«الأهرام»: هكذا سقط مبارك ورحل

تحت عنوان «هكذا رحل مبارك»، نشرت صحيفة «الأهرام» تقريراً اليوم سردت فيه تفاصيل الأيام الأخيرة من حكم حسني مبارك.

«الأهرام»: هكذا سقط مبارك ورحل

تحت عنوان «هكذا رحل مبارك»، نشرت صحيفة «الأهرام» تقريراً اليوم سردت فيه تفاصيل الأيام الأخيرة من حكم حسني مبارك.

 

وقالت الصحيفة إنه فجأة اختفت من شوارع القاهرة لأكثر من ثلاثة أسابيع سيارات كالمرسيدس «الشبح» وال بي أم في ‏750‏ والهامر الرباعية الدفع‏. واختفاء هذه السيارات ‏ لا يعبر عن خوف أصحابها من غضب المتظاهرين الذين يطلبون عدالة اجتماعية فقط، وإنما عن حالة تفكير النظام الحاكم، وهي الحالة ذاتها التي كان عليها في إدارة أزمته مع الثورة منذ ‏25‏ يناير إلى ‏11‏ فبراير‏.

 

كان التقرير الذي وصل إلى الرئيس حسني مبارك قبل الثلاثاء، ‏25‏ يناير، من اللواء حبيب العادلي، وزير الداخلية السابق، يقلل من قيمة المظاهرة وقدرتها وأنهم مجرد «شوية عيال» يمكن احتواؤهم‏..‏ الموقف تحت السيطرة‏..‏ ولن توجد ثمة مشكلة‏.‏

 

لم يكن هذا هو رأي بقية أجهزة الدولة‏،‏ ففي مساء الاثنين رفع احد الوزراء سماعة تليفونه الخاص الواصل إلى رئاسة الجمهورية‏،‏ واقترح أن يعلن الرئيس تعديلا وزاريا يشمل ‏15‏ وزيرا على الأقل‏,. وقال بالنص «‏15‏ واحد مننا يلبسوا الجلاليب ويقعدوا في البيت ونحل المشكلة»..‏ كان الرد‏:‏ بعد ربع ساعة سنرد عليك‏..‏ جاء الرد‏:‏ «سيبوا الموضوع لحبيب العادلي‏..‏.».

 

كان حبيب العادلي قد توحشت سلطاته بدرجة مذهلة،‏ خاصة بعد أن خدعهم بقصة وهمية أنه ضبط ‏19‏ متطرفا انتحاريا مجهزين أنفسهم لعمليات جديدة تجري محاكمتهم‏،‏ بعد القبض على متهم في جريمة كنيسة القديسين بالإسكندرية والكشف عن التنظيم الذي يقف وراءه‏.‏ في الوقت نفسه استطاع أن يجنب شخصية قوية جدا للغاية،‏ ويهمش دورها فانحصر كله في ملفات خارجية‏، ‏مستغلا أخطاء وخطايا وقع فيها هذا المسؤول ورتبها في ملف خاص عرضه على الرئيس والسيدة سوزان والسيد جمال‏،‏ وهو ما لقى هوى وقبولا من الزوجة والابن الطامح في منصب الرئيس ويريد أن يزيح من أمامه أي منافسة محتملة‏..

 

وقد «جرى قصقصة ريش» هذا المسؤول على مدى سنوات بعدم التجديد لرجال ذوي ولاء وخبرات خرجوا إللا  المعاش من مؤسسته بالتدريج‏.‏

 

وأفردت يد حبيب العادلي في التعامل مع مظاهرات ‏25‏ يناير سياسيا وإعلاميا‏.‏ فقد أرسل خطابا إلى اتحاد الإذاعة والتلفزيون فيه تعليمات صارمة وأوامر مباشرة بالكيفية التي يجري بها تغطية الأحداث‏.‏ ولم يكن يجرؤ احد على معارضته.

وحدث ما حدث يوم ‏25‏ يناير‏.‏ ونجحت المظاهرات‏، وبرر حبيب العادلي للرئيس مبارك المفاجأة بأن جماعة الإخوان حشدت شبابها بتعليمات من الخارج رصدت الداخلية بعضها على أجهزة الموبايل، مثل اجعلوا الولادة متأخرة‏... ‏لا تدعوا الأم واقفة في مكان واحد فالحركة لها مفيدة جدا‏!‏

 

وهذا هو سر قطع الاتصالات المحمولة لمدة يومين والرسائل لمدة تسعة أيام‏.‏ وهذا النجاح أغضب حبيب العادلي‏،‏ فتعامل مع جمعة الغضب كما لو أن المظاهرات تحد شخصي له‏.‏

 

مبارك أمر بنشر الجيش

 

لم يستوعب العادلي ما حدث‏،‏ فوقع العنف المفرط والقتل ضد شباب أعزل‏. ‏وفي عصر يوم الجمعة وفي ظل العنف الذي تمارسه قواته ضد المتظاهرين، أرسل حبيب العادلي بياناً إلى أسامة الشيخ، رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون، لإذاعته فورا على الهواء،‏ لكن المسؤولين لم يقدروا على إذاعته فقد وجدوه مستفزا جدا للناس،‏ فمرروا البيان إلى القصر الجمهوري‏.‏ كان البيان يتحدث عن دور الإخوان المسلمينـ,‏ ويحملهم مسئولية العنف،‏ وأن الشرطة سوف تتعامل بمنتهى القسوة مع المتظاهرين،‏ وأن الشرطة مضطرة للدفاع عن نفسها ضد الاعتداءات المقصودة التي تتعرض لها لإسقاط هيبة الدولة وإشاعة الفوضى‏.

بعد دقائق من وصول البيان إلى رئاسة الجمهورية،‏ رن هاتف حبيب العادلي الخاص،‏ كان على الطرف الآخر الرئيس مبارك الذي راح يعنفه ويوبخه ويسبه بألفاظ حادة ونابية‏..

 

وأغلق المكالمة وهو يقول له‏:‏ خلاص حنزل الجيش يساعدك وحيتفاهم مع الناس أكثر منك.

وضع حبيب العادلي السماعة وهو يتمتم‏:‏ خللي الجيش ينفعك‏!‏

 

كان بجواره عدد من ضباطه ومعاونيه الكبار‏،‏ ثم أعطى أوامر بإخلاء الأماكن أمام قوات الجيش‏.‏ الجيش نزل امشوا أنتم‏!‏

 

مع الإخلاء تحركت مجموعات اقتحام السجون السبعة‏،‏ مستعملة أسلوبا واحدا‏:‏ نيران كثيفة،‏ بلدوزرات لهدم الأسوار‏،‏ طلقات الـ آر‏.‏بي‏.‏جي‏،‏ وفتحت الزنازين بمرزبات قوية‏..

بالطبع مع وجود «خيانة» داخلية‏،‏ كان الرئيس يظن أن الجيش سيفض الأزمة ويعود الهدوء ومعه «ريما إلى عاداتها القديمة‏».‏

 

وانتقلت إدارة الأزمة مع الثورة الشعبية من الداخلية إلى رئاسة الجمهورية‏،‏ بالتحديد مع أربعة أشخاص‏:‏ الرئيس مبارك والسيد عمر سليمان والسيد زكريا عزمي والسيد جمال مبارك وتتابعها عن كثب وتشارك أحيانا السيدة سوزان مبارك‏.‏ وكان السيد جمال مبارك الأعلى صوتا وكفة‏!‏

 

وخرج بيان الرئيس الأول وهو يتصور أنه يطمئن الناس على الأحوال،‏ وكان تقدير الموقف خاطئا للغاية، فقرر تعديل الوزارة وتعيين نائب للرئيس،‏ لكن بعد أن تجاوزت حركة الثورة الشعبية،‏ هذا النوع من القرارات الترميمية بمسافة واسعة،‏ فلم تتوقف المظاهرات على عكس التوقعات‏.‏ وكانت المظاهرة المليونية يوم الثلاثاء مفاجأة المفاجآت‏،‏ فالرئيس ومعاونوه تصوروا أن الوزارة انتهت ونائب الرئيس جاء‏،‏ فلماذا بقي الناس في الشوارع أذن؟‏!‏

 

لم يفهموا ما كان يجري فعليا‏..‏ وكانت التصريحات الرسمية لا ترضي الناس لا في ميدان التحرير ولا في سائر المدن المصرية‏، لأن عقلية النظام الحاكم لم تتغير،‏ وتجمدت الصورة الذهنية عند تصورات لا صلة لها بالواقع، وقريبة من الصورة التي سادت قبل ‏25‏ يناير‏، إنها مظاهرات يمكن السيطرة عليها لو هدأ أوار الفضائيات والشحن المتواصل لها‏،‏ فالمتظاهرون ثلاثة أقسام، ثلث شباب ‏25‏ يناير،‏ ثلث من القادمين للفرجة وهم يتظاهرون بالمصادفة‏،‏ وثلث من الإخوان المسلمين‏،‏ وإن الإخوان هم الذين يحكمون عقل ميدان التحرير ويغذون حماسه ويشعلون شرارات النار التي تتطاير منه إلى المدن المصرية الأخرى،‏ خاصة تلك التي يوجد فيها الإخوان وجودا ملحوظا مثل الإسكندرية والسويس والمحلة‏،‏ وأن تلك المظاهرات لا تعبر عن رغبة كل المصريين،,‏ فالأحزاب أضعف من إحداث مشكلات في الشارع‏,‏ والشارع نفسه تحت السيطرة إلا من فئات صغيرة لها مطالب بسيطة‏,‏ أما بقية المصريين فهم مشغولون بلقمة العيش و«مش فاضيين» للكلام الفارغ‏. ‏ وكان جمال مبارك هو الصوت الأقوى في الإدارة‏، وظل كذلك حتى بيان الرئيس مساء الخميس ‏10‏ فبراير‏.‏

 

وأدار جمال الأزمة بعين على الحل وعين على السلطة‏،‏ ولم يفهم إلا متأخرا جدا أنه لم يعد موجودا في المشهد السياسي‏،‏ ولهذا كانت بيانات الرئيس للناس دائما ما تحمل لهم ما لا يريدون سماعه‏ـ‏ وتزيد من سخطهم وغضبهم‏.

 

وكان البيان الثاني هو الأقرب إلى وجدان الناس،‏ بعد دغدغة الخطاب مشاعرهم،‏ لأنه تحدث عن الموت على أرض الوطن‏،‏ ولاح في الأفق قبول المصريين لفكرة بقاء الرئيس في السلطة‏.‏ لكن على الجانب نفسه من السلطة فكر أصحاب المصالح الذين استحلبوا مصر ونهبوها في استغلال الموقف الطارئ الجديد،‏ وهم خليط من رجال أعمال ونواب في البرلمان المطعون في شرفه وشرعيته وأعضاء في الحزب الوطني‏،‏ فكروا أن باستطاعتهم أن يقلبوا الموازين،‏ متوهمين أن الشعب سيتخلي عن شبابه‏،‏ فنظموا مظاهرة ميدان مصطفى محمود لتأييد الرئيس‏، من عمال شركات رجال أعمال‏، وعمال من اتحاد العمال‏،‏ ولاعبي الكرة وفنانين‏، وبلطجية جلبوا من عدة أحياء شعبية بالقاهرة‏ مع الجمال والخيول والبغال من نزلة السمان، وامتلأ الميدان عن آخره بعشرات الآلاف من المؤيدين،‏ وجرت كلمات حماسية غلب عليها التحريض من بعض الشخصيات‏،‏ إحداها ظهرت في الفضائيات فعلا وهددت وطالبت بإخلاء الميادين بالقوة‏.‏

ووقعت فضيحة «معركة الجمل» الشهيرة‏، ‏التي لو جرى فيها تحقيق نزيه، ‏لتكشفت حقائق كثيرة مفزعة‏.

 

ورفعت فضيحة «معركة الجمل» سقف مطالب الثورة‏,‏ بعد أن نزعت التعاطف الذي أحدثه بيان الرئيس‏..‏

ووقع النظام بأكمله في ورطة مذهلة مثل حفرة عمقها ألف ميل‏..‏.

 

وحدث ارتباك هائل في القصر الرئاسي‏، ارتباك وصل إلى درجة العجز سواء في الفهم أو التعامل‏، ووصل القرار إلى التنحي‏..‏وكان سيعلن مساء الخميس ‏10‏ فبراير‏.

 

لكن جمال أقنع والده بمحاولة أخيرة‏،‏ وهي الخروج على الناس بحزمة إجراءات إصلاحية جيدة‏، مع نقل الصلاحيات إلى نائب الرئيس السيد عمر سليمان‏..‏ وبقي سؤال‏:‏ ماذا يقول الرئيس في البيان؟‏!‏

 

اقترح بعض المقربين من الرئيس أن يكون البيان ناعماً وعاطفيا،‏ لكن كان لجمال مبارك رأي آخر،‏ أدخله على البيان،‏ فخرج بالشكل الذي أشعل حريقاً مرعباً من الغضب في الصدور والعقول‏...‏ وفشلت المحاولة.‏..‏ وجاءت لحظة النهاية‏..‏ قرار تكليف القوات المسلحة بعمل الرئيس‏.‏

 

‏...‏وهكذا سقط الرئيس ورحل‏.

 

التعليقات