تقرير فيتزجيرالد يمهّد لقرار من مجلس الأمن بتحقيق دولي

اتهام أجهزة الأمن اللبنانية بالإهمال المنظّم وسوريا بالتسبب في التوتر السياسي* دمشق تتهم اللجنة باعتماد منطق المعارضة وتحذر من مخاطر الاستنتاج

تقرير فيتزجيرالد يمهّد لقرار من مجلس الأمن بتحقيق دولي

في اسوأ الحالات، الدولتان اللبنانية والسورية هما في قفص الاتهام، وفي احسن الحالات هما في دائرة الشبهات. ‏

هي الخلاصة الأولية لتقرير لجنة تقضي الحقائق الدولية الذي تسلمه الامين العام للأمم المتحدة كوفي انان امس، ووزعه على اعضاء مجلس الامن ووسائل الإعلام وأطلع القيادتين في دمشق وبيروت على مضمونه مسبقا. ‏

ومهما كانت الحال، فإن تقرير لجنة تقصي الحقائق الذي وصفه مسؤول في الأمم المتحدة بأنه "واحد من اقوى تقارير الأمم المتحدة على الاطلاق"، مهد الطريق لقرار من مجلس الامن الدولي بإجراء تحقيق دولي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ‏

فالتقرير يثير علامات استفهام كثيرة حول أداء ودور اجهزة الامن اللبنانية والسورية في ما قبل اغتيال الرئيس الحريري، وفي إجراءات التحقيق التي جرت لاحقا، ليستنتج ان الاجهزة اللبنانية والسورية ساهمت في عدم "تأمين مستوى امني مقبول للمواطنين في لبنان وفي إشاعة ثقافة التخويف والافلات من العقوبات". ‏

لكن تقرير لجنة الايرلندي بيتر فيتزجيرالد لا يوجه اتهاما صريحا لأي من الطرفين، اللبناني او السوري، بالمسؤولية عن جريمة الاغتيال. الا انه مع ذلك لا يبرئهما ويثير شكوكا كثيرة حول دورهما، وينضم، في فقرة مثيرة من شأنها تأجيج صخب الجدل على الساحة اللبنانية، الى المطالب التي تطرحها المعارضة، بقوله ان "استعادة أجهزة الامن اللبنانية لنزاهتها واستقلاليتها ‏

هي امر حيوي من اجل بسط الامن والاستقرار في البلاد"، قبل ان يضيف ان "اي جهد ثابت من اجل اعادة بناء وتشكيل وتأهيل اجهزة الامن اللبنانية سيكون ضروريا من اجل التوصل إلى هذه الغاية". ‏

وأبلغ الرئيس اميل لحود انان الذي اتصل به هاتفيا ضرورة القيام بكل ما يلزم للكشف عن الحقيقة في الجريمة في اقرب وقت ممكن. ‏

وبطبيعة الحال، لم تكن دمشق مرتاحة لإيراد اسمها في تقرير فيتزجيرالد والاشارة إلى دورها بشكل او بآخر في وقوع الجريمة، وانتقد السفير السوري لدى مجلس الامن فيصل المقداد عمل اللجنة قائلا ان فيتزجيرالد اعتمد منطق المعارضة وانحاز الى جانب ضد الآخر ما يرفع من مستوى التوتر في لبنان. وإذ اكد المقداد ان من الجنون اتهام سوريا بالتورط في اغتيال الحريري، قال ان رئيس الوزراء الراحل كان "حليفا كبيرا لسوريا وتعاونا معه طوال 15 سنة". وخلص الى القول الى ان تقرير تقصّي الحقائق "لا صفة قضائية له".
وذكر تقرير اللجنة، أنه كان هناك "نقص استئنائي في الالتزام" من قبل السلطات اللبنانية في التحقيق الذي أضاف انه لم يجر "وفقا للمعايير الدولية". وقال إن أجهزة الأمن اللبنانية "تفتقد ثقة الشعب (اللبناني) الضرورية لكي تكون نتائج (تحقيقاتها) مقبولة". ‏

وأوضح تقرير اللجنة، التي تألفت من خبراء في المتفجرات والطب الشرعي والقانون، أن "عملية التحقيق التي قامت بها السلطات اللبنانية فيها خلل كبير وهي لم تكن لديها لا القدرة ولا الرغبة في التوصل الى نتيجة ذات صدقية". ‏

وذهب تقرير اللجنة، التي أنهت تحقيقها في 15 آذار الماضي في بيروت التي كانت وصلتها في 24 شباط، إلى حد المطالبة بلجنة دولية مستقلة تملك صلاحية استجواب الشهود والقيام بتفتيش وغيرها من المهام. وقال إن "تحقيقا دوليا مستقلا هو أمر ضروري للوصول إلى الحقيقة"، لكنه أشار إلى أن تحقيقا كهذا سيكون غير ممكن من دون تعاون لبنان. ‏

واعتبر أن "من المشكوك فيه" ان تتمكن مثل هذه اللجنة المستقلة من القيام بمهمتها على أكمل وجه "ما دامت الهرمية الحالية للأجهزة الامنية اللبنانية قائمة"، مشيرا إلى أن "استعادة أجهزة الأمن اللبنانية لنزاهتها واستقلاليتها هي أمر حيوي من اجل بسط الامن والاستقرار في البلاد". وأضاف ان "أي جهد ثابت من اجل إعادة بناء وتشكيل وتأهيل أجهزة الأمن اللبنانية سيكون ضروريا من اجل التوصل إلى هذه الغاية". ‏

ولم يلق التقرير المسؤولية على أية جهة في الجريمة، لكنه قال إن "من الواضح أن الاغتيال جرى في سياق سياسي وأمني تميز باستقطاب حاد حول النفوذ السوري في لبنان"، مشيرا إلى أن سوريا تتدخل في حكم لبنان "بطريقة ثقيلة وغير مرنة". وأضاف انه "من دون الإضرار بنتائج التحقيق، من الواضح أن هذه الأجواء وفرت الستارة الخلفية لاغتيال السيد الحريري". ‏

وقال التقرير إن "الأجهزة الأمنية اللبنانية وأجهزة الاستخبارات السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية في الخلل الأمني والحماية والقانون والنظام في لبنان". وأضاف ان أجهزة الأمن اللبنانية "اظهرت إهمالا جديا ومنظما في القيام بمهمات يقوم بها عادة جهاز امني وطني محترف"، وقال "من هنا، فشلت في تأمين مستوى امني مقبول للمواطنين في لبنان وساهمت في اشاعة ثقافة التخويف والافلات من العقوبات". ‏

وقال التقرير إن زنة العبوة التي أودت بحياة الحريري تبلغ ألف كيلوغرام من مادة ال"تي أن تي"، وضعت في الغالب فوق الأرض. ‏
وكان أنان قد تسلم التقرير ظهر أمس بتوقيت نيويورك (السابعة مساءً بتوقيت بيروت) لكنه لم يسلمه إلى أعضاء مجلس الأمن إلا في الساعة الرابعة والنصف بتوقيت نيويورك (الحادية عشرة والنصف بتوقيت بيروت). ‏

وتحدثت أنباء أن أسباب هذا التأخير تعود إلى أن انان اتصل بالرئيس إميل لحود لإبلاغه فحوى التقرير قبل عرضه على أعضاء المجلس، بعدما تبيّن أنه كتب بلغة رجال الشرطة لا بلغة دبلوماسية تراعي القواعد والأعراف المتبعة في العلاقات الدولية. ‏

وأرفق انان رسالة بالتقرير، لدى توزيعه على أعضاء مجلس الأمن، صادق فيها على التوصيات التي وردت فيه. ‏

وقال المندوب البريطاني لدى مجلس الأمن، ايمري جونز باري "أتوقع أن يدعم المجلس فكرة وجوب إجراء تحقيق مستقل". ‏
قال مندوب سوريا في الأمم المتحدة السفير فيصل المقداد ان "التقرير اتخذ جانبا ضد آخر" في لبنان، معتبرا ان "لا صفة قضائية له"، ومشددا على انه "يرفع مستوى التوتر" في لبنان. ‏

وقال المقداد، في مؤتمر صحافي عقده في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، "كان يجب على فيتزجيرالد ان يكون اكثر موضوعية ودقة في تحديد الجوانب" التي تطرق إليها في تقريره، و"التي قد تقود إلى عواقب" سلبية، مشيرا الى انه كان يتعين "ألا يكون التحقيق سياسيا" في جريمة اغتيال الحريري. "فتزجيرالد استند إلى اقوال المعارضة اللبنانية وكان يمكن له ان يسأل جهات اخرى لها وزنها على الساحة اللبنانية". ‏

واعتبر المندوب السوري ان "التقرير لا صفة قضائية له"، موضحا ان التحقيق الذي اجري في بيروت "يرفع مستوى التوتر" في لبنان. وقال "التحقيق يجب ان يقوم به المكلفون بذلك في لبنان". وأضاف "ادعو الشعب اللبناني الشقيق إلى التروي" وأن "ينتظروا نتائج التحقيق الذي تجريه السلطة اللبنانية". ‏

سئل المقداد: هل سوريا على استعداد للتعامل مع لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري، فأجاب "هناك جانبان. المسؤولية في اطارها القانوني لم تتحدد بموجب التقرير، ومسؤولية قبول لجنة تحقيق دولية، من عدمه، يعود إلى الحكومة اللبنانية، وسوريا لا تتدخل في هذه المسألة". ‏

وتابع المقداد "اعتقد ان ما اثار الانقسام (في لبنان) هو القرار الرقم 1559 الذي اقر بغالبية بسيطة، وهو يظهر كيف انه يتعيّن على مجلس الامن ان يعمل بمسؤولية". ‏

ورفض المقداد بشدة اتهام سوريا باغتيال رئيس الوزراء السابق. وقال "الحريري كان حليفا كبيرا لسوريا، وتعاونّا معه في 5 ولايات" في الحكومة، و"وضعنا معه اسس الازدهار" في لبنان. وأضاف "من الجنون ان يتهم احد سوريا بالتورط في اغتيال الحريري". ‏

وتابع "أرفض رفضا قاطعا أي اتهام" لسوريا باغتيال الحريري، مضيفا "ولا يمكن لسوريا ان تقدم على عمل مماثل". وأوضح "أنا واثق من ان لا علاقة لبلادي بهذا العمل الاجرامي". ‏

وأوضح المندوب السوري، ردا على ما ورد في التقرير، "اود ان اؤكد ان القوات السورية كانت قد انسحبت من بيروت منذ وقت طويل، والحكومة اللبنانية كانت تمارس مسؤوليات الامن هناك"، معتبرا ان "وجود القوات السورية اكثر من رمزي" في لبنان. ‏

وفي حديث إلى قناة "الجزيرة"، قال المقداد "الامين العام كوفي انان اكد خلال إحالته التقرير الى مجلس الامن انه (التقرير) لا يشكل أي حكم قانوني في أبعاده وفي ما يتضمنه". وأضاف ان فيتزجيرالد "قائد شرطة كان يمكن له ان يقوم بعمل جيد لو لم يقحم بنفسه في العلاقات بين الدول". ‏

وتابع "في مقدمة التقرير الكثير من الكلام، الذي اعتمد بشكل منحاز الى جانب لبناني ولم يأخذ برأي جانب آخر له وزنه". وقال "لا اود ان اضلل الرأي العام. نحن في سوريا نقول دائما الحقيقة"، مشيرا إلى ان "بعض المشاريع بدأ تداولها قبل سفر فيتزجيرالد الى لبنان". ‏

واعتبر المقداد ان "التقرير منحاز بشكل سافر ويجانب الحقيقة"، مشيرا الى انه "سيؤدي إلى زيادة الشرخ في لبنان وتوجيه الاتهام الى اطراف بعيدة كل البعد" عن التورط في جريمة الاغتيال. ‏

سئل المقداد عما اذا كان التقرير يشكل زخما لقانون "محاسبة سوريا"، فأجاب "لا اود ان اتحدث عما يجري في اروقة الكونغرس الاميركي وعدائه لسوريا وانحيازه الكامل إلى اسرائيل"، مشددا على ان "سوريا دخلت إلى لبنان لوقف الحرب". ‏

وقال المقداد "سوريا تعاملت مع الحريري بشكل رائع جدا، مما امكنه من إنجاز الأمور التي حققها في بيروت" وسائر المدن اللبنانية. وأضاف "صدمت سوريا عندما سمعت نبأ اغتيال الحريري"، مكررا ان "القوات السورية لم تكن موجودة" في بيروت حينها، "لأنها كانت قد انسحبت منذ وقت طويل". ‏

وأوضح "ان ما عرى الوضع اللبناني ويقسم اللبنانيين هو القرار الرقم 1559، الذي اقر بغالبية بسيطة واعترضت عليه دول رئيسية" في مجلس الامن. وأشار الى ان "نوايا البعض لا تخدم الشعب اللبناني وتهدد الامن والاستقرار في المنطقة"، لافتا إلى ان ثمة "يداً مشبوهة تحاول زرع الفتنة في لبنان، بهدف زرع الشقاق مع سوريا". ‏

وقال المندوب السوري "سنناضل لحماية مصلحتنا القومية، ولتحرير" الجولان ومزارع شبعا من الاحتلال الاسرائيلي. وأضاف "اشار (الرئيس السوري بشار) الأسد الى ان لا مطامع لسوريا في لبنان"، وان دمشق لا تريد "سوى ما يخدم الشعب اللبناني، ونحن نعمل يداً بيد مع اللبنانيين بشأن الامن" في لبنان. ‏

وذكرت رئاسة الجمهورية اللبنانية، في بيان أمس، أن الرئيس اميل لحود "تلقى مساء أمس اتصالا من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان أطلعه خلاله على الخطوط العريضة للتقرير الذي تسلمه من رئيس الفريق الدولي لتقصي الحقائق حول جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وقد طلب الرئيس لحود من الأمين العام اتخاذ ما يلزم لكشف حقيقة جريمة الاغتيال بأسرع وقت ممكن، شاكرا لأنان الاهتمام الذي يبديه للوضع في لبنان".

التعليقات