رجلُ أعمالٍ فأمير حرب ثم مُطارد: مختصر علاقة مخلوف - الأسد

اعتبر رامي مخلوف أبرز رجل أعمال في سورية قب الثورة التي تضخّم دوره كبيرًا منذ قمعها بالنظام بالبارود والحديد، ليصبح أمير حرب له ميليشيات ومقاتلون وعلاقات طائفية ومالية وسياسية... قبل أن ينتهي به الحال مطاردًا.

رجلُ أعمالٍ فأمير حرب ثم مُطارد: مختصر علاقة مخلوف - الأسد

سيدة تشاهد فيديو مخلوف (أ ف ب)

لم يكن التدخل الروسي في سورية منذ عام 2015 مجرد تدخل عسكري محسوب العواقب، من أرباح وخسائر في العتاد والعديد، بقدر ما كان مدروسًا اقتصاديًا وثقافيًا ومجتمعيًا. فمنذ أن اندلعت شرارة الحرب في سورية، سعت روسيا إلى وضع قدم لها على البحر المتوسط، مستفيدة بذلك من الامتيازات والتسهيلات التي قدمتها دمشق لموسكو في سبيل القضاء على مد فصائل المعارضة المسلحة على بقعة أوسع من الأراضي السورية.

دخلت روسيا في معمعة الحرب السورية مدفوعة برغبتها في السيطرة على منافذ بحرية على المتوسط، وهو ما تحقّق من خلال القواعد والموانئ التي وضعت تحت تصرف القوات الحربية الروسية في كل من اللاذقية وطرطوس، مدينتيّ الساحل السوري.

فعليًا، تبدو المكاسب الإستراتيجية التي ستجنيها روسيا في مرحلة ما بعد الحرب السورية أكبر بكثير مما تخطط له، إذا ما نظرنا إلى الأموال التي سخّرتها في سبيل الإبقاء على وجودها ماديًا ومعنويًا ليس في سورية فقط، بل في الشرق الأوسط ككل. في حين أنه ما كان على دمشق سوى تقديم ضمانات ووعود بتسديد فاتورة الحرب التي بلغت كلفتها إلى الآن حوالي 388 مليار دولار أميركي. وإن كانت شركات صناعة الأسلحة الروسية، مثل "ألماز-أنتي" و"أورال فاغون زافود"، من كبريات الجهات المستفيدة من استدامة الحرب السورية، سواء كانت بعرض أو بتجريب أسلحة جديدة وإرسالها إلى مختبر الحرب السورية، إلا أن القيادة الروسية بدت غاضبة وممتعضة من طول هذه الحرب وعدم قدرتها على القيام بأعبائها في ظل أزمة اقتصادية عالمية استعرت منذ نهاية عام 2019.

موّلت "سيرياتيل" عمليات عسكرية واسعة للنظام السوري (رويترز)
موّلت "سيرياتيل" عمليات عسكرية واسعة للنظام السوري (رويترز)

مدفوعة بعدم الرضا، والضغط الشعبي والإعلامي الروسي، تبذل موسكو منذ بداية عام 2020 جهدها لسحب تعويضات الحرب في سورية، إمّا عبر امتيازات استخراج النفط والغاز من الساحل السوري، أو عبر خلق أجنحة عسكرية تابعة للقيادة الروسية المتمركزة في قاعدة "حميميم" العسكرية في اللاذقية، والتي كان آخرها تشكيل الفيلق الخامس الذي يعمل على الأرض السورية منذ عام 2017، بعد أن كانت القوات الروسية تقدم مساعدات لوجستية فقط للقوات السورية. وبالإضافة إلى ذلك، سعت روسيا إلى تأمين وجودها على الأرض السورية كأكبر القوى الضامنة في الداخل السوري عبر استلامها لملف المصالحات الوطنية التي تضمن عودة سلمية لجميع عناصر المعارضة المسلحة، ونزع سلاحهم من جهة، وإعادة دمجهم في تشكيلات القوات السورية أو الروسية على حد سواء. لم يكن بمقدور روسيا أن تقوم بأعباء هذه المرحلة، من شراء ولاءات أو بناء جيش يخضع لقيادة روسية، بالاعتماد على اقتصادها فحسب، بل عملت على إقحام أسماء كبار الاقتصادين و"حيتان" السوق السورية في خانة دفع مديونية الحرب البالغة حوالي 4 مليار دولار أميركي؛ هي فاتورة حرب ودعم عسكري.

وجدت روسيا في عرّاب المال والأعمال رامي مخلوف، ابن خال رئيس النّظام السوري، بشار الأسد، المخلّص القادر على تسديد هذه الفاتورة من خلال ممارسة ضغط واسع عليه من قبل النظام السوري، الذي كان متساهلا إلى حد بعيد مع المؤسسات والشركات التابعة له، وتلك التي يمتلك فيها أسهمًا. وبشرح مبسط لممتلكات مخلوف، يمكن القول إنه المتحكم الأول بمفاصل الحياة الاقتصادية والإعلامية والثقافية والمالية في سورية، من خلال مجموع إداراته ومساهماته الأخطبوطية. ومن جانب آخر، فإن علاقات مخلوف بموسكو علاقة ليست بالسهلة مقارنة برجال أعمال سوريين آخرين.

مخلوف والنخبة الاقتصادية السورية

متربّعًا على عرش التجارة والاقتصاد في سورية، يمتلك رامي مخلوف، حوالي 60 بالمئة من الاقتصاد، لتتدرّج أعماله بين البنوك والمصارف، وشركات إنتاج وتصنبع وتصدير المواد الغذائية، وشركات الحديد والصلب، ومؤسسات النقل الخاصة، والمنشآت السياحية الأفخم. يبقى الأهم من هذا كله، استحواذ مخلوف على قطاع الاتصالات من خلال امتلاكه ما نسبته أكثر من 45 بالمئة من أسهم "سيرياتل"، شركة الاتصالات الأولى والمشغل الخلوي الأول في سورية، والتي تأسست عام 2001 برأسمال بلغ حينها 3.35 مليار ليرة سورية، والمستحوذ على أرباح نهائية منها بنسبة 70 بالمئة بعد دخول مؤسسة "راماك" الإنسانية، المملوكة لمخلوف أيضًا، في دعم وتمويل شركة الاتصالات هذه. تبلغ إيرادات شركة سيرياتل حوالي 242 مليار ليرة سورية، منها حوالي 70 مليار ليرة لصالح خزينة الدولة. تبدو أهمية شركة "سيرياتل" من كونها المشغل الأكبر والأكثر انتشارًا على الأراضي السورية، لتخدّم حوالي 12 مليون مشترك، باستيعاب وظيفي لحوالي 6500 موظف، مع حوالي 100000 نقطة بيع في المحافظات السورية كافة. وبالإضافة إلى الجسم الاقتصادي المتين للشركة، فإن علاقات "سيرياتل" مع كبريات الفعاليات الاقتصادية والتجارية والمؤسسات الحكومية والخاصة في سورية من خلال مجموع الأعمال والخدمات التي تقدمها الشركة من بناء أبراج لتوزيع شبكة وتأمين البنية التحتية الإلكترونية في هذه، تجعل منها شركة محورية في عمليات التنسيق الإلكتروني في سورية. وبالضرورة، فإن أيّة صفقة مرتبطة بالاتصالات، أو مشغلات الاتصال اللاسلكي والإلكتروني لا بد وأن تمر عبر شركة "سيرياتل"، كون الشركة هي مشغل الاتصالات الأكبر، لتأتي بعدها شركة "إم تي إن" كمشغل يعمل بوتيرة أقل، لكن ضمن نفس الظروف الاقتصادية.

يعوّل مخلوف بعد "سيرياتل" على مؤسسة "راماك" المساهمة المغفلة التي تأسست عام 2005 برأسمال 1.03 مليار ليرة سورية، لتعمل ضمن نظام السوق الحرّة السورية. ويمتلك مخلوف من هذه المؤسسة ما تصل نسبته إلى 99.99 بالمئة من رأسمالها، بينما يمتلك صندوق المشرق الاستثماري 0.01 المتبقية. وتعمل "راماك" في قطاعات حيوية بدءًا من قطاع البناء والعقارات، وصولًا إلى قطاع التجارة والاستيراد والتصدير والخدمات، وليس انتهاءً بقطاع التعهدات والسياحة والنقل والاستيراد. وتعتبر مؤسسة "راماك" من الشركات التي سعى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية عام 2008 إلى وضعها ضمن القائمة السوداء، الأمر الذي أدخل" راماك" ضمن عقوبات هددت إمبراطورية مخلوف الاقتصادية، بعد أن رأت الولايات المتحدة فيها خطرًا يتهدد الاستثمارات الأميركية في بلاد الشام. وبعد عام 2011، كان نشاط "راماك" داخل الأراضي السورية ضن نفس القطاعات التي كانت تعمل عليها من قبل، إضافة إلى دخولها قطاع النفط والغاز على نطاق متوسط مع شراكات روسية في سورية.

الأسد وبوتين (أ ب)
الأسد وبوتين (أ ب)

استفاد رامي مخلوف من الامتيازات التي حصل عليها كرجل الاقتصاد الأول في سورية. الأمر الذي منحه قوة ونفوذًا وسلطة في أكثر القطاعات حيوية في البلاد. وعزز من وجود رامي مخلوف في السوق السورية قيام مجموعة "راماك " بتبني مشاريع العمل الإنساني تحت مظلة "جمعية البستان" التي أصبحت لاحقًا محور الخلاف في غرف السياسة والمال، وكانت محورًا للخلاف لا يقل أهمية عن خلاف "سيرياتل" و "راماك" الأم.

"جمعية البستان" للعمل الخيري

أسس رامي مخلوف "جمعية البستان الخيرية" عام 1999، وأكسبها طابع العمل الخيري من خلال مجموع الأعمال الخيرية التي ساهمت في إعالة العديد من الأسر الفقيرة في المحافظات السورية.

فعليًا، عملت الجمعية على تأمين تكاليف العمليات الجراحية لما يقارب 7000 مستفيد من الفقراء والمحتاجين في سورية، بالإضافة إلى رفد المشافي بسيارات إسعاف مجهزة بأحدث التقنيات، الأمر الذي أكسب الجمعية مصداقية في الداخل السوري وجذب إليها أعين الكثيرين. ويعتمد على الجمعية العديدُ من طلاب الجامعات الذين يقومون بالانتساب إلى الجمعية وتسجيل أسمائهم لدى مكاتبها، ليستفيدوا من منحة شهرية لا تقل في عام 2016 عن 7000 ليرة سورية، وهو مبلغ يسد ثغرة اقتصادية يعاني منها الطالب السوري. وبنفس الوقت الذي كانت تعمل فيه "جمعية البستان" لوحدها ولأهدافها، كانت تدعم الجمعيات الخيرية الأخرى ومؤسسات المجتمع المدني كـ"الهلال الأحمر السوري" و"جمعية حفظ النعمة"، وجمعية "رعاية المكفوفين"، والأهم من هذا كله كانت تعمل جنبًا إلى جنب مع الأمانة السورية للتنمية، التي تشرف عليها مباشرة أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري.

النقلة النوعية

سهّل قرب مخلوف من الأسد وصوله إلى محطة الثراء الفاحش بعد مجموعة من الاستثمارات الحيوية في البلاد. وشكّل تحكم مخلوف باقتصاد البلاد واحتكاره الامتيازات الاقتصادية وفرضه أتاوات، أو شرط شراكة بنسبة تحددها مؤسساته على أي مشروع مهما صغر حجمه أو كبر، والنهج الرأسمالي الذي قيّد الطبقة الوسطة وخلق هامشًا كبيرًا بين الطبقات في المجتمع السوري، أحد أهم الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة عام 2011 في سورية. كانت مطالب السوريين تحسين الأوضاع المعيشية وتخفيف القبضة الرأسمالية المفترسة التي تضيق الخناق على أي حركة اقتصادية في البلاد. وعلى الرغم من محاولات مخلوف المستمرة لعدم الظهور للإعلام أو بأي مشهد رسمي أو شعبي، إلا أنه كان ضمن دائرة التغيير الذي أراده الشعب السوري أن يحدث. وبدلًا من أن يتزعزع وجود مخلوف بفعل الحراك في سورية، استطاع بفضل متانة علاقاته أن يثبّت وجوده أكثر ويحكم قبضته. آمن مخلوف أن بقاءه رهينُ بقاء النظام، ولذلك عملت مؤسساته بكل طاقتها لإبقاء البلاد على وضعها الراهن.

كوّن مخلوف اقتصادًا خاصًا قائمًا على الحرب الدائرة في البلاد. وفي الوقت الذي تُدمّر فيه ما يقارب نصف الأراضي السورية، كانت شركة " دمشق الشام القابضة" مسؤولة عن إعادة إعمار بعض الأحياء وبعض المنشآت الحيوية التي تضررت بفعل العمليات العسكرية في البلاد، بالإضافة إلى امتلاك "دمشق الشام القابضة" لمشروع "ماروتا سيتي " أو ما يعرف إداريًا بمشروع "تنظيم 66" الواقع جنوب حي المزة الدمشقي. وإلى جانب الإعمار في زمن الحرب، كان لا بد لمخلوف من الانتباه إلى تأمين مصادر مالية جديدة من أجل القيام بمهام دعم جيش النظام السوري والميليشيات الموالية له. ولهذا، فقد لجأ مخلوف إلى تهريب التبغ عبر منافذ اللاذقية وطرطوس الساحلية من أجل دفع فواتير الدعم المالي لجيش النظام. ومن هنا، فقد برز دور مخلوف في الحرب السورية على أنه أكبر داعم للميليشيات غير النظاميّة التابعة لتشكيلات يشرف عليها ضباط من القوات الخاصة والفرقة الرابعة وقوات الدفاع الوطني.

شكّل مخلوف عام 2014 جناحًا عسكريًا رديفًا تم تمويله من "جمعية البستان" غير الحكومية، قوامه عناصر من العائلات التي كانت الجمعية مسؤولة عن دعمهم ومساندتهم في الفترة ما بين عامي 1999 و2011. وعلى اعتبار أن معظم المستفيدين من أموال الجمعية كانوا من أهل الساحل السوري، فإن أكبر عدد من عناصر هذا الجناح كان من العلويين من سن الثامنة عشرة حتى الأربعين عامًا. يعدّ الجناح العسكري التابع لجمعية البستان، والذي يشمل "ألوية درع القلمون" و"كتائب الجبلاوي" و"درع الوطن"، الأكثر دعمًا وتمويلًا مقارنة بدعم قوات النظام السوري وفصائل "الدفاع الوطني" (الشبّيحة) وفصائل "الأمن القومي العربي"، وألوية "فاطميون" و"زينبيّون"، الأمر الذي دفع أغلب الشباب من طوائف أخرى إلى الانضمام إلى "جمعية البستان"؛ ما أكسبها شعبية أكبر، وقدرة على التحكم بالوضع في البلاد بعد نجاح عناصرها بخوض معارك في الغوطتين الغربية والشرقية من العاصمة دمشق، والقلمون شمالًا ودرعا جنوبًا.

مؤشرات الأزمة

قَلب نجاح القوات المدعومة من مخلوف موازين المعارك في سورية من جهة، وعلاقاته مع الضباط في جيش النظام السوري من جهة أخرى، خاصة وأن "البستان" استطاعت عام 2016 كسب تمويل من الأمم المتحدة بقيمة 267.933 دولار أميركي[1] تحت مسمى المساعدات الإنسانية، ليستغله مخلوف في تمويل القوات التابعة له في معارك القصير والقلمون. وعلى الرغم من اتفاق القوّتين معًا، لم يَرُق لقوات العميد سهيل الحسن ، أو ما يطلق عليها تكتيكيًا "قوات النمر"، نجاح عناصر القوات الرديفة المدعومة من قبل مخلوف، وسعى الحسن إلى تقويض أساسات قوات "البستان" من خلال تقليص دورها العسكري بالتنسيق مع قيادات الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري التابعتين رسميًا لكل من ماهر الأسد وطلال مخلوف، وسحب الامتيازات الأمنية التي كان يتمتع بها عناصر "جمعية البستان" من بطاقات حمل سلاح وتصريحات تجوال، وإنهاء ارتباطات عسكرية تجمع بين "قوات النمر" والفرقة الرابعة و قوات مخلوف. ارتفعت حدة الخلاف بعد توغل القوات الروسية في التفاصيل العسكرية، وعدم رغبتها في أن تكون شريكة لأي قوة عسكرية على الأرض سوى قوات جيش النظام السوري، والذي يمكنها أن تتحكم بمخرجات قراراته وعملياته العسكرية بناء على تنسيق مسبق مع وزارة الدفاع السورية.

التدخل الروسي وقص الأجنحة

بعد أن أثبتت القوات الروسية قوتها في قلب موازين الحرب في سورية، وقدرتها على استرجاع معظم الأراضي السورية التي كانت بحوزة قوات المعارضة السورية، لم تعد ترغب في إعطاء امتياز الانتصار في المعركة لأي من القوى المشاركة في الحرب سواها.

فعليًا، تكمن رغبة روسيا في الانتصار في سورية في محاولتها لإثبات وجودها دوليًا في ملف “الحرب ضد الإرهاب". ولهذا فإنه ليس من مصلحتها وجود أية قوة عسكرية أو حتى اقتصادية تنازعها على الأرض. ما يربك روسيا في سورية هو وجود إيران كداعم ثانٍ أساسي ولا يستهان به لجيش النظام في معركته مع المعارضة. ومن باب أن إيران كانت، ولا تزال، ضمن ساحة الحرب في سورية، سواء بقوات "حزب الله" أو بقوات "النجباء" و"زينبيون" و"فاطميون"، فإنها الآن تشكل خطرًا على مستقبل الوجود الروسي في سورية، كون إيران صبّت مليارات الدولارات كلفة مشاركتها في الحرب السورية، وبالتالي فإن الخوف أن حصتها من الاستثمارات في المرحلة الحاليّة وفي مرحلة إعادة الإعمار ستكون حصة الأسد. إيران قوية على الأرض السورية من خلال مجموع الروابط الدينية والثقافية مع المجتمع السوري، ومع الطائفين الشيعية والعلوية على وجه الخصوص، ما يكسبها حضورًا وفرصة لرفع نسبة استحواذها على مشاريع حيوية في مرحلة ما بعد الحرب. تدري روسيا أن الحرب التي تقودها إيران في سورية هي حرب وكالة، بالقوات والألوية الطائفيّة التي يتم تجنيدها لصالح طهران، لكن هذه القوات لا تربك روسيا - كون السيطرة العسكرية الروسية واضحة - بقدر ما تربكها إستراتيجيّة إيران المتمثلة في السيطرة على أكبر جزء ممكن من بلاد الشام، وخصوصًا سورية ولبنان، وهما محط أنظار روسيا [2].

أسماء الأسد تسعى لـ"وراثة الدور الخيري" لمخلوف (سانا)
أسماء الأسد تسعى لـ"وراثة الدور الخيري" لمخلوف (سانا)

وللتخلص من الشك في تعاملاتها مع إيران والقوات الطائفيّة المدعومة من رامي مخلوف، والتي تعمل لصالح إيران، عملت روسيا منذ عام 2018 على تضييق الخناق على هذه القوات التي انتشرت في أرياف كل من محافظات درعا ودمشق والقنيطرة وحمص واللاذقية، وإجبارها على التابعية للقوات المدعومة من روسيا كونها تمتلك اليد العليا. ولأهداف المرحلة، أحدثت روسيا "الفيلق الخامس اقتحام" وركزت جهدها على أن يكون ذراع جيش النظام الرديف والرسمي في آن معًا. ميزة "الفيلق الخامس اقتحام" أنه يضمّ قوات تابعة للنظام وأخرى غير تابعة له، وبخصائص إدارية وتعبوية تتبع النموذج الروسي، سواء في نمط العمليات أو التراتبية أو التمويل. ترمي روسيا من ضم قوات "جمعية البستان" والقوات الطائفيّة إلى الفيلق الخامس الترويج لصورتها حليفًا هو الأقوى أمام التحالفات الأوروبية والأميركية. وبعد معارك الشمال السوري، أبدت روسيا رغبة واضحة في تقليص الوجود الإيراني في المنطقة - ولم نرَ إيران في معارك إدلب الأخيرة ومعارك ريف اللاذقية منذ سنة ونصف إلى الآن - على اعتبار أن سلاح الجو الروسي هو القائم بأعمال الحرب ضد المعارضة في إدلب، بالإضافة إلى التنسيق مع جيش النظام من غرفة القيادة المشتركة في قاعدة حميميم الروسية. أما أمام القوات الرديفة المدعومة من مخلوف، والتي تبدي ولاءً لطهران أكثر منه لدمشق نفسها، فإن قوات الشرطة الروسية في مدن اللاذقية وطرطوس وحمص موجودة لضربها والتقليل من شأنها مجتمعيًا وعسكريًا وأمنيًا، وقد تصل إلى اعتقال ضباط سوريين وقياديين مسؤولين عن جماعات مقاتلين إذا ثبت ولاؤهم لإيران او مخلوف.

المساواة الروسية بين رامي مخلوف وإيران ووضع هاتين القوتين في خانة واحدة، وقص أجنحة تابعيهم يأتي نتيجة لتعاون شديد بين رامي مخلوف والجمعيات والمؤسسات التي يديرها والحكومة الإيرانية. منذ عام 2013، وإلى الآن، عملت "جمعية البستان" على تبني مشروع ثقافي طائفي في الساحل السوي وفي الأحياء الشيعية في المدن السورية وأريافها. جزء من مشرع التشييع هذا ببناء مجمعات شيعية أبرزها "الرسول الأعظم" في اللاذقية و"فاطمة الزهراء" في حي الأمين في دمشق، ووضعها تحت إشراف أئمة ومشايخ من خريجي حوزات قم الإيرانيّة، أمثال الحاج أيمن زيتون في اللاذقية والحاج عبد الله نظام في دمشق. أمّا الجزء الأكبر والذي يشكل محور الهجوم على مخلوف هو الاستثمارات ومشاريع التطوير العقاري والمدن السياحية التي تسعى إيران لإنشائها مستفيدة من سطوة رامي مخلوف وقدرته الاقتصادية الهائلة.

لمواجهة مدّ "إيران - مخلوف"، سعت روسيا لضمان شراكات مع عمالقة استثمار ورجال الأعمال من الذين برز نجمهم بعد عام 2011، أمثال محمد حمشو، وسامر فوز، وبراء وحسام قاطرجي، من خلال دعمهم وإعطائهم صلاحيات وامتيازات أوسع من تلك التي يمتلكها مخلوف، خاصة بعد أن أصبح مخلوف مستهلكًا ويسعى لإحلال الدور الإيراني من خلال تنفيذ مشاريع إيرانية في دمشق والساحل السوري.

الضرائب ذريعة النظام السوري

تعتبر موسكو أن الوقت قد حان لاسترداد ديونها من دمشق بعد حوالي خمس سنوات من مشاركتها في الحرب في الأراضي السورية. لكن يبقى محور الحديث عن دور روسيا من وراء قرار النظام السّوري الذي تم تنفيذه عبر وزارة العدل ووزارة الاتصالات والتقانة في سحب امتيازات شركة الاتصالات الأولى "سيرياتل" التي يديرها رامي مخلوف شخصيًا ونائب رئيس مجلس إدارتها سابقًا، إيهاب مخلوف، قبل أن يستلم علي رامي مخلوف المنصب الأخير. تقدر قيمة الضرائب التي تريدها الدولة من "سيرياتل" حوالي مئة مليون دولار أميركي عن قيمة ضرائب متأخرة، إلا أن رامي مخلوف هذه المرة جاء مغايرًا لما توقعه أنداده. اعتمد مخلوف على الإعلام الاجتماعي من خلال إنشائه صفحة على "فيسبوك" ظهر فيها بمظهر التقي الورع الخائف على مصلحة البلاد عبر ثلاثة فيديوهات، منتقدًا الهجوم الشرس والممنهج عليه وعلى أملاكه التي كان قد وضعها، بحسب قوله، بين يدي السوريين. لم تكن زيادة الضرائب على "سيرياتل" السبب في جعل رامي مخلوف يظهر بدور المظلومية، بقدر ما كان الصراع على القوة وإعادة توطيد السلطة بعد حرب طويلة. تفرض تركيبة النظام الحاكم في سورية هذا النوع من العلاقات وطرق الصراع على السلطة على اعتبار أنه نظام شخصي قائم على حكم الأسرة الواحدة؛ حاله كحال باقي الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط، كالنظام السعودي الذي يديره ولي العهد محمد بن سلمان ويقمع النخب السياسية والاقتصادية بذريعة الاقتصاد، بينما نقطة الخلاف هي السلطة.

حرّكت روسيا خلافًا كان قد بدأ عام 2018 بعد أن رأت أن دور مخلوف في البلاد لم يعد اقتصاديًا وتجاريًا فحسب، وتبين لها أن إيران هي من يسانده وهو شريكها في حشد القوات وتمويلها عبر "جمعية البستان" لخدمة المشروع الإيراني في المنطقة. يتناقض الدور الذي يلعبه مخلوف وإيران مع الدور الذي تقوم به روسيا الذي تدّعيه روسيا "في الحفظ على صلابة جهاز الدولة السوري". منذ عام 2018، بدأ النظام السوري مدفوعًا برغبة القيادة الروسية بتقويض أساسات اقتصاد رامي مخلوف بدءًا من منعه من السفر خارج البلاد، إلى قرار تم تعطيله لاحقًا، يقضي بحل "جمعية البستان الخيرية"، وليس انتهاءً ببسط سيطرة الدولة على "سيرياتل" وحصص مخلوف في باقي الشركات والمؤسسات.

غيّرت موسكو من نهج تعاملها مع مخلوف وطهران ضن إستراتيجية تضمن أن استثمارها في الحرب السورية سيأتي أكله ماليًا وسياسيًا ودبلوماسيًا وإستراتيجيًا. استغلت روسيا علاقة الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد، مع الاتحاد السوفييتي لتثبيت قواعدها في سورية في عهد الرئيس الابن. زاد من موثوقية موسكو لدى دمشق أنها شطبت 73% من مديونية سلاح قيمتها 13 مليار دولار أميركي، ليبقى منها حوالي 2 مليار دولار تم تحصيلها وفق عقود استثمار وصادرات. تعدت حالة التدخل من مجرد اتفاقيات اقتصادية إلى استثمارات عسكرية نفّذتها شركات صناعة التسليح الروسية، استفادت منها بعد عام 2011 بشكل يوحي بحجم التأثير الهائل على النظام السوري. يأتي هذا التأثير من كون سورية جزءًا من ترتيبات عالمية تخضع لاعتبارات سياسية وجيوإستراتيجية بحكم موقعها الجغرافي وقوتها السياسية في منطقة الشرق الوسط، ولذلك فقد عملت روسيا على الدفاع عن مصالحها في المقام الأول من خلال انخراطها في الحرب السورية. وإن كان كل من إيران وروسيا وأميركا وتركيا على دراية أن سورية هي ساحة لتصفية النزاعات بينها على أرض خارج حدود كل منها، إلا أن روسيا تؤكد عزمها على أن تبقى المستفيدة الأكبر من هذه الحرب خاصة وأنها بحاجة إلى منفذ على البحر المتوسط الذي يشكل نقطة ضعفه بالنسبة لوريثة الاتحاد السوفييتي.

تراكمت فاتورة الحرب السوريّة روسيا، بعد أن قامت موسكو بزجّ قواتها مباشرة في المعركة. كان في مقدور روسيا أن تبقي جنودها وقواتها داخل الأراضي الروسية وتقق من حدة العداء تجاهها عالميًا وداخليًا، إلا أن خوفها من انتقال هذه الأسلحة إلى فصائل المعارضة المسلحة وحلفائها، والفصائل الإسلامية العاملة على الأرض السورية، وقلقها من تهديد مصالحها بعد ذلك، دفعها لأن تتدخل مباشرة، مع الحفاظ على زمام المعارك بيدها. ومن هنا فقد كانت كلفة الحرب أكبر مما توقعت موسكو، لتبدأ رحلتها مع البحث عن مخرج.

صحيح أن هذه الشراكات والاتفاقيات تبقى إستراتيجيةً وحيوية لإبعاد كل من قطر وإيران وتركيا كمنافسين أقوياء، عن مساحة تصدير غاز الشرق الأوسط إلى أوروبا عبر خطّي "بلو ستريم" و"ساوث ستريم"، إلا أن ما ترمي إليه روسيا ليس الأرباح وإنما النفوذ في الشرق الأوسط. لم تكتفِ موسكو بامتيازات التنقيب عن النفط في الساحل السوري لثلاثة عقود قادمة بموجب اتفاقية وقعتها وزارة النفط السورية مع شركات نفطية عالمية مثل "فيلادا" و"ميركوري" و"زاروبيغ نفط" وتيخنو بروم إكسبورت" و"غازبروم" و "سويز نفتا غاز" عام 2019، لتطالب دمشق بتسديد فاتورة جديدة تمثلت بحوالي 4 مليار دولار. ومن هنا، جاءت ورقة الضغط الروسية على الحكومة السورية من أجل إضعاف خطر القوة الاقتصادية الموجودة في سورية والمتمثلة برامي مخلوف، شريك الاستثمار الإيراني.

يقف اقتصاد رامي مخلوف القائم مؤخرًا على استثمارات نفطية وعقارية بالتعاون مع إيران أمام شركة "ستروي ترانس غاز"، المملوكة من قبل رجل الأعمال الروسي جينيدي تيمشنكو، المقرب من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والكرملين، والتي تعمل في التنقيب عن النفط والفوسفات في حقول "خنيفيس" و"الشرقية" في الشرق السوري، بالإضافة إلى عمل ذراع لها في التجارة والاستثمار في مدن اللاذقية وطرطوس ودرعا. تَشي خيوط هذه العلاقات أن الصراع ليس على مجموعة ضرائب قيمتها لا تتجاوز 233 مليار ليرة سورية، إنما على الامتيازات. وبالنتيجة، فالجهة الأقدر على إزاحة خصومها هي من ستتمكن من بسط نفوذها على الأرض السورية.

عقوبات ومنع سفر وتقييد حركة

تبدو حزمة القرارات التي صدرت من الحكومة السورية ووزارة الاتصالات والتقانة السورية والمتمثلة بمنع التعاقد مع شركة "سيرياتل" ومنع رامي مخلوف من التعاقد مع أي جهة عامة لمدة خمس سنوات على الأقل، وقيام الجهات الأمنية مدعومة بقوات روسية باعتقال مسؤولين بارزين في فروع شركة "سيرياتل" و"جمعية البستان الخيرية" في المحافظات السورية، صادمة لمتابعي وضع رامي مخلوف، على اعتبار أنه يد الاقتصاد السوري العليا في البلاد، وأن امتيازاته الأمنية والسياسية والاقتصادية مهولةٌ مقارنة برجال أعمال آخرين. لم يقف النظام السوري عند مطالباته بالضرائب فقط، بل تعدّى ذلك إلى مطالبة مخلوف بالابتعاد عن إدارة "سيرياتل" وتسليمها إلى إدارة تابعة للهيئة الناظمة للاتصالات والبريد، مع الإبقاء على أسهم مخلوف فيها، لكن بشرط رفع نسبة الضرائب إلى 50% لصالح الوزارة بدلًا من 20%. يدرك مخلوف، وهو المتحكم باقتصاد البلاد، أن انهيار استثماراته هو انهيار للاقتصاد السوري ككل. والمتابع لخطابات مخلوف على صفحته الرسمية أن يستنتج أن مخلوف اليوم في مأزق كبير، فهو على اللائحة السوداء الدولية منذ عام 2008، وأرصدته واستثماراته في سويسرا مجمدة منذ عام 2016، ومشكلاته مع القصر الجمهوري متفاقمة، وعلاقته مع روسيا متزعزعة بعد أن جمدت روسيا حركته وحركة استثماراته في روسيا. لو كان الاختلاف اقتصاديًا بحتًا، لما أقدمت قوات الأمن التابعة للنظام السوري والشرطة الروسية على اعتقال العشرات من موظفي مخلوف وإبدالهم بآخرين. هذه الخطط جميعها، تُنفّذ من قبل وزارات العدل والداخلية والاتصالات والتقانة، إلا أنها تصب في صالح روسيا ومعها المستثمرين الذين تعوّل عليهم روسيا في مرحلة "ما بعد مخلوف".


هوامش:

[1] حصلت الجمعية على مساعدات بما يقارب 4 مليون دولار خلال العام 2015 والعام 2016، لكن ما تم الإفصاح عنه هو مبلغ 267.933 دولار أميركي مقدم من "اليونيسيف" ضمن إطار المساعدات الإنسانية من الأمم المتحدة.

[2] تعوّل إيران في إستراتيجيتها على القاعدة الثقافية والدينية التي تمتلكها في لبنان وسورية وفلسطين.

المصادر والمراجع:

التعليقات