أفريقيا: الاستعمار الفرنسي الجديد للوصول للمواد الخام الإستراتيجية

تستورد فرنسا معظم احتياجاتها من اليورانيوم من النيجر والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تتمتع باريس بعلاقات مميزة. وهناك علاقة وثيقة بين أهمية هذه الدول وبين وجود فرنسا السياسي ـ الاقتصادي البارز والمستمر في تلك المناطق

أفريقيا: الاستعمار الفرنسي الجديد للوصول للمواد الخام الإستراتيجية

الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس جمهورية أفريقيا الوسطى في مدينة ليون الفرنسية، الأسبوع الماضي (أ.ب.)

رغم نيل المستعمرات في افريقيا، التي كانت فرنسا تحتلها، استقلالها من الناحية النظرية، إلا أن فرنسا ما زالت تواصل استخدام قدر كبير من القوة فيها. وأنشطة فرنسا الاستعمارية الجديدة في نطاق منطقة بلدان الجماعة المالية الإفريقية "CFA"، تأسست على نموذج سائد منذ 60 عاما تقريبا، يخدم مصالح باريس الاقتصادية ـ السياسية والاجتماعية الثقافية.

والسبب الأساسي لهذا الوضع هو اعتماد فرنسا المفرط على المصادر الأفريقية الفرنكوفونية (أي الناطقة بالفرنسية) لتوريد المواد الخام الرخيصة. وتوفير الوصول الحر والمستمر للمواد الخام الإستراتيجية، التي تعد ذات أهمية حيوية لتطوير الطاقة النووية وتأمين تلك المواد بشكل منتظم، هو الهدف الرئيسي لسياسة فرنسا في أفريقيا.

وتستورد فرنسا، منذ سنوات طويلة، معظم احتياجاتها من اليورانيوم من النيجر والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى، حيث تتمتع باريس بعلاقات مميزة مع تلك الدول. وهناك علاقة وثيقة بين أهمية الدول المذكورة المزودة فرنسا باليورانيوم، وبين وجود فرنسا السياسي ـ الاقتصادي البارز والمستمر في تلك المناطق.

وقد حافظت فرنسا على روابطها العميقة، بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، مع مستعمراتها السابقة في أفريقيا حتى بعد نيل الأخيرة استقلالها، لا سيما أن هذه المستعمرات تعرف حاليا باسم "أفريقيا الفرنسية".

وفي هذا السياق، وضمن إطار مصالحها، استخدمت فرنسا هذا الأسلوب بشكل فعّال من أجل الوصول إلى الأسواق والمصادر الطبيعية في المستعمرات السابقة.

ولا شك أن لأفريقيا دورا حيويا في إزالة المخاوف التي تساور فرنسا بخصوص بقائها. فعلى سبيل المثال، تؤمن الطاقة النووية في فرنسا 80% من إنتاج الكهرباء، وبالتالي تكون البلاد بحاجة مستمرة لليورانيوم من أجل إنتاج الطاقة النووية، ومن ثم يتم توفير جزء كبير من احتياجاتها من اليورانيوم من بلدان "أفريقيا الفرنسية"، مثل النيجر ومالي والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى.

إضافة إلى ذلك، فإن المواد الخام مثل المغنيسيوم والفوسفات والكروم، الموجودة في البلدان الأفريقية المعنية، هي أيضا مهمة في صناعة الأسلحة الفرنسية وغيرها من الصناعات الأخرى. وفي هذا الصدد، فإن الفرنك الأفريقي أو فرنك الجماعة المالية الأفريقية، له أهمية حيوية بالنسبة إلى الشركات الفرنسية الدولية، وبالتالي مصالح فرنسا، التي تمارس أنشطة تجارية في أفريقيا.

والفرنك الأفريقي عملة متداولة في عدة دول بالقارة السمراء كانت سابقا مستعمرات فرنسية، إضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة).

وعلى الرغم من أن الأبوية السياسية ـ الاقتصادية التي نشأت في أفريقيا قد منحت فرنسا مساحة، إلا أنها مع مرور الوقت دفعت بها إلى طريق مسدود بسبب المنافسة العالمية المتزايدة في أفريقيا. والأبوية، شكل من أشكال السلطة السياسية التي يكون فيها الحاكم أو ممثلو الدولة الآخرون بمثابة الأب، ويكون المواطنون بمثابة الأبناء، وهنا تعني أمرين أحدهما سياسي والثاني اقتصادي.

لكن مع ذلك، أنشأت فرنسا منطقة مهمة لنفسها في القارة السمراء، وبالتالي فإن لديها فرصة للحفاظ على قوتها التي تمكنها من النضال في خضم هذه المنافسة العالمية.

ومع أن الدول في أفريقيا الفرانكوفونية مستقلة من الناحية النظرية، لأنها لا تزال في قبضة القوى العالمية، وخاصة فرنسا، إلا أن نطاق عملها محدود ومقيد، ولا بد أن يقدم هذا الوضع إطارا تحليليا جيدا لفهم الأبعاد الاقتصادية ـ السياسية للاستعمار الجديد في أفريقيا الفرنسية.

جذور الجماعة الأفريقية المالية وتطورها

طوال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، حددت باريس الفرنك الفرنسي عملة مستخدمة في المناطق التي كانت تخضع لسيطرتها الاستعمارية في أفريقيا.

وخلال الحرب العالمية الثانية، فعّلت باريس تداول هذه العملة من خلال طبع أوراقها النقدية بواسطة الصندوق المركزي لفرنسا الحرة، الذي كان موجودا بالجزائر عام 1943. وفي فترة ما بعد الحرب، صدّقت فرنسا على اتفاقية "بريتون وودز"، التي تم توقيعها عام 1945، وبموجبها تم ثبيت العديد من العملات الأجنبية وتداولها مقابل الدولار، ومن بينها الفرنك الفرنسي.

وهكذا، حافظت فرنسا على هيمنتها على الموارد الطبيعية لأفريقيا، وسهلت أنشطتها التجارية أيضا.

والفرنك الفرنسي، الذي استخدم في 21 دولة خلال سنوات اعتماده، ما زال متداولا حاليا في 14 دولة، ومع رغبة بعض الدول الأفريقية في الخروج من الجماعة المالية الأفريقية، إلا أنها تصطدم بالعائق الفرنسي.

وعلى سبيل المثال، عند محاولة الانقلاب العسكري في مالي، عام 2012، أعلن الانقلابيون عزمهم التخلي عن استخدام الفرنك الفرنسي، لكن في المقابل باتوا وجها لوجه مع التدخل الفرنسي في البلاد.

وتعمل منطقة الفرنك الأفريقي، اليوم، وفقا لخمسة معايير أساسية، الأول: تحديد التعادل الثابت للعملة مقابل اليورو إذا لزم الأمر، يتم من خلال التشاور مع باريس، وفي ضوء قرار يتم التصديق عليه بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي.

والمعيار الثاني: قابلية تحويل الفرنك الأفريقي إلى اليورو؛ والثالث: حماية الفرنك الأفريقي من قبل فرنسا، من خلال كل بنك مركزي إقليمي يعمل لدى الخزانة الفرنسية.

أما الرابع الرابع فهو حرية تنقل رأس المال بين منطقتي الفرنك الأفريقي (البنك المركزي للكاميرون والدول الأفريقية الاستوائية والبنك المركزي لدول غرب أفريقيا) من جهة، وفرنسا من جهة أخرى، فيما المعيار لأخير تقاسم احتياطات النقد الأجنبي في كل اتحاد إقليمي.

وهكذا فإن الهيكل أو الكيان الذي تم إنشاؤه في إطار هذه المعايير، مكّن فرنسا من مواصلة نظامها الذي تم تأسيسه في الفترة الاستعمارية، وحافظ على مواقف التبعية للبلدان، وسهل وصول باريس إلى موارد المواد الخام المنخفضة السعر.

وبالتالي، كانت نقطة الانطلاق للمواد الخام في البلدان الإفريقية هي السوق الفرنسية، وفي هذا السياق، كانت النتيجة الواضحة لذلك، هو أن التخلف المستمر والتبعية كانا مصير البلدان الأفريقية.

واعتماد فرنسا على اليورانيوم، والبلدان الأفريقية الغنية باحتياطات هذا العنصر، وصل مستويات خطيرة، ومن ثم فإن حاجة باريس إلى اليورانيوم، جعلت من ذلك النظام المذكور، الاستعمار الجديد، أمرا ملحا وضروريا.

ويقول خبراء إنه حتى لو تم وقف الاحتياطي القادم من النيجر، فإن مخزونات شركة "أريفا" الفرنسية كبيرة لدرجة تمكنها من تلبية الطلب على اليورانيوم، أي أن النيجر لم تعد مهمة بالنسبة إلى فرنسا كما كانت عليه من قبل.

ورغم ما أشيع خلال السنوات الأخيرة بخصوص عدم أهمية النيجر لفرنسا، إلا أن "أريفا" بدأت تدشين منجم "إيمورارين" العملاق، ثالث مناجمها في هذا البلد على الساحل الأفريقي، ما يعني أن الأقاويل المذكورة يمكن قراءتها على أنها مجرد وسيلة ضعط تقوم بها باريس للظفر بحظوظ وفرص أفضل لدى حكومة نيامي.

التعليقات