السترات الصفراء الفرنسية: هل تضرب موجة جديدة من الشعبوية في أوروبا؟

للوقوف على مآلات حراك السترات الصفراء في فرنسا والوضع السياسي الحالي، استطلع موقع "عرب 48" مجموعة من آراء الباحثين والمتابعين العرب المقيمين في فرنسا لحراك السترات الصفراء.

السترات الصفراء الفرنسية: هل تضرب موجة جديدة من الشعبوية في أوروبا؟

حراك "السترات الصفراء" في فرنسا (أ.ب)

للسبت الخامس على التوالي، تظاهر الفرنسيون في حراك السترات الصفراء في عدة بلدات أبرزها العاصمة باريس التي شملت بعض أحداث العنف.

المظاهرات التي بدأت احتجاجًا على قرار الحكومة برفع سعر المحروقات تحولت تدريجيًا من احتجاجات مطلبية خدماتية إلى احتجاجات سياسية تستهدف طبيعة النظام السياسي.

وعلى الرغم من استجابة الحكومة لعدد من المطالب واستعدادها للحوار والتفاوض، تبدو مهمة إيجاد تمثيل سياسي واضح للمطالب والمتظاهرين أمرا غير متحقق بسبب طبيعة الحراك الرافض للتنظيم السياسي والمتشكل من عدة مجموعات وشرائح منها اليمين في ظل تخوفات بموجة جديدة للشعوبية تضرب قلب القارة الأوروبية.

للوقوف على مآلات حراك السترات الصفراء في فرنسا والوضع السياسي الحالي، استطلع موقع "عرب 48" مجموعة من آراء الباحثين والمتابعين العرب المقيمين في فرنسا لحراك السترات الصفراء.

كواكبي: المقارنة مع الثورات العربية ليس في محله

في حديث لـ"عرب 48" مع المدير التنفيذي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس، سلام كواكبي، قال إن "ما يميّز الحراك هو أنه جاء من الأطراف إلى العاصمة إذ أن أهل العاصمة لم يشاركوا في هذا الحراك. والمقصود بالأطراف هو الريف والمدن غير العاصمة، وهو حراك من دون تنظيم واضح أو جسم سياسي يمثله، يضم عناصر من اليمين المتطرف واليسار المتطرف دون أن يتمكنوا من فرض رؤيتهم على الحراك، وهو أمر سلبي وإيجابي في نفس الوقت".

سلام كواكبي

وأشار إلى أن التغطية الإعلاميّة الضخمة في وسائل الإعلام لما يحصل يوحي بأن الحراك ضخم وهو ليس بتلك الصورة الدقيقة، وقال إن "أكبر مشاركة كانت 300 ألف شخص على مستوى كل فرنسا، وهي ليست بمستوى إضرابات عام 1995 أو أحداث الضواحي عام 2005، وباريس لم تحترق خلافًا لما يُروّج في بعض وسائل الإعلام".

وأضاف كواكبي أن "ما يميّز هذا الحراك أيضًا هو تعامل الحكومة معه وتطبيق مبالغ للقانون، وأن الشرطة كانت باردة جدًا مقارنة بأحداث أخرى في قمع المتظاهرين، وهناك 32 قضية لتحقيقات في تجاوزات قام بها أفراد من الشرطة. هذا الأمر دفع بعض الأحزاب السياسيّة من اليمين واليسار للقول إن الشرطة تساهلت مع مظاهر التخريب والتكسير بهدف إظهار أن الحراك عنيف لإبعاد الناس عنه وإفشاله".

ضد النخب

كما أشار كواكبي إلى أن لفظ النخب والخروج ضدها هو من سمات هذا الحراك البارزة، وقال إن "فرنسا تتميّز بإنتاج نخب بمستوى عالٍ جدًا، والمدرسة العليا للإدارة يتخرّج منها كل أصحاب الشأن السياسي. الشعب العادي البسيط لا يفهم لغة هذه النخب التي تتحدث عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ماكرون جاء بخطاب أنه هو الذي يعرف مصلحة الشعب ووعدهم بإصلاحات، لكنّه لم يتوجه بلغة مبسّطة للناس وتعامل بفوقية. الآن الجميع يعترف أن هذا الخطاب العالي والتقني كان خطأ وبدأت مبادرات من الحكومة لحوار مع مؤسسات المجتمع المدني، والقيام بإصلاحات ستكلّف خزينة الدولة 15 مليار يورو، ورغم ذلك ما زال الناس يرونها ضعيفة".

والحراك الذي بدأ برفض زيادة سعر المحروقات تحوّل إلى 42 مطلبًا آخر، جزء منها يتعلّق في المنظومة السياسيّة كما يقول كواكبي: "هناك شيء جاد متعلق بالديمقراطية المباشرة ومطالبات بديمقراطية مباشرة وليست ديمقراطية تمثيلية كما هو الآن. الحراك يريد ديمقراطية مباشرة، وهذا يعني أنّه في حال استطاعوا جمع عدد معين من التوقعات للمطالبة بتعديل قوانين وتغيير الدستور فيستطيعون ذلك من خلال إجراء استفتاء شعبي، وهذا برأيي خطير في أوروبا. فرنسا ألغت حكم الإعدام، وممكن من خلال الاستفتاء إعادته، كذلك يمكن منع الحجاب. الاستفتاء المباشر خطير ويمس المجتمع مباشرة، رأينا ما حصل في البريكست، فهل هو جيد؟ موجة الشعوبية والتطرف السائدة سوف تستفيد من الديمقراطية المباشرة، وعلى النخب السياسية الواعية التحرك".

روسيا بالمرصاد واليمين يتصدر

وحذّر كواكبي من عامل آخر خطير يجري من خلال مظاهرات السترات الصفراء ألا وهو الاستغلال والتدّخل الروسي للأحداث، وقال: "ليس الأمر نظرية المؤامرة، فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وبوتين يتوعد بتدمير الاتحاد الأوروبي، لذلك نراه قريب من كل الحركات الانفصالية في أوروبا، والآن يستغل تيار السترات الصفراء. المخابرات الفرنسية فتحت تحقيقًا لفحص آلاف الحسابات الوهمية في وسائل التواصل الاجتماعي التي تبث الأخبار الكاذبة حول المظاهرات خلال الأسابيع الأخيرة. يوجد مصلحة لروسيا في زعزة أوروبا، ونراها الآن قريبة من حكومتي إيطاليا والنمسا اليمينيتين. بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة فإن زعيمة اليمين المتطرف، ماري لوبان، تتصدر الأحزاب السياسية الفرنسية فيما لو جرت الانتخابات هذه الأيام، وفي حال سألت الناس بشكل شعبوي هل تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي كي لا يُفرض عليك سياسات وضرائب جاءت من الخارج، الناس سوف تؤيد ذلك".

وختم كواكبي بالتوجه للمتابعين العرب لمظاهرات السترات الصفراء، بأن لا يقعوا في فخ المقارنة مع الثورات العربية، "ليست الحالة الفرنسية نفس الحالة العربية كي تُقارن، لا من ناحية الأنظمة أو طبيعة القمع أو حتى مطالب الناس".

ليرر: تخوفات من 5 نجوم إيطالية في فرنسا

تخوّفات كواكبي أكدتها لنا أيضًا الناشرة والإعلامية ياعيل ليرر في حديث لـ"عرب 48"، وقالت إن "هناك عدّة مشاكل في حراك السترات الصفراء وفي عدّة مستويات: أولًا، هذا الحراك يذكّرني باحتجاجات تل أبيب عام 2011. فمن خرج ليس الفقراء، بل الفرنسيين أصحاب البشرة البيضاء. عدد أصحاب البشرة السوداء أو العرب في المظاهرات قليل جدًا، والناس في الضواحي أفقر ممن يخرج في مظاهرات السترات الصفراء. ودائمًا لدي تساؤلات عندما تخرج هذه الطبقة وليس الطبقة الفقيرة إلى الشارع حول مطالب العدالة الاجتماعية المطروحة. ثانيا، هناك أوساط ممن يخرجون في المظاهرات من اليمين واليمين المتطرف والعنصريين، وكثير منهم من يحمل نظريات المؤامرة. فمثلًا الأسبوع الماضي انتشر في صفحات في 'فيسبوك' أن عملية ستارسبورغ يقف من ورائها ماكرون كي يشتت انتباه الناس وينهي الاحتجاجات".

ياعيل ليرر

إضافة إلى ذلك، أشارت ليرر إلى سبب إضافي ثالث يجعلها متوجسة من حراك السترات الصفراء، وقالت إن "المشكلة الأكثر أهمية من هذا أنه لا توجد طلبات واضحة ولا يوجد تمثيل سياسي. نرى ناس في الشوارع ويقومون باحتجاج، الحكومة قالت بدورها إنها تريد أن تسمع وتتفاوض، ومن حاول أن يكون ممثلًا للمطالب وتكوين جسم للتفاوض، حُرض ضده وهُدد بالقتل. هم ضد التمثيل السياسي واللعبة الانتخابية السياسية".

غضب من دون سياسة

وأكدت ليرر أن ما يجري ليس ثورة في الوقت الذي لا يوجد فيه معارضة وطلبات مع تواجد لليمين متطرف، "أنا خائفة من سيناريو حركة الخمس نجوم الإيطالية وترامب والبريكست. في البداية نرى الاحتجاجات والغضب ومن ثم اليمين يفوز. مع العلم أن الوضع الاقتصادي في فرنسا أفضل من كل مكان آخر، حتى مواجهتها للأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 كان أفضل من غيرها. الفرق بين الأغنياء والفقراء في آخر 15 سنة حول العالم ازداد إلا في فرنسا بقي ثابتًا كما هو".

ورأت ليرر أن المجتمع الفرنسي أكثر حساسيّة تجاه قضايا العدالة الاجتماعية ويريد أكثر مساواة، "فرنسا الجمهورية يعني أن المواطن في المركز والمساواة أمر أساسي. الناس تخرج للشارع وتطالب بالمزيد لذلك لديهم ظروف اجتماعية أفضل من أي مكان آخر"، مؤكدة أنه عندما يكون حركة من هذا النوع يكون لديها تمثيل. وأضافت أن "الحكومة لم تقمع وقالت نريد الحديث وقامت بخطوات إصلاحية، لكن لا يوجد تمثيل وطلبات واضحة، وكأنه يوجد غضب عام فقط. هذه ليست سياسة وليست حركة سياسية".

وأشارت ليرر إلى أنه توجد طلبات عامة جدًا، وأن لكل مجموعة مطالب أخرى، "يطالبون بعدالة اجتماعية، لكن ما معنى العدل الاجتماعي في فرنسا؟ الاحتجاج بدأ ضد الضرائب، والآن هناك مطالب بالمزيد من الخدمات الاجتماعية. فإذا أردنا المزيد من الخدمات يجب أن ندفع ضرائب. أنا مع أن تدفع الناس ضريبة. هناك طلبات الجميع يطالبها وقبل السترات الصفراء وهي تدفيع الشركات الكبيرة مثل جوجل وفيسبوك ضرائب أكثر، لكن المشكلة أن هذه الحركة تخرج ضد كل شيء، ضد الصحافة وضد النخب وضد الطبقة السياسية. هناك سياسيون من كل الطبقات كيف نخرج ضدهم كلهم؟ هذه شعبوية قد تودي ببريكست جديد أو ترامب جديد أو خمس نجوم إيطالية جديدة في فرنسا".

عيساوي: ماكرون في مأزق سياسي

أمّا الكاتب والصحافي أحمد عيساوي فتحدّث لـ"عرب 48" عن أسباب تراجع عدد المحتجين في السبت الخامس (الماضي) للسترات الصفراء، محيلًا ذلك لعدّة عوامل منها خطاب ماكرون وتراجعه عن عدد من الإجراءات وإعلانه عن استعداده للحوار، والاعتداء في مدينة ستراسبورغ على سوق الميلاد الذي خلّف أربعة قتلى، والعامل المناخي، مضيفًا "إلّا أن الحراك ما زال مستمرًا، فما يجمع الغالبية الساحقة من المشاركين أنهم لا يملكون بطاقات حزبية. هم مواطنون من الأطراف والأرياف يعملون في الفلاحة والزراعة والحرف اليدوية وسكك الحديد وسائقي الشاحنات، معظمهم يعمل أكثر من 35 ساعة في الأسبوع (وهو عدد الساعات القانوني) يمكن أن نصفهم بالطبقة العاملة البيضاء، إذ لا يوجد عرب أو أصحاب البشرة السوداء في الاحتجاجات معهم. وهذه أول مرّة تكون المواجهات مع الشرطة منذ زمن طويل ليس مع المسلمين أو السود، بل مع الطبقة البيضاء التي انتفضت على المركز وعلى العاصمة وعلى البروفايل النيوليبرالي لماكرون، وهم أكثر قومية ومؤيدون للخروج من الاتحاد الأوروبي".

إلا أن مع كل ما يظهر أنه يجمع المحتجين ويوحدهم، لا يمكن التغاضي عن التشظي الكبير داخل هذه المجموعات بحسب عيساوي، "هم ليسو جسمًا واحدًا ولا يرغبون بالتنظم السياسي. الأغلبية التي تريد تنظيما سياسيا هم اليمين واليمين المتطرف. اليسار المتطرف والأناركيين لا يريدون تنظيما سياسيا. المطالب هي الاستفتاء على شرعية ماكرون، والعودة عن إلغاء الضريبة عن الثروة، التي اعتبرت هدية للأثرياء".

التفاوض مع أرباب العمل

وذكر عيساوي أنه في إيطاليا بدأت احتجاجات شعبية وجرى بعدها تحالف مع اليمين المتطرف الذي وصل للسلطة، وقال إنه "لا أستبعد أن ينتظم أعضاء السترات الصفراء على مبادئ سياسية، لكنها لا تحصل حتى الآن لأنهم مختلفون جدًا فيما بينهم على الأمور المطلبية، لكن هذا الأمر قد يجلب ماري لوبان للسلطة. آخر إحصاء من المركز الوطني يفيد أنه في حال تشارك السترات الصفراء في الانتخابات الأوروبية القادمة (دون التحالف مع أحد) عام 2019 سوف تحصل على %8.5 وهي نسبة عالية. هذا يعني في حال قاموا بتحالفات ممكن أن يفوزوا في البرلمان الأوروبي. وهناك إحصاء آخر يفيد أنه في حال كانت الانتخابات اليوم ستفوز ماري لوبان".

أحمد عيساوي

وأضاف عيساوي أن هناك دعم وتأييد من الطبقة الوسطى لهذا الحراك حيث "تقوم هذه الطبقة بتوزيع البيانات وينشطون في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم أيضًا يطلبون بالمزيد من الخدمات الاجتماعية، والشعب الفرنسي عمومًا كثير المطالب من الحكومة، والنظام الاجتماعي في فرنسا مثل الدول الإسكندنافية. وفي حال مُست هذه الخدمات مثلما جرى مع المتقاعدين سوف تراهم يحتجون، وعندما تراجعت الحكومة عن الإجراءات التي كان من المفترض أن تزيد المساهمة الاجتماعية التي يدفعها المتقاعدون، انسحب المتقاعدون من حراك السترات الصفراء وعادوا إلى منازلهم".

ويرى عيساوي أن الرئيس الفرنسي، ماكرون، أمام مأزق سياسي ليس بالسهل، خصوصًا أنه سوّق نفسه في حملته الانتخابية على أنه من خارج النظام الحزبي القائم في اليسار وفي اليمين، لكنه يبدو الآن أنه سيكون ضحية الشعوبية الجديدة في فرنسا، وليتجنب ذلك، قال عيساوي إنه "على ماكرون الذهاب إلى التفاوض مع أرباب العمل في فرنسا ويمنح حقوقا أكثر للعمال، لأن اليمين الآن يستغل ما يجري واليسار غير موجود. أين مثلًا الحزب الشيوعي الفرنسي؟ نكاد لا نرى له أثرًا في كل ما يجري".

التعليقات