د.بشارة في بيروت: الارتباك الفلسطيني سببه مغادرة مواقع التحرر إلى اللادولة..

د.بشارة: القضية اتخذت مسار بناء الدولة دون دولة، وغادرت مواقع التحرر الوطني من دون ان تنجز اهداف التحرر الوطني. ونحن نعيش هذا الارتباك، فحصل اسوأ ما يمكن أن يقع لقضية.."

د.بشارة في بيروت: الارتباك الفلسطيني سببه مغادرة مواقع التحرر إلى اللادولة..
كل الكلمات بدأت من عند سمير قصير في اليوم الثاني والأخير من الأيام العلمية التي حملت عنوان "الشرق الأوسط: قضايا وصراعات". تفاوتت "الحماسة" واختلف عدد الجمهور بين محاضرة وأخرى، في وقت سرقت فيه محاضرة المناضل عزمي بشارة كل الأضواء.

الحركة لم تهدأ طوال اليوم في قاعة وملعب جامعة القديس يوسف، حيث كان حرص المنظمين والطلاب واضحاً على اتمام المهمّة بالصورة التي كان ليودها الأستاذ الغائب جسداً: سمير قصير.

المحاضرة الأولى في اليوم الأخير حملت عنوان "الحالة الدينية والسياسة". صحيح أن طول مداخلاتها قضى على الوقت المخصص للنقاش، إلا ان الكلمات حملت الكثير من المحاور التي تحتمل التعمّق والاستزادة.

أدار الجلسة هشام نشابة مدير معهد العلوم الإسلامية، وتحدث بداية وزير الثقافة طارق متري الذي بدأ مداخلته بقراءة مقاطع من كلمة للرئيس السنيورة ألقاها في اسطنبول، منطلقاً منها لمقاربة من أربع نقاط: سوء التفاهم المسيحي المسلم المتبادل، الالتباس بين الدهرنة والعولمة، طرح الحركات الإسلامية المعاصرة لسؤال الهوية عوضا عن أسئلة التقدم والوحدة التي سألها أهل الصحوة، مركزاً على التيار الإسلامي الواسع الذي خرج على العادة القديمة في الإسلام، أي التأصيل.

كلمة السيد هاني فحص مزجت الأدب بالسياسة والشخصي بالعام، فبدأ كلمته بتكرار شهادته التي حملت عنوان "سمير قصير جميل"، مؤكداً ان "الإخلال بالأصول غيرمغفور أبدا، والحرية أهم هذه الأصول، وفي ما عدا ذلك الله غفور رحيم".

وتناول دولة اللادولة التي تعمل على الفوارق وترفعها إلى مستوى التناقض، محذراً من "أن جرّ رجال الدين للطائفة إلى السياسة، يغري السياسي بجرّ السياسة إلى الطائفة".

بدوره، شرح جان بوبرو مدير كرسي تاريخ وعلم اجتماع العلمنة لدى EPHE، دراسة عن الإعلان الدولي حول العلمانية وركائزها. توقف في أكثر من محطة عند الأسئلة التي تواجه العلمانية، دون أن يعطي إجابات عليها، تاركاً الأمر بيد الدول: "كل بلد عليه أن يجد الإجابات التي تتلاءم وواقعه"، مشدداً على ضرورة التمييز بين العلمانية والممارسة الخاطئة للعلمانية.

المروحة الواسعة للخطابات الأصولية الإسلامية التي تتضمّن الاستبعاد والاستئصال، كانت المحور الأساس لحديث أحمد موصللي، أستاذ العلوم السياسية والإسلامية في الجامعة الأميركية، فأكد على وجود نموذج آخر من المجموعات التي تقبل التعددية، متوقفاً عند تأثير الخطابات القمعية للسيد قطب، معتبراً ان الموجات الأصولية هي نتيجة للأنظمة السياسية القمعية في العالم العربي.
الجلسة الأكثر سخونة كانت حول مصير فلسطين ومسار الصراع العربي الإسرائيلي، إذ اشتعلت النقاشات بعد مداخلة المناضل عزمي بشارة، ما استدعى ارجاء المحور الثاني لغاية الساعة الرابعة بعد الظهر.

شارك في الندوة الوزير السابق الدكتور سمير مقدسي وترأسها الدكتور نواف سلام.

قال بشارة إن حضوره في بيروت "رمزي" للمشاركة في "ذكرى الصديق الشهيد سمير قصير". وفي قضية القصور الديموقراطي أو التحرري قال: "إن السؤال هو: ماذا علينا ان نفعل؟ قضية فلسطين هي قضية كولونيالية لا يبدو ان لها حلاً. السؤال في القضية الفلسطينية هو ليس عن حل بل ماذا عليّ ان افعل. تفكير العرب فيها هو دائما بالبحث عن حلول. ومن هو الاكثر قدرة على ايجاد مخارج وحلول. في القضايا الكولونيالية تناضل الناس من اجل التحرر. مسار القضية الفلسطينية قد ارتبك. هل هي قضية تحرر وطني أم هي قضية فصل عنصري. وكنت سأرضى بأي خيار من هذين الخيارين لأنه كان سيقود إلى تحرر إما وطني أو في إطار المواطنة، والمواطنة والوطنية وجها عملة واحدة. الارتباك هو في أن القضية اتخذت مسار بناء الدولة دون دولة وغادرت مواقع التحرر الوطني من دون ان تنجز اهداف التحرر الوطني. ونحن نعيش هذا الارتباك. بعد ان دخل الفلسطينيون مسار تسوية مع الاستعمار على اساس موازين القوى القائمة بين الطرفين وليس على اساس اعتراف المستعمِر بمبدأ حق الشعب المستعمَر بتقرير مصيره، وهو الاساس الوحيد للتفاوض بين مستعمِر وبين حركة تحرر، لا يستطيعان ان يوهما نفسيهما انهما يجلسان الى طاولة للتفاوض من دون شروط مسبقة كما تتفاوض القوى المتوازية. ليس هذا حال الفلسطينيين مع اسرائيل. الحالة الفلسطينية هي ليست حالة ارض متنازع عليها بين كيانين. هذا هو التنظير الصهيوني، اي أن هناك ارضاً متنازعا عليها محتلة منذ العام 1967 لذا تحل بالتفاوض عليها من دون شروط مسبقة، لذا فان الافتراض الصهيوني يقول إن القضية الفلسطينية نشأت سنة 1967 ما نسميه نحن قضية فلسطينية موضوع آخر. التفاوض يكون إجرائياً، اي كيف ومتى يتم الاستقلال.

ومع دخول المفاوضات بهذه الطريقة الخطأ، تمت مغادرة مواقع حركة التحرر الوطني، ولم ندخل في الدولة فحصل اسوأ ما يمكن أن يقع لقضية او حركة وهو اختفاء المرجعيات الرسمية، ما جعل المجتمع الفلسطيني في حال سيئة والسياسة الفلسطينية تكاد تكون على حافة الانحدار.

الخيار الثاني كان خيار الضم، أي الانضمام الى الكيان الاسرائيلي والمطالبة بحقوق المواطنة ومساواة كاملة في وطن واحد.

حين اقيمت منظمة التحرير الفلسطينية أقيمت في القدس الشرقية ولم تكن هذه محتلة ولا غزة ولا الضفة الغربية، وكان التحرير صياغة أخرى لعودة اللاجئين، فالقضية الفلسطينينة كانت قضية لاجئين رفض الفلسطينيون كرامة تسميتها هكذا، لكن حركة التحرر الوطني الفلسطيني هي حركة لاجئين وليست حركة الضفة وغزة وتطلعها الاساسي كان حق العودة.

عندما بدأ التفاوض صارت الدولة هي الهدف. الآن، سلوك السلطة الفلسطينية هو أن تتصرف وتعامل كدولة من دون أن تتحول الى دولة. هذا هو الارتباك. ولا ادري ما إذا كان يمكنني القول انه يمكن العودة الى احد الخيارين السابقين. والزمن لا يمهمل لأن البديل الذي جاء به الخيار المتخذ هو سيطرة التيار الاصولي على الخطاب النضالي، أي خطاب رفض لما يجري من دون بقية عناصر التحرر الوطني".

بشارة قال إنه جزع من تحول الصراع الفلسطيني الاسرائيلي الى صراع فلسطيني فلسطيني. وقال "إن محاولة إفشال الحكومة الفلسطينية ستؤدي الى عواقب على المستوى العربي، بحيث ستتعمق ازمة الديموقراطية، ما يؤدي الى تأزم التقدم الديموقراطي في الاراضي الفلسطينية، ومن سيعمل على افشال الحكومة سيخرج منها أكثر ارتباطا باسرائيل، وهنا ستجد اسرائيل مفاوضا بلا شروط".

ورداً على سؤال الكاتب السوري محمد على الاتاسي حول كيفية "تفسيره لعلاقته بالنظام السوري والرئيس بشار الأسد ومشاركته في ذكرى اربعين الرئيس الراحل حافظ الأسد ونقده للمثقفين السوريين، قال: في أربعين الرئيس الأسد كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري جالساً بقربي، وأغلبية القيادات اللبنانية كانت موجودة، وغالبية الديموقراطيين السوريين واللبنانيين كانت حاضرة، فلماذا يوجه السؤال إلي بالذات وقد كان حضوري فعلا قومياً وفعل تحد؟ سوريا بلد تحتل إسرائيل اراضيه. وهناك مغالطة بأنني ازور سوريا دائماً، انا ممنوع اسرائيليا من زيارة سوريا ولم اذهب اليها منذ خمس سنوات. انا لا تربطني أي مصلحة ولا بأي نسب مئوية اقتصادية واجتماعية مع النظام في سوريا. انا متضامن مع سوريا كبلد أراضيه محتلة، ولن انسى ذلك، واحضر كل الاجتماعات في الجولان المحتل وازور الاسرى السوريين وسوريا ليس عدواً على العكس من بعض السوريين واللبنانيين. انا لا أراها عدواً. ولست مهتما لهذا. لم اناقش الديموقراطيين السوريين في اي مرة من المرات. أنا ضد سجن أناس بسبب رأيهم في سوريا وغيرها. عليكم ان تروا اختلاف المواقع. أنا مع الديموقراطية في كل بلد عربي ومن ضمنها سوريا. أنا مع سوريا في نضالها ضد الاحتلال ومن اجل الحفاظ على العروبة والحفاظ على هوية البلد العربي، ونحن رأينا الدعوات الى التدخل الاجنبي ماذا فعلت في العراق. هذا "ألف باء" بالنسبة لي ولا اتزحزح عنه في الكنيست حتى، فهل أزيح عنه هنا؟".

"أخرجوا لي قانونا خاصاً بي لمنعي من زيارة سوريا وانا ادرس كيف أتحدى هذا القانون لأنني لا اريد ان تمنع اسرائيل التواصل العربي العربي، لأنه بالنسبة لي، فإن زيارة لبنان وسوريا والاردن ومصر واي دولة عربية هي من اجل التواصل العربي. أجتمع مع عدة رؤساء عرب غير ديموقراطيين. لماذا لا يثار إلا الموضوع السوري؟".

وحول وضع الفلسطينيين في لبنان قال إن معنى أن يكون الفلسطيني لاجئاً في بلد يتبنى حق العودة فهذا يعني أن يتمتع بحقوق أكثر. حالة الفلسطينيين هنا تطرح سؤالاً حول مدى تبني القضية الفلسطينية، فمن غير المعقول أن تحب القضية الفلسطينية وتكره الفلسطينيين. هم لا يريدون المواطنة اللبنانية واللبنانيون ليسوا بوارد اعطائهم إياها، لذا لماذا لا يعطون حقوقهم الإنسانية"؟


من جهته، تحدث مقدسي عن الصراع العربي الاسرائيلي وقضية الديموقراطية في العالم العربي، وقال إن "الأسباب الكامنة وراء استمرارية قصور الديموقراطية في العالم العربي متعددة الجوانب. وبعض الأدبيات تعيدها الى عوامل تاريخية كالتراث الاستعماري او عوامل جيوسياسية او دينية او اجتماعية ثقافية او حتى اقتصادية كتأثير الثروة النفطية في المسار الديموقراطي.

وأكد مقدسي على أن العوامل وراء استمرارية اللاديموقراطية في الدول العربية هي متعددة من سياسية واجتماعية وغيرها، وأن أهمية العوامل المؤثرة في استمرار اللاديموقراطية قد تختلف من بلد إلى آخر لكن يبقى هناك عامل مشترك الى حد كبير في ما بينها هو الصراع العربي الاسرائيلي الذي تسترت خلفه الانظمة العربية من اجل لجم امكانية التحول الديموقراطي ولو تدريجا".
أدار الجلسة وليد قصير أستاذ القانون في جامعة القديس يوسف وشقيق الشهيد سمير قصير، تحدث فيها مدير قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حسن نافعة، مؤكدا استحالة ايجاد حل للصراع القائم، وذلك "لأن العرب يريدون حلّه لكنهم لا يمتلكون الوسائل، ولأن الإسرائيليين يديرونه لكنهم لن يستطيعوا فرض التسوية بالمنظار الذي يريدون>، محذراً من ان الخطوة الآتية هي سعي اسرائيل لطرد الفلسطينيين الذين يعيشون في الداخل.

وليد عربيد، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، استعرض المشهد السياسي داخل الأراضي الفلسطينية لجهة خروج الأزمة السياسية إلى الشارع، وانطلاق حرب التصفيات الجسدية، معتبراً أنه لم يعد أمام حماس إلا بناء قواها الخاصة داخل السلطة.

وليد قصير عقّب على المداخلة معتبراً أن هناك وجهات عديدة للصراع العربي الإسرائيلي ممكنا تناولها، مشدداً على وجود الأمل، وعلى ان النتائج ليست كارثية بالضرورة، في ظل النقاشات التي أثارها وصول حماس إلى السلطة.

ختام الأيام العلمية، كان مع محاضرة حملت عنوان "شهادات في التعبئة الشعبية في العالم العربي"، أدارها وليد قصير أيضاً، وكانت الكلمة الأولى فيها لعصام خليفة، أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية، تناول فيها اسهامات الحركة الطالبية التي حملت قضاياها المطلبية، وعدّد طرق الضغط التي اتبعتها من اضرابات واعتصامات واضراب عن الطعام، مركزا على دور الحركة الثقافيه، أي الصمود مقابل مظاهر الانحلال والخوف خصوصاً بعد اندلاع الحرب. كما تطرق إلى دور الحركة النقابية في الجامعة اللبنانية في ظل كل ما عانته.

كلمة الكاتب والصحافي الياس خوري تناولت تجربتي سمير قصير في منبرين اثنين، هما ملحق "النهار" ومسرح بيروت حيث شكّل النشاط الذي أقيم فيه بمناسبة مرور خمسين عاماً على النكبة، تأسيساً لمعركة الثقافة مع السلطة، معتبراً انه في التجرية الأولى، أي مع ملحق "النهار" "تم كسر سور الصمت". خوري رأى في التناغم بين المثقفين اللبنانيين والسوريين، بلورة لأفق جديد خارج عن أسر الخيار بين الديكتاتور والتيارات الأصولية.

أما الصحافي محمد علي الأتاسي فتناول دور المثقف في مجتمعه، ودوره في التعبئة الشعبية، وتوقف عند النضال المشترك للمثقفين اللبنانيين والسوريين في ضوء السنوات الست الأخيرة، والبيانات العديدة التي وُقّعت، وما تركته من آثار على الشارع السوري، وعلى المثقفين فيه تحديداً.

الأيام العلمية في ذكرى سمير قصير، تناولت محاور لامسها أو تناولها مباشرة في كتاباته. كانت أياما تجسّد محاربة ثقافية فاعلة لاغتياله، وتأكيداً على ان أفكاره أنجبت أخرى أكثر اتساعاً وتفاعلا مع وقائع المرحلة التي تغير فيها الكثير بعد غيابه... وربما هذا وحده ما يضمن ألا يموت الشهيد.

التعليقات