثير ممّن كتب عنها اعتبرها قمة فلسطين وقمة عودة الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية وعودة القضية إلى أولويات العرب؛ لكن السؤال: بأي شكل عادت؟ ولماذا عادت؟

لقد جاء في مقدمة البيان الختامي للقمة الثامنة والعشرين استعراض للأزمات التي تعيشها الأمة العربية من قتل وتشريد وإرهاب، وذُكرت كلمة "احتلال" مباشرة قبل مشكلة العوز والفقر التي يعاني منها أيضًا العرب، وحتى لم يذكر مع كلمة "احتلال" أي شيء عن الحروب والاستيطان وتهويد القدس والتعنت الإسرائيلي.

أما في قرارات البيان، فكان القرار الأول يتعلق بفلسطين، وأكد على "استمرارنا في العمل على إعادة إطلاق مفاوضات سلام فلسطينية - إسرائيلية جادة وفاعلة"، بدلًا من أن تشترط ذلك بموقف إسرائيلي مسبق يعكس نوايا إسرائيلية جادة في صنع السلام، وفي مقدمة ذلك تجميد الاستيطان، وكأن المشكلة هي في توقف المفاوضات، وهنا لا يمكننا إلا أن نري ان الموقف العربي للأسف يدفع الفلسطينيين نحو المفاوضات بكل ثمن، وهو استجابة للطلب الأميركي.

وفي البند الثاني أكد العرب على تمسكهم بالسلام الشامل والدائم باعتباره خيارًا عربيًا إستراتيجيًا يجسد مبادرة السلام العربية، التي تسعى نحو المصالحة التاريخية مع إسرائيل. مرة أخرى تجاهل العرب السلوك الإسرائيلي وأكدوا ألا شيء سيغير موقفهم وسعيهم للمصالحة التاريخية مع إسرائيل، التي هم جاهزون لها في كل وقت، وهي شيء مسلم به حاضر بغض النظر عن الخيارات الإسرائيلية. فليس للعرب سوى الجهوزية الدائمة للمصالحة، الأمر الذي يعتبر إنجازًا لحكومة نتنياهو اليمينية التي تطمن الإسرائيليين من الموقف الإستراتيجي العربي والتشكيك بدوافع مثيري المخاوف من اليسار من أن سياسات نتنياهو تضيّع الفرصة على السلام مع العرب، فالعرب يؤكدون أنه لا قلق من ضياع الفرصة.

وفي البند الثالث يطالب العرب دول العالم بعدم نقل سفاراتهم إلى مدينة القدس أو الاعتراف بها كعاصمة لدولة إسرائيل، بدلًا من إرسال رسالة إنذار وتحذير صارمة تؤكد جدية الموقف العربي وتفرض على دول العالم ان تأخذها بعين الاعتبار.

وعمّا دار في كواليس القمة وفي كواليس البيت الأبيض ودوافع الاستقبال الحميمي الحار لزعماء المنطقة العرب، أكدت تقارير مختلفة أنه يأتي في سياق دعم جهود ترامب الرامية إلى عقد قمة في واشنطن تجمع زعماء المنطقة العرب، بما فيهم ممثلين عن دول الخليج، مع نتنياهو لاحتضان إطلاق مفاوضات سياسية بين إسرائيل والفلسطينيين.

حضور العرب لمثل هذه القمة يهدف لمنح نتنياهو جائزة أولية بالمصافحة السياسية العلنية مع زعماء العالم العربي، وربما السماح بإطلاق حوارات وتفاهمات جانبية غير مرتبطة بالتقدم على المسار الفلسطيني، وهو ما كان نتنياهو يسعى إليه عبر شعار السلام الإقليمي مع العرب كمقدمة لخلق بيئة داعمة للسلام مع الفلسطينيين. ويسعى ترامب من خلف ذلك أيضًا إلى استخدام العرب كأداة ضغط ومباركة لعودة الفلسطينيين إلى غرفة المفاوضات من دون ظهير عربي.

سر ترامب سحره في الضغط على العرب يفسره عدد من المحللين السياسيين، باختلاف سياسات ترامب تجاه الملفات الشرق أوسطية بشكل دراماتيكي عن إدارة أوباما، فترامب جاهز لدعم الأنظمة العربية وتقديم الحماية لها، وهو يقدم هذا الدعم لأنظمة تعاني من الفزع والخوف والضعف، بحيث أن سياسات ترامب تسقط عليها كهدية من السماء، لكنهم يعرفون بأن رجل الصفقات في البيت الأبيض لا يقدم وجبات مجانية، وأن عليهم دفع ثمن مضاعف لهذه الوجبات. العرب - الذين يعيشون في أسوأ ظروفهم - يبدو واضحًا أنهم أعجز عن امتلاك إرادتهم أو امتلاك مشروع خاص بهم، وهم اليوم أداة طيّعة أكثر من أي وقت آخر؛ الأمر الذي ربما يشعر ترامب بالتفاؤل بقدرته - وهو رجل الصفقات العقارية- على إنجاح صفقته الشرق أوسطية، وبما يمتلكه من قوة ونفوذ وسطوة وإرهاب شخصي، واستعداد الآخرين على التنفيذ والاستجابة دونما اعتراض.

وإذا كانت ثمة مراهنة على طرف بإفشال مبادرة ومساعي ترامب، فيمكن المراهنة على عباس ونتنياهو، فعباس لا بدّ وأنه يشعر بالقلق من عودة المفاوضات، فهو يدرك أنه سيكون الطرف الأضعف، وسيكون عنوانًا لتوجيه الضغوط من معظم الأطراف، لا سيما الإدارة الأميركية، وهو يدرك بأن نتنياهو لن يقدم شيئًا حقيقيًا، وأن نهاية المفاوضات، سواء بالفشل أو بتوقيع اتفاق سيء، ستعود عليه بمخاطر كبيرة، فتبدو خياراته صعبة في ظل عدم التقدم على جبهة إنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة، سواء مع حركة حماس أو مع دحلان.

نتنياهو من جانبه يملك أسباب ودوافع كثيرة بإفشال المفاوضات أو إنجاحها، فهو لا يرغب حقيقة في الوصول إلى صدام مع ترامب، وهو في الوقت ذاته لا يستطيع قبول صفقة ترامب التي ستمنح الفلسطينيين نوعًا من دولة على جزء كبير من أراضي الضفة، وهو قد يفكر بالتهرب من المواجهة مع ترامب بحل الحكومة وتقديم موعد الانتخابات؛ إلا أن قدر نتنياهو أن ثمة فرصة قوية لنجاح ما يسميه "السلام الإقليمي" والتطبيع مع العرب دون أن يرتبط ذلك بالتقدم على مسار المفاوضات مع الفلسطينيين، وأن بإمكانه أن يماطل ويماطل إلى أن يدفع الفلسطينيين للخروج وتحميلهم المسؤولية، فيكون قد قبض من العرب دون أن يدفع الثمن.

غدعون ساعر، المنافس الرئيس لنتنياهو داخل "الليكود" والذي كان قد خرج لاستراحة لمدة عامين ونصف من الحياة السياسية على خلفية نزاعاته مع نتنياهو، قرر أول من أمس العودة للانخراط في الحياة السياسية. وبحسب معلقين إسرائيليين فإن عودة ساعر تنطوي على رغبته في أن يحافظ على مكانته كلاعب رئيسي في الحلبة السياسية الليكودية، ليكون بإمكانه أن يخلف نتنياهو في لحظة الحسم.

إن تسلسل سياق الحراك السياسي في المنطقة - الذي قد يؤدي لمخرجات سياسية على صعيد ملفي الصراع مع إسرائيل والتهاب العلاقة العربية مع إيران - لا يمكن اعتباره مؤامرة حيكت من ألفها إلى يائها في المكاتب الصهيو - أميركية، بل هي نتاج طبيعي لحالة الفشل والعجز العربي وغياب الديموقراطيات وتسلط أنظمة الحكم القمعية، وتتويجًا لعجز الأنظمة فقد جاءت نتائج قمة العرب تفويضًا وتمهيدًا لقمم واشنطن، التي ستطلق إعلان احتفالية افتتاح المفاوضات.

( * باحث في مركز أطلس - غزة)