انهيار اقتصادي.. ما الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه؟

تقدّمت الحكومة اللبنانية، الأسبوع السابق بخطة "إصلاحيّة" تعتمد بالأساس على الاستعانة والاقتراض بصندوق النقد الدولي، من أجل إنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي والذي خلّف وراءه أكثر من نصف سكّان البلاد تحت خط الفقر. 

انهيار اقتصادي.. ما الذي أوصل لبنان إلى ما هو عليه؟

لبنان (أ ب)

تقدّمت الحكومة اللبنانية، الأسبوع السابق بخطة "إصلاحيّة" تعتمد بالأساس على الاستعانة والاقتراض بصندوق النقد الدولي، من أجل إنقاذ البلاد من الانهيار الاقتصادي والذي خلّف وراءه أكثر من نصف سكّان البلاد تحت خط الفقر.

كيف وصل لبنان إلى هذه المرحلة وبات في مصاف الدول الأكثر مديونية في العالم؟ وهل مساعدة صندوق النقد كفيلة وحدها بإعادة دفع عجلة الاقتصاد في بلد صغير تثقل الانقسامات السياسية والطائفية كاهله؟

باشر لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية الاقتراض لتمويل إعادة الإعمار. وأعاد بناء اقتصاد اعتمد بالدرجة الأولى على الخدمات والسياحة وجذب الاستثمارات الخارجية، وهي قطاعات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوضعين السياسي والأمني وتقلباتهما، محليًا وإقليميًا.

من اعتداءات الجيش في لبنان على المتظاهرين (أ ب)

في المقابل، لم تحصل إصلاحات بنيوية في الإدارة والمرافق العامة بسبب البيروقراطية والمحسوبيات ونظام المحاصصة الطائفية الذي تكرّس بعد الحرب.

تراكم الدين تدريجيًا وبالتالي خدمة الدين المترتبة عليه جراء الفوائد المرتفعة، تزامنًا مع انتفاخ فاتورة الإنفاق الحكومي. ورصدت الحكومات على مرّ السنوات اعتمادات مالية لإصلاح قطاع الكهرباء تعادل نحو نصف الدين الخارجي، وفق تقديرات البنك الدولي صيف 2019.

ويشكّل هذا القطاع أبرز مكامن الهدر، وحتى اليوم ما زال اللبنانيون يدفعون فاتورتي كهرباء، واحدة للدولة وثانية لأصحاب المولدات التي يستخدمونها لدى انقطاع التيار.

ازداد العجز في ميزان المدفوعات على مرّ سنوات من النمو المتباطئ وقطاع مصرفي متضخّم يمنح فوائد خيالية على الودائع. وتجاوز الدين العام أكثر من 170% من الناتج الإجمالي المحلي.

تحطيم مصارف لبنان (أ ب)

ومع تراجع احتياطات المصرف المركزي الذي لطالما اعتُبر عرّاب استقرار الليرة منذ عام 1997، بدأت ملامح الانهيار المتسارع منذ عام تقريبًا مع أزمة سيولة حادة وشح في الدولار.

وفرضت المصارف منذ نهاية الصيف الماضي قيودًا على سحب الدولار وتحويل الأموال. وتزامن ذلك مع انهيار الليرة التي لامس سعر صرفها مقابل الدولار عتبة الأربعة آلاف في السوق السوداء الشهر الحالي، بينما السعر الرسمي مثبت على 1507 ليرات.

ولعبت دورًا أساسيًا في هذا التدهور الاقتصادي أزمات سياسية متتالية تخللتها حروب واعتداءات واغتيالات خلّفت انقسامات وشللًا في المؤسسات الدستورية وأرخت بثقلها على آليات صنع القرار ووضع السياسات العامة وخطط التنمية.

تحطيم مصارف لبنان (أ ب)

وبعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في 14 شباط/ فبراير 2005، شهد لبنان انقسامًا بين فريقين أحدهما معارض لسورية ومؤيد للمحكمة الدولية التي أنشئت للنظر في قضية الاغتيال وآخر مؤيد لدمشق ومعارض للمحكمة.

وتبعت ذلك أربع سنوات من عدم الاستقرار السياسي مع تفجيرات واغتيالات ثم حرب تموز 2006 بين إسرائيل وحزب الله. في العام 2008، شهدت البلاد أزمة سياسية حادة انعكست اشتباكات مسلحة في مناطق عدة.

وتجدّد الانقسام عام 2011 على وقع النزاع في سوريا المجاورة، ووقعت اعتداءات وتفجيرات حتى العام 2013. وبقيت البلاد إثر انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان في أيار/ مايو 2014، من دون رئيس لعام ونصف العام.

ويلخص مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط في أحد منشوراته الأزمة الاقتصادية بأنها "في جوهرها أزمة حكومة مُنبثقة من نظام طائفي يعاني من خلل بُنيوي، ما حال دون صنع سياسات عقلانية وسمح بانتشار ثقافة الفساد والهدر".

وأقرّت الحكومة في نهاية نيسان/ أبريل خطة "إصلاحية" وطلبت مساعدة صندوق النقد الدولي. وتأمل بالحصول على أكثر من 20 مليار دولار. وتقترح الخطة التقشفية الممتدة على خمس سنوات إصلاحات على مستويات عدة بينها السياسة المالية وميزان المدفوعات والبنى التحتية، وإعادة هيكلة للديون والمصارف.

بنك مشتعل (أ ب)

لكنها تلحظ إجراءات موجعة تطال المواطنين مباشرة على غرار تجميد التوظيف في القطاع العام وخفض عدد المتعاقدين وعدم ملء آلاف الوظائف بعد تقاعد من يشغلها باستثناء المواقع الحساسة. وتعتمد تقدير سعر الصرف بـ3500 ليرة مقابل الدولار.

وتقدم الخطة "تشخيصًا" عن حقيقة الأزمة، إلا أنها "لا تعد متكاملة"، وفق ما يشرح مدير "معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية" ناصر ياسين لفرانس برس.

ويقول إنها "هي محاولة حلّ للأزمة الشائكة عبر أدوات مالية ومحاسبية للحصول على الدعم الخارجي عبر صندوق النقد، بينما تفرض شروطًا قاسية على مستوى التقديمات الاجتماعية والإجراءات التقشفية".

وبالتالي، "ومع أخذها وصفة الصندوق كاملة"، فإن "الفئات الاجتماعية الفقيرة والطبقة الوسطى هي من ستدفع الثمن: مع توقع تضخم مرتفع وانكماش في الاقتصاد".

لا يبدي ياسين تفاؤلًا إزاء إمكانية تطبيق الخطة التي يرى أنها كانت تحتاج تشاورًا مع فئات واسعة كونها "تعيد إنتاج الاقتصاد وتصميم الإدارة المالية للدولة" بعيدًا عن الاقتصاد الحر الذي لطالما ميّز لبنان وشكّل عامل جذب للرساميل.

لكن باريس التي لعبت دورا أساسيا خلال السنوات الماضية في حشد دعم من جهات مانحة للبنان، رحبّت بالخطة ودعت إلى تنفيذ فوري للإصلاحات.

ويجمع المحللون على أن تطبيق الخطة يجب أن يترافق مع عقلية جديدة في إدارة الدولة، بعيدًا عن منطق الصفقات والمحسوبيات والتسويات القائمة منذ عقود.

(أ ب)

ويقول الباحث في الشؤون المالية والمصرفية في جامعة دبلن، محمود فاعور، إن تطبيق الاصلاحات يعتمد "على مدى تعاون الطبقة السياسية عبر تشريعها في البرلمان"، مبديًا قلقه من أن تحول "المشاحنات السياسية" دون ذلك.

وتتطلّب بنود عدة كهيكلة الدين وفرض ضرائب جديدة وقبول دعم مالي موافقة البرلمان الذي دعا رئيس الجمهورية رؤساء الكتل فيه إلى اجتماع الأربعاء لاطلاعهم على مضمون الخطة. ورفضت جمعية المصارف وشخصيات سياسية معارضة، الخطة.

ولا تتمتع الحكومة بحاضنة شعبية، ويقف متظاهرون غاضبون لها بالمرصاد، وتحظى بدعم قوى رئيسية أبرزها كتلة عون وحزب الله. ويقول فاعور إنه "يمكن للبنان أن يقف مجددا مع إصلاح متين يحظى بدعم دولي، لكن القلق الرئيسي هو ما إذا كانت السياسة الداخلية ستسمح بتنفيذ أي خطة ذات مصداقية".

التعليقات