"عرب 48" يوثق معاناة أطفال سوريا اللاجئين في إسطنبول

لعل ما بات يميز معالم العاصمة التركية إسطنبول السياحية مشاهد أطفال سوريا اللاجئين في شوارعها، فما بين الطرقات وعلى الأرصفة يفترشون الأرض ملجأ وهروبا من الحرب الدائرة في وطنهم.

 لعل ما بات يميز معالم العاصمة التركية إسطنبول السياحية مشاهد الأطفال اللاجئين في شوارعها، فما بين الطرقات وعلى الأرصفة يفترشون الأرض ملجأ وهروبا من الحرب الدائرة في وطنهم، بدت نظرة الجوع والحاجة في ملامحهم صارخة من أجسادهم المتهاوية على أمل أن يعطيهم بعض المارة كسرة خبز أو كوب من الحليب. والبعض الآخر منهم يحاولون ادعاء الصلابة والقوة وبأنهم يعملون ليأكلوا من عرق جبينهم. وكأن القدر يحكم على السوريين أن يقدموا أبناءهم للموت وللمعاناة دون أن يكون لأي طفل منهم ذنب سوى أنه سوري يعيش في هذا الزمن.

يرى علماء الاجتماع أن أسباب التسول تعود إلى الفقر والجهل وسوء الوضع المعيشي أو الصحي، وغالبًا ما يكون المتسوّل بحالة صحية سيئة تَظهر لمن يشاهده، كأطراف مبتورة في جسمه، أو شلل، أو إعاقة عقلية. ويلجأ أولئك الأشخاص لاستخدام بعض الكلمات والعبارات لاستدراج كرم المارة "ساعدني أنا بحاجة"، "من مال الله يا محسنين"، "الله يعافيلك ولادك" وكلمات أخرى تستعطف الشخص المقصود وتدفعه لمد يده إلى جيبه.

لكن الأمر في شوارع إسطنبول مختلف، فهناك ينتشر مجموعة من المتسولين السوريين (صبيانًا وكبارًا) معظمهم بحالة صحية جيدة، ولا يظهر على أجسادهم أثر إعاقة أو إصابة، يستدرجون عطف الناس لهم بعبارة " ساعدني أنا من سوريا".

وخلال جولة لمراسلة (عرب 48) إيناس مريح في شوارع إسطنبول التقت بالعديد من الأطفال السوريين، والذين ينقلون قصصا من المعاناة الإنسانية للشعب السوري اللاجىء خارج وطنه.

" ساعديني يا خالة، لا أريد مالا فقط قنينة حليب لأخي الصغير الذي يبكي"، قالت لي مريم(11 سنة) طفلة سورية لاجئة تقطن في شوارع إسطنبول، التقيتها في ساحة مسجد سلطان أحمد، وبدأت تتوسل بكلمات ترددها "من شان محمد يا خالة إشتري لأخي الحليب، الله يخليكي أخي يبكي منذ الصباح ولا نجد ما نطعمه".

سألتها:" ما أسمك ومن أين أنت"؟

أجابت:"إسمي مريم وأنا من الشام هربت من الحرب الدائرة في سوريا".

سألتها: أين عائلتك وأين تسكنين يا مريم؟.

أجابت محاولة لتمتهن قصة لتتقن مهنة التسول التي فُرضت عليها كي تعيش، فتجيبني بكلمات متناقضة " قسم من عائلتي فقدته، أمي قالت لي بأن الجيش النظامي والجيش الحر دمروا سوريا، لكني لا أعرف من وراء الدمار، أما الآن فأنا أسكن تحت الجسور وفي محطات الباصات في شوارع إسطنبول، الأمر يتعلق بحالة الطقس، في فصل الشتاء وعند وجود أمطار أعيش تحت الجسور، وفي الطقس غير الماطر ننام في الحدائق العامة".

لم تتوقف مريم عن السؤال هل ستشترين لي الحليب؟ فتسير معي بخطى كلها أمل نحو أقرب حانوت وفي كل خطوة تستخدم عبارات رجاء لي حتى لا أخذلها، وحينما أمسكت بقنينة الحليب، أخبرتها بأن الله هو من يعطي وليس نحن البشر، فتسألني كيف يمكنها أن تسأل الله أن يعطيها دائما طعام لها ولأمها وأخيها؟ وتقول " أنا لا اجيد التحدث إلى الله، فقط أقرا سورة الفاتحة قبل النوم حتى لا يلدغني شيء وأنا نائمة في الشارع فأجبتها هي تلك العبارات التي تطلبين بها من البشر توجهي بها إلى الله وسيمنحك ما تريدين فالله يفهم كل اللغات ويسمعك حتى لو كنت لا تجيدين الحديث".

"أنا لست بمتسول بل بائع مناديل"

"أنا لا اتسول أنا أبيع المناديل" بكبرياء قالها لي خالد (10 أعوام) من مدينة حلب بحسب ما أخبرنا، خالد كان ينتقل مسرعا بين الناس ويتوه لعرض المناديل خاصته للبيع من شخص لآخر، وذلك في منطقة، كان الغالبية يرفضون شراء المناديل ولكن ترى في وجهه التحدي بمواصلة عرض المناديل لكل عابر طريق، يخبرني خالد:" جئت من حلب التي دمرتها الحرب، ولا تسأليني من دمرها، أنا أريد أن أبيع مناديل كي أتمكن أنا وأهلي من أن نوفر قوت يومنا بعيدا عن موت مدينتنا نريد أن نحيا من جديد". قال كلماته بغضب ويسألني بأسلوب يريد أن ينهي الحديث" هل تشتري مني المناديل بدلا من الأسئلة التي لن تطعمنا الخبز؟"

تتقدم نحوي طفلة في الرابعة من عمرها لا تتكلم فقط تعرض علي بعض المناديل، وما أن أدخلت يدي بجيبي وإذ بطفلة أخرى وصبيان يتقدمان نحوي، ويخبرني فتى يرافق الطفلتين بأنهم عائلة واحدة مكونة من أخوين وأختين وهم يعملون سوية في شوارع منطقة تقسيم في إسطنبول، ويعرض علي الأخ الأكبر علبة مناديل هدية لي ويقول :" النبي عليه الصلاة والسلام قبل الهدية يا خالة، وأنت كنت طيبة مع أختي الطفلة، تفضلي هذه الهدية". أتناول الهدية منه وأشكره :" ويسألني :" من أين أنت؟ أجيب من فلسطين. ويقول " ما حل بشعبكم من تشريد وتهير حل بنا الآن والعالم ينظر عبثا لا من يد تمتد نحونا لإنقاذ الشعب السوري".

عيسى طفل في الثانية عشر من عمره يجلس بجانب محطة القطار بمنطقة "أكسراي" ينظر إليّ بغضب عندما طلبت أن أصوره لأنشر قصة أطفال سوريا اللاجئين في شوارع إسطنبول فصرخ بوجهي رافضا أن أصوره وبغضب قال لي " أنا من الصبح بطلع من البيت وما برجع لنص الليل وعم أتعب بجيب المصاري لأهلي وماحدا إله علاقة فيني، وإنت تدعين بأني متسول أنا أكسب رزقي بعرق جبيني".

محمد ( 12 عاما) يمتهن مهنة جديدة غير مهنة التسول يجلس بجانب الجامع الأرزق ويرشد السائحين والداخلين للمسجد، يراقب من بعيد ويقترب من السائح ليخبره بنصيحة أو معلومة أو يرشده ويتنحى جانبا دون أن يسأل مقابل مادي، عندما دخلت للمسجد الأزرق لاحظت بأنه يتتبع خطواتي فلحق بي وكأنه يخمن ما أبحث عنه وقال :" مصلى النساء من الجانب الخلفي لمصلى الرجال".

أشكره وأبقى مكاني فيعود ليخبرني " يمكنك الوضوء بمتوضىء يقع خارج المسجد لكنه قريب ونظيف جدا". أشكره مرة أخرى وأتوجه للصلاة. خارج المسجد كان يقف محمد مع بعض السائحين ويحاول أن يشرح لهم بكلمات عربية ويدخل عليها بعض الكلمات الإنجليزية، وقال:" أهلا بكم في تركيا". أناديه وأسأله دون خدش كبريائه الشامي الذي تشعر به في كل تعابيره، هل تقبل مني هذا المبلغ البسيط، فاحمرت وجنتاه ومد يده بحياء مطئطىء الرأس شاكرا لي، فأخبره بأنه ساعدني جدا وهذه الليرات ثمن مساعدتك فيبتسم ويعود للبحث عن رزقه بين سائحي المسجد الأزرق".

"أخي جائع جدا يا خالة ساعدينا"

أنطلق من منطقة " أكسراي" إلى منطقة (الفاتح) في إسطنبول وإذ بتظاهرة لشبيبة سورية تهتف ضد النظام السوري، فما أن أخرجت الكاميرا لالتقاط بعض الصور، وإذا بطفلة تركض نحوي وتتوسل قائلة:" خالة والله أخي جوعان، لا أريد مالا إشترِ لي أيّ شيء للأكل، المهم أن أطعم أخي الجائع"، وتسير خلفي تتوسل بكل كلمات الرجاء، لا يهمها سوى ان تحصل على رغيف خبز.

على حافة الطريق في منطقة لالالي يجلس علي، طفل سوري، يبدو في الثانية عشر من عمره، يجلس بجانب عجوز تركي، علي يعمل في تنظيف الأحذية، أما العجوز التركي يضع ميزان أمامه، كان يبدو عليّ بأني تائهة وأنظر إلى الخارطة بيدي فيأتي العجوز التركي فيقول لي" أين تودين الذهاب؟" فأخبره فيفسر لي باللغة التركية كيف الوصول لمنطقة تقسيم، فوقف الطفل السوري لجانبي ويشير إلى أن " العجوز التركي يعرف جيدا المنطقة وبأنه أرشدني إلى الطريق الصحيح". فأمنح الرجل التركي قطعة من الليرات، فيبتسم الطفل السوري دون أن يطلب المال أو التسول، وكنت أكافيء كل طفل أرى بمواقفه العزة والكرامة.

اجتمعن ثلاثة فتايات بالغات الجمال عند كنيسة اية صوفيا يتحدثن بنبرة فيها نوع من " الغنج والدلال" :" ساعدينا يا أختي أعطينا مصاري". سألتهن: ولماذا أعطيكم مال؟ فتجيب إحداهن :" لأنه نحن سوريات" أخبرها بأني فلسطينية وهل يجب أن أمنحكم من المال لكونكن سوريات؟ لم يجبن على السؤال. فسألتهن من دمر سوريا وشرد الشعب السوري؟ فأجبن بضحكة إلا مبالاة ما بنحكي سياسة لأننا نريد أن نعيش".

التعليقات