حكايا لا تنسى... قصصُ اللجوء في مخيم الزعتري

الزعتري مخيمٌ لجوءٍ يقعُ في المملكة الأردنية الهاشمية، وفي داخل المخيم يكتشف الفلسطينيون والسوريون أيضًا معنى نكبة الـعام 1948. والزعتري مساحةُ أرضٍ واسعة، كانت فارغة، قبل أنّ بدأت السلطات الأردنية باستقبال اللاجئين من سوريا، منذ تموز العام 2012، فكانت الثورة السورية المندلعة وتبادل النيران بين الثوار والنظام سببًا رئيسًا في اقتلاع وتشريد السوريين مِن أرضهم، هاربين من قصفٍ وضربٍ لا يُعرفُ مِن أينَ أو متى يأتيهم، ومتى يتوقف؟!

حكايا لا تنسى... قصصُ اللجوء في مخيم الزعتري

الزعتري مخيم لجوءٍ يقعُ في المملكة الأردنية الهاشمية، وفي داخل المخيم يكتشف الفلسطينيون والسوريون أيضًا معنى نكبة الـعام 1948.  والزعتري مساحةُ أرضٍ واسعة، كانت فارغة، قبل أنّ بدأت السلطات الأردنية باستقبال اللاجئين من سوريا، منذ تموز العام 2012، فكانت الثورة السورية المندلعة وتبادل النيران بين الثوار والنظام سببًا رئيسًا في اقتلاع وتشريد السوريين مِن أرضهم، هاربين من قصفٍ وضربٍ لا يُعرفُ مِن أينَ أو متى يأتيهم، ومتى يتوقف؟!

ووصل عدد هؤلاء اللاجئين، مع بداية العام الجديد 2013 إلى 65 ألف لاجئ، ثم ارتفع خلال فترةٍ وجيزة ليصل إلى 98 ألف لاجئٍ، وبوصول ألفيْ سوري آخرين، يُغلق المخيّم سياجه أمام الوافدين، لينتقل لاجئون سوريون آخرون إلى مخيمٍ جديد، قرب الزرقاء الأردنية، حيثُ يتم تجهيزه حاليًا لاستيعاب لاجئين يُتوقع أن تلفظهم سوريا عما قريب، بسبب ويلات الحرب.

والزعتري- "مخيمٌ يستقبل بشرًا مُنهكين مِن قسوةِ الحربِ، ليُصبحوا لاجئين محتاجين، جوعى، عطشى، عُراة في عزِ الصقيع، ففي غمرةِ البردِ واشتداد الرياحِ وتساقُط الثلوج، كانَ اللاجئون يغوصون في الوحلِ بأقدامٍ مبللة، وبخوفٍ شديد، وبردٍ قارسِ ينغرسُ في العِظام"- هكذا هو حالنا في هذا الشتاء –وصف اللاجئون أوضاعهم في المرة الأخيرة التي هطل فيها المطر وتساقط الثلج.

وكان آخر زوار الزعتري، فلسطينيون من أراضي الـ 1948، حملوا مبادراتهم الإنسانية ومساعداتهم ودخلوا إلى المخيم، يدفعهم تعاطفهم.

إلى الزعتري وصلَ كلٌ مِن سهير بدارنة- مُنسِّقة الزيارة، وبرفقتها مجموعة من الشباب من (حراك)، في إطار "حملة فلسطين لأجل نازحي سوريا في مخيم الزعتري". وانطلقت المجموعة التي تشمل: سهير بدارنة ورنا عوايسة وراني هيكل ومحمد جمال زيدان إلى الزعتري، صبيحة الأربعاء الماضي، فكان للدكتور ناصر أبو لحية من منظمة السلام الدولية، دورٌ بارز في مساعدة المجموعة في الحصول على تصريحٍ وموافقة مِن السلطات الأردنية والمسؤولين السوريين في مخيم الزعتري، وساهمت جمعية الشيخ نوح للرفاديا - بدعمٍ من المسؤول عماد هرماس - بنقل المساعدة الإنسانية (عبارة عن طقمٍ يشمل: القبعات، الكفوف والجوارب والشالات، والأغطية- للأطفال)، حيثُ استلمَ 3400 طفلاً لاجئًا طقوما مغلفًا.

سهير بدارنة: الزعتري أعاد إلى ذاكرتي شريطًا من مشاهد التطهير العرقي والنكبة!
"ستلبسون بدلة خاصة، مُخططة بالأصفر الفاقع، كي يتم تمييزكم، حتى لا تتعرضوا لهجومٍ مِن أحد. ولا يُسمح لكم بالتصوير، إلا إذا وافقنا نحنُ. هكذا كانت التعليمات. والأمنُ الأردني المنتشر في كل زاوية مِن المخيم، جعلني أسأل: لماذا كُلُ هذه الأعداد؟ فكان الجواب: لو لم يكن الأمنُ الأردني، لقتل السوريون بعضهم بعضًا، فهُنا في المخيم، سوريون مؤيدون لبشار، وآخرون معارضون.

تقول سهير: "إحساسٌ غريب، انتابني للوهلة الأولى، قشعريرة سرت في جسدي، ونبضات قلبٍ متسارعة، خوفٌ لا أعرف مصدره، لكنّ المشاهد تتسارع أمامي، تعيدُ قصص التهجير واللجوء، أرى سيدة حافية القدمين، ورجالا يلهثون مِن التعب، ونظراتُ أطفالٍ تائهة، وسياجا يحطيهم مِن كُل الجوانب، وخياما على مدّ النظر، لا نهاية لامتدادِ الخيام، ولا نهاية للوجعِ الذي استقرّ في قلبي مِن المشاهِد الماثلة أمامي".

"في هذا اليوم، يوم وصولنا إلى الزعتري، أُضيف 1766 لاجئا إلى المخيم، ومع دخولنا إلى المخيم تجمهر الجميع أمامنا، نساءٌ ورجالٌ وأطفال. من هُنا بدأ التعارف بيننا وبين اللاجئين. "أغطي طفلي بغطاءٍ صغير وفوقه غطاءٌ مِن النايلون وفوق غطاءٌ آخر"، باختصار مشاهِدُ حزينة، لعائلاتٍ مُحتاجة، وفي زاويةٍ تجلسُ أمٌ تحتضنٌ أطفالُها الثلاثة، سألتُها: "ليه ولا أجيتي تاخدي الهدية، مع انه معاكي 3 أطفال؟"، قالت: "حتى لو محتاجة انا ما بقوم، بتعرفيش كيف كنا في درعا؟ كان عنا مصانع، كان عنا فيلا، وواحدة تشتغل عندي بالبيت، كلامها أثّر بي، أخذتُ المساعدة وقدمتها لها، شكرتني، وفي نظرتها "عزةُ نفسٍ، قلّ مثيلها". هذه السيّدة كانت قد وصلت للتوِ إلى المخيم، وأمامها صحونٌ بلاستيكية سُكب فيها الطعام، فكيفَ لا يشعُرُ هؤلاء اللاجئون بالأسى".

سكتت بدارنة، لكنّ حزنًا ودموعًا في العيون لا تفارقها: "كنتُ أنظرُ إلى وجوهِ النساءِ، أتأملهن، وجوههن حزينة، كأنهنّ لم يضحكن منذ سنين، في حضنِ إحدى السيدات السوريات طفلةٌ صغيرة، عمرها بضعة أشهُر، سألتُ والدتها عن اسمها فقالت: سوسن، قلتُ لها: ما أجمل هذا الاسم، فردّت والدتها، باللهجة السورية: "ع اسم عمّتها، ولو بتشوفي شو صار بعمتها، كنت رايحة بدي أولد، بلش الطخ، وماتت قبالي، صرت احضنها وابوسها واقلها ما تموتي قبل ما تشوفي سوسن، بس ما سمعتني". تصمت ام سوسن، ثم تقول: "احنا راجعين، شفتي هاي شنطي، ما بدي افرغهن، عشان ما احس اني بدي اضل هون".

تقول بدارنة: "ما قالته السيّدة السورية، لا يختلف عن سائر السوريين اللاجئين في الزعتري، كلهم يتمنون العودة إلى ديارهم".

الفرح مزروع في حقيبة!
كان لافتًا لرفاق راني هيكل، تمُسكُ الشاب، ابنُ بلدة كفر قرع، بحقيبةٍ كبيرة، سألوه بمزاح: "هل تحمل ممنوعات؟!"، ضحك راني لكنه لم يبح بسره.

وفي المخيم وأمام الأطفال فتحَ راني الحقيبة، وإذ بها مملوءة بأنواعٍ مختلفة من السكاكر والشوكولاطة والبالونات الملوّنة، وألعابٍ صغيرة للأطفال، كانت هذه "مفاجأة من العيار الثقيل"، جعلت أطفال الخيام تحوِّل الصمت الممتد مِنذ وصول اللاجئين إلى فرحٍ غامر. راني لم يكتفِ بتوزيع الحلوى، بل أقام مع الأطفال عدة فعالياتٍ، فبالإضافة إلى مذاقات لذيذة من الشوكولاطة، وزّع راني البالونات لتتطاير في أرجاء المخيم، صرخَ الأطفال فرحًا كما لم يصرخوا مِن قبل، نَسوا لبضع ساعاتٍ أنّهم في المرة الأخيرة التي صرخوا فيها، قبل رحيلهم من وطنهم سوريا.

قالت العجوز التي اتكأت على عكازها، للشباب الفلسطينيين: "بتعرفوا انتو الفلسطينيين، اجيتو وجبتوا الفرحة للولاد، هدول الولاد من اشهر لا ضحكوا ولا رفعوا ايديهن ولا زقفوا".

وقالت سهير بدارنة للطفل عمر: "جبتلك هدية، حتى تتدفى في هذا الشتا، فردّ عمر: ما بدي هدية، بدي ترجعولي امي". سألت سهير: "وين إمك؟"، ردّ عمر: "قِتلت، وأنا هربت، اجيت مع عمتي وولاد عمتي وأبي".

وسألت سهير الطفل محمد: "ليه ما بتروحش ع المدارس، ردّ محمد: كنا نروح ع المدارس، واحنا بالمدرسة، نزلت علينا قذيفة هدت نص المدرسة  احنا هربنا، ولا حدا عرف شو صار مع ولاد صفو، حتى فيه ولاد بعد نص يوم رجعوا ع بيوتهم، ما عرفوا كيف يرجعوا ع البيت، هدوا المدرسة علينا، صحابي ماتوا، انذبحوا، اتشردوا".
تقول سهير: "في الزعتري أيضًا لا يتعلم الأطفال ففي موجة الشتاء الأخيرة، والفيضانات التي أصابت المخيم، أُسكن المتضررون في مدرسة "البحرين"، هروبًا مِن تدفق المياه في الخيام، فلا المطرُ توقف ولا الأطفال عادوا إلى مدارسهم".

وفي وصفها للمكان قالت بدارنة عن مخيم الزعتري: "الوضعُ مزرٍ، رغم أنّ هناك 7 مستشفيات تُحيط بالمكان، ورغم المعونات المتدفقة لكنّ الحال لا يُبشِّر بالخير، حمامٌ رئيسيٌ واحد في المخيم، والأمراض تنتشرُ بسرعة، خاصة الانفلونزا. لم يدخُل إلى المخيم عاملٌ اجتماعي أو طبيبٌ نفسي، وحينَ تسأل الأمهات تُجيب إحداهُن: "الأكل والأغطية مش لاحقين، بدك طبيب نفسي، شو مفكرين اننا أجانب؟!".

ذكريات سهير ورفاقها لا تتوقف، رغم الساعات القليلة التي أمضوها برفقة اللاجئين السوريين في المخيم، ساعاتٍ قليلة اختلط فيها الفرحُ الطفولي بالحزنِ والقلقِ والخوفِ من المجهول. وشهاداتٌ مؤلمة وقصصٌ طفولية ليست مِنَ الخيال، قالت سهير: "شام الطفلة السورية كانت تشتهي حبة "الملبس"، أخذت الأولى، ثم طلبت ثانيةً، فأخذت، وطلبت ثالثة قالت لها سهير: ستختنقين يا شام، فردّت شام: "بحياتِك، أنا من زمان ما أكلت حلو، من أول ما اجيت ع الزعتري"، رقّ قلبي، بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، أوجعني رجاؤها".

"طفلٌ آخر قال لي: "الموت ولا الزعتري"- كيفَ لطفلٍ ابنُ تسع سنوات، أن يفضل الموت على المخيم، إلا إذا كان قد فقد زملاءه في المدرسة، كان قبل ذلك يذهب إلى المدرسة بسيارةٍ تنتظره، فودّع مدرسته، وودع والده شهيدًا، وجاءَ مع والدته وجدته وأخته الصغيرة إلى الزعتري".

وودعت سهير ورفاقها المخيم وهم يحتضنون الأطفال السوريين، علّهم يشعرون أنّ همًا مشتركًا يجمعهم هو "النكبة التي لا تنتهي".

رنا عوايسي ضمن حملة فلسطين من أجل الزعتري
تصف عوايسي حال المخيم: "ككافة مخيّمات النازحين من سوريا، الزعتري، مخيمٌ يعاني من ظروف إنسانيّة صعبة بكل معنى الكلمة، يفتقر لكل الحاجيات الإنسانيّة، ويفتقر لأبسط المتطلّبات، قمنا بتوصيل المساعدات بأنفسنا ووزعناها بأيدينا على اللاجئين. ما رأيناه هو نكبة حقيقية توازي بقساوتها نكبة الفلسطينيين".

تضيف عوايسي: الهدف من الحملة هو "جمع التبرّعات لتوفير الحاجيات الأساسيّة بهدف إنساني، وبدون تبنّي أي موقف سياسي، وتم اختيار هذا المخيّم بسبب ظروفه القاسية جدًا وامكانيّة الوصول اليه كونه موجودا في الأردن مما يمكننا من إيصال المساعدات الانسانية" .

ووصفت عوايسي المخيم بالسجن الكبير، وقالت: "يشهد المخيم العديد من حالات الوفاة بسبب الظروف الصعبة التي يعيشها النازحون في المخيّم، إنهم يعيشون في سجنٍ كبير، ممنوعون من الخروج للعمل إلا بكفالة أو تهريب، بينهم مصابون ومرضى، وذوو احتياجات خاصة، وآخرون مشوهون جسمانيًا، ناهيك عن شعور النازحين بالذل والمهانة وهُم الذين كانوا أعزاء في ديارهم، فجأة يتحولون إلى لاجئين منكوبين".

أضافت عوايسي: "رأينا الأطفال هناك ينتظرون الفرحة رغم الحزن الكبير، رأينا الفرحة في وجوههم والأمل، رأيناهم يبحثون عن الحياة، أقمنا لهم فعاليّة طفوليّة ففرحوا بها كثيرا، كانوا يبتهجون لمجرد التقاط صورة لهم، متحدين قهر الحياة"!.
 

التعليقات