غناء السمسمية: من عبقرية مصر../ سيف دعنا*

ليس غريباً أن تفجّر الثورة أكثر ما في الإنسان من إبداع. فهي أرقى أشكال الأداء الإنساني وأنبلها. وقد كان المشهد المصري، خلال أيام الثورة، حقاً تأكيداً لروح مصرية عبّرت عنها عبقرية الإنسان المصري يومياً وعلناً في الشعر، الغناء، الأدب، النكتة، الفن، والفولكلور

غناء السمسمية: من عبقرية مصر../ سيف دعنا*

إلى الشهيد سليمان خاطر
ليس غريباً أن تفجّر الثورة أكثر ما في الإنسان من إبداع. فهي أرقى أشكال الأداء الإنساني وأنبلها. وقد كان المشهد المصري، خلال أيام الثورة، حقاً تأكيداً لروح مصرية عبّرت عنها عبقرية الإنسان المصري يومياً وعلناً في الشعر، الغناء، الأدب، النكتة، الفن، والفولكلور. كلّ ما بدا مفاجئاً للبعض من عبقرية إنسان مصر الذي حوّل العمل الثوري إلى أداء فني رفيع، كان حقاً حدثاً مصرياً يومياً علنياً وغير خفيّ. لكنّ مُخبري الإمبراطورية لم ينتبهوا على ما يبدو، فالمعرفة الإمبراطورية بأحوال العالم مؤسسة على العنصرية واحتقار الآخر، وهي لا ترى ولا تسمع ولا تقرأ إلا ما يرشح من مصفاة إمبريالية معرفية يصحّ النظر إليها الآن على أنها حفارة قبرها.

بيوت السويس

لم تكن «بيوت السويس» مجرد أغنية ردّدها ثوّار المحروسة في ميدان التحرير بعفوية وحماسة، كما يمكن عدّ النشيد الوطني مثلاً مجرد أغنية أو لازمة متوقعة في مثل هذه المناسبات. «بيوت السويس» مثل «غنّي يا سمسمية» هي بيان سياسي وتاريخي لا يحمل روح مصر وحسب، بل يعبّر أيضاً عن وعي عميق يربط السياسي والاجتماعي ويُبرز ما في إنسانها ومكانها من عبقرية. فالأولى كتبها عبد الرحمن الأبنودي، أحد أبرع شعراء العامية والأقرب لروح ناسها، رداً على هزيمة 1967 وغنّاها في أوج حرب الاستنزاف أروع أصوات مصر، محمد حمام الذي جمع مزيجاً فريداً وعبقرياً من جمال الصوت العربي والنوبي والأفريقي. والثانية، كتب كلماتها الكابتن غزالي، في أوج مقاومة أبطال السويس لاختراق القوات الصهيونية ثغرة الدفرسوار في حرب 1973 ومحاولة احتلال السويس، وغنّتها فرقة أولاد الأرض المقاوِمة التي شارك أعضاؤها فعلاً في المقاومة.

واستدعاء آلة السمسمية في الأغنيتين، كما في أغلب أغاني المقاومة والثورة (وهي من جنس آلة الطنبور النوبية ويعود تاريخها الى عهد الدولة المصرية الوسطى وعرفت سابقاً باسم كنر أو كنارة)، ليس مجرد دلالة على الأصالة وحسب، بل أيضاً استدعاء لروح مصر وتاريخها وثقافتها وزجّها جميعاً في المعركة مع الطاغية ونظامه. فأغاني السمسمية لم تكن فقط صوت المقاومة الشعبية المصرية وأحد أسلحتها، بل صوت الإنسان المصري البسيط أيضاً. فالبمبوطي، الذي يحمل منذ افتتاح القناة بضاعته البسيطة على قاربه الخشبي الصغير ليبيعها للسفن التي تقطع «القنال»، غنى ورقص دوماً على أنغام السمسمية: «إحنا البمبوطية، إحنا ولاد المية». وهذا البمبوطي هو نفسه من حمل السلاح أيضاً ودافع عن بلده وساهم في إسقاط إمبراطوريتين (السفينة الحربية الأميركية التي قتلت البمبوطي محمد فؤاد عفيفي في نيسان 2008 وهو يحاول كسب رزقه، لم تعرف شيئاً عن هذه المهنة أو أهلها أو تاريخهم). والسمسمية حفظت تاريخ البمبوطي المقاوم وتاريخ أهله وروت قصصهم وقصص تهجيرهم من بورسعيد والسويس الى أنحاء مصر أثناء الحرب:

«بورسعيد اسكندرية، اسكندرية بورسعيد
هم ناسهم فلهوية، واحنا ناسنا برضو حديد
هنا المرسى أبو العباس، وعندنا إحنا أبو الحسن
نابليون جالكم وانداس، ومورهاوس جالنا اندفن».

وفي السويس، في 24 تشرين الأول 1973، وقعت المجزرة الأولى للدبابات الصهيونية على يد المقاومة الشعبية. مشهد تكرر على يد المقاومة اللبنانية في وادي الحجير، بعد ثمانية وثلاثين عاماً، فأعلى تفاؤل الإرادة على تشاؤم العقل. وبطولة المقاومين وشجاعتهم ليستا موثقتين فقط بشهادات عينية أو بالصورة والفيلم، بل بأغاني السمسمية التي كتبها الكابتن غزالي من وحي المعركة وأثناءها:

«غني يا سمسمية.. لرصاص البندقية.. ولكل أيد قوية حاضنة.. زنودها المدافع
غني لكل دارس.. في الجامعة والمدارس.. لمجد بلاده حارس.. من غدر الصهيونية
غني لكل عامل.. في الريف وفي المعامل.. بيأدي الواجب كامل.. وادّيله وردة هدية
غني ودق الجلاجل.. مطرح ضرب القنابل.. راح تطرح السنابل.. ويصبح خيرها ليا».

لم تعطِنا المقاومة العظيمة في السويس الأداء العربي في أنبل أشكاله وحسب، ولم تعطِنا فقط أروع ما أنتجه مصنع الثقافة المصرية، بل خلّدت تجربة إنسانية عظيمة روى جزءاً منها جمال الغيطاني في «حكايات الغريب». والسويس في الوعي الصهيوني ووعي العرب تحتلّ مكانة شبيهة بتلك التي تحتلّها بنت جبيل اللبنانية التي أهانت عنجهيّة الكيان الصهيوني مراراً، لدرجة تحوّلها الى رمز سيظل باستمرار محطّ نقمة وغيظ لديه. وظلّ اسم السويس يتردّد رديفاً لفكرة المقاومة المصرية منذ منتصف الأربعينيات، ومحاولة احتلالها بالذات في أثناء حرب 1973، تتجاوز كما يبدو في معناها حدود الاستراتيجيات العسكرية.

مثّل أبطال المقاومة الشعبية الذين حاربوا الاستعمار منذ الأربعينيات، والصهيونية لاحقاً، مصدر إلهام حقيقي لثورة 2011، كما يشير ترديد الأغنية في ميدان التحرير. تجاوز الشيخ حافظ سلامة الثمانين ولا يزال يرفض إزالة ساتر المعركة من أمام مسجد الشهداء، مقرّ المقاومة في تشرين 1973، لأنّ الصراع مع الكيان لم ينتهِ، كما يقول. والكابتن غزالي، شاعر السمسمية الذي تجاوز الثمانين أيضاً وشارك في كلّ مراحل المقاومة من البداية محوّلاً السمسمية إلى أمضى الأسلحة، كافأته السويس بتسمية شارع باسمه، وكرّمه الثوار بترديد رائعته «غنّي يا سمسمية» في ميدان التحرير نفسه الذي طرد تامر حسني.

لكنّ هذا الجانب غاب كلياً عن الوثائق ذات الطابع الاستخباري التي سرّبتها «ويكيليكس» عن مصر، ويغيب كذلك عن الكثير من الدراسات المصرية في الغرب. الصورة الأميركية المتخيّلة لمصر التي ترسمها الوثائق والدراسات الاستشراقية التوجّه، تفسّر ـ إذا نُظر إليها بجدية ـ المفاجأة أوّلاً، والارتباك ثانياً (وهما ما ميّز التعامل الأميركي مع الثورة المصرية قبل قيادة الإدارة الأميركية للثورة المضادة، لازمة كل ثورة، ومحاولة الالتفاف على إرادة أهل مصر). غياب روح مصر المطلق، بالإضافة إلى تغييب الإنسان المصري وافتراض موته السياسي في وثائق هيمنت على كتبَتها كما يبدو فكرة «الاستثناء العربي» الاستشراقية العنصرية، كان أول ما سقط في ثورتي تونس ومصر.

ابن العمدة ومقاولو الأنفار

إذا كان مخبرو الإمبراطورية والناطقون باسمها قد صدّقوا حقاً نكتة «حكمة» مبارك و«قوته»، وإذا كانوا قد صدّقوا أيضاً استسلام المصريين المطلق لتوريث جمال واقتناعهم بعبقريته، فهم لم يعرفوا شيئاً عن مصر، كما يبدو الآن. ليس ذلك فقط لأنّ الفولكلور المصري تهكّم منذ زمن طويل، وحتى قبل ميلاد «عريس الدولة» على ظاهرة «ابن العمدة» (المخلوق التافه الذي برغم أموال والده وسطوته وجبروته ظل محطّ استهزاء القرية)، بل لأنّ هذا الاستهزاء يبدو اليوم، وبأثر رجعي، كأنّه كان في حينها أضعف الإيمان فقط. ربّما لم يكن يعرف المشعوذ جيفري فيلتمان (الوصف للسيّد حسن نصر اللّه)، حين أفتى باختلاف مصر عن تونس، الأغنية الفولكلورية المصرية «يا حضرة العمدة» التي تقول «يا أبو حميدة متحوش حميدة». وعريس الدولة، جمال، كما سماه أحمد فؤاد نجم، الذي كان سيرث الدولة والبشر، لم يكن في وعي المصريين سوى تقليد فجّ وكاريكاتوري للأب المستبدّ. وبرغم وحشية الاستبداد، فإنّ مشروع التوريث يتجاوز في احتقاره للشعب الاستبداد ذاته: «حا تكمل دينك وتطلع ديننا»، يقول نجم. والمصري كان مدركاً لذلك ومستهزئاً به:

«مبروك يا عريسنا، يا أبو شنّة ورنّة، يا واخدنا وراثة، أطلب واتمنى
مش فارقة معانا، ولا هارية بدنا، ولا تاعبة قلوبنا، ولا فاقعة مرارنا».

يجب، رغم ذلك، أن نعذر العبقري جوزف بايدن، نائب الرئيس الأميركي الذي يضع قدمه في فمه كلما تكلم، كما يقول الإعلام الأميركي، حين أفتى بحكمة العمدة مبارك. فحتى لو ترجم له أبرع المستشرقين أغنية الشيخ إمام «أوأة المجنون أبو برقوقة» التي تعكس كيف يفكر العرب حقاً برؤسائهم، فلن تستطيع هذه الترجمة الإمساك حتى بجزء يسير من عبقرية مصر. كيف يمكن ترجمة الكلمات مع الحفاظ على سياقها الثقافي الذي يعطيها معناها الحقيقي حين تقول:

«والنكته كمان انّه حلنجي، وعامل لي فكاكه وحندوقه
مع ان الجحش أفهم منه، والعالم فهمه ومفلوقه».

ربما لم يعرف بايدن كم يمقت العرب طغاتهم، وكم لا يطيقون رؤية وجوه المستبدّين من أصدقائه وخدم إمبراطوريته المتقهقرة. العشرات، إن لم يكن المئات، من المدوّنات وأفلام اليوتيوب القصيرة، التي يبدو أنّ مخبري الامبراطورية لم يأخذوها على محمل الجد ورأوها غير ممثّلة لما يفكر فيه كل عربي، باحت بكل شيء. فمن أمنية «وفاة الرئيس أطال الله عمره» التي تقول إنّ «كل الشعب بيدعي عليك، يصحى في يوم من النوم يلاقيك، نورت التربة معاليك»، إلى «سلامة مرارتك» التي تقول «يا فاقع مرارة مرات الفقير، فلا جوزها جايب، ولا الفقر تايب، ولا حتى سايب، مَيَّة في قُلة، ولا كوز في زير». لم يعرف بايدن أنّ أحمد فؤاد نجم كان يستحلفهم باسم الناس أن يريحونا من طلعتهم ولو ليومين:

«نستحلفك، نسترحمك، نستعطفك، نستكرمك
ترحمنا من طلعة جنابك حبتين
عايزين نجرب خلقة تانية ولو يومين».

ولم يعرف من آمن بالعمدة وابنه كم يعرف الفقراء حقيقة أصدقائهما «مقاولي الأنفار» الذين يسمّيهم الإعلام الرسمي «رجال أعمال»، وكم يكرهونهم، فوثائقهم تخلو من أي ذكر لجوابات «حراجي القط»، أروع ما كتب جامع السيرة الهلالية عبد الرحمن الأبنودي. مقاول الأنفار، حسين العكرش، الذي يعيش على التجارة بالبشر، مثل مصاصي الدماء أصدقاء «النبي حارسه» جمال، كان محطّ احتقار الأسطة حراجي القط، الفلاح البسيط من جبلاية الفار الذي بنى مع رفاقه الملوي وعلي أبو عباس والآلاف مثلهم السد العالي. جميعهم عرفوا حقيقة مقاول الأنفار هذا:

«ذاك العكرش
اللي لابس صوف ومكرّش
من وكل اللحم
وشرب عرق ولدات الناس».

والأبنودي الذي كتب «الميدان»، أروع ما قيل عن ثورة 2011، كان أكثر مَن أبدع في التعبير الدقيق وببساطة عن ارتباط السياسي والاجتماعي. فملحمة السد العالي التي رواها في «جوابات حراجي القط» هي بيان عن الصراع الطبقي، ويصلح أن تسمّى البيان الشيوعي العربي لشمولها وحديثها عن كل تناقضات المجتمع العربي من الصراع الطبقي، إلى قضية المرأة على لسان فاطنة، لتناقض القرية ــ المدينة. وفي قصيدة «الميدان» التي تمسك بجوهر ثورة مصر على الطاغية يقول:

«السوس بينخر وسارح تحت أشرافك، فرحان بيهم كنت وشايلهم على كتافك
وأما أهالينا من زرعوا وبنوا وصنعوا، كانوا مداس ليك ولولادك وأحلافك».

وعبد الرحمن الأبنودي هو أيضاً من كتب حوار فيلم «شيء من الخوف» عن الطاغية عتريس الذي ورث الحكم حين كان جمال صغيراً. لكن لم يُكتب للعتريس جمال أن يرث البلد، فأهل مصر قالوا بالدم إنّ هذا زمن مضى وانقضى ولن يعود، ودفنوا ظاهرة ابن العمدة إلى الأبد.

وفي سياق شعارات الثورة المصرية المبدعة، يبدو الفلاح البسيط حراجي القط اليوم مثل نبي، وصيحات أهل مصر للعمدة «الغلس، الرخم، الرذل، وتخين الجلد اللي ما بيفهمش» تبدو كأنّها «ارحل يعني امشي»، كما يقولون، تكراراً لما عرفه حراجي عن الذين لا يسمعون، وإن سمعوا فلا يفهمون، وإن فهموا فلا يهتمّون:

«ناس طول العمر تمشي شايلة على كتوفها
هوادج فيها ناس من أتقل ناس
ناس م النوع اللي ما بيضحكش
تصرخي مهما تصرخي ما بيسمعش
وإن يسمع ما بيستعناش».

تحذير المصري الفصيح

كل الإشارات كانت هناك، لكنّ مخبري الإمبراطورية لا يسمعون، وإن سمعوا فلا «يستعنوش» كما قال حراجي، فالعنصرية سيف ذو حدين. ربما كان البعض حقاً بحاجة إلى فك رموز ما كتبه حراجي وزوجته فاطنة لفهم «الرسائل السرية» لهذه الجوابات، كما سمّاها الكاتب السوداني هشام آدم. لكن الشاعر سيّد حجاب كان واضحاً ومباشراً حين قال في ما يصح أن يُنظر إليه اليوم على أنه نبوءة أو حتى بيان الثورة الأول في «يا مصري ليه» قبل الثورة بأيام قليلة:

«يا مصري قوم هش الوطاويط، كفاياك تبليط،
صعبة الحياة والحل بسيط، حبة تخطيط».

لكن، لم يسمعوا هذه الدعوة، كما لم يسمعوا تساؤل الأبنودي في الأحزان العادية «راح تفضل كده لأمتى يا غلبان؟» ولا معنى تكرار دعوة سيد درويش في ثورة 1919 «قوم يا مصري» ولا «يا مصر قومي وشدّي الحيل» من الشاعر نجيب شهاب الدين. ولم يسمعوا تحذير، أو تهديد، حراجي القط القاطع في ملحمة السد العالي وهو يقول لزوجته فاطنة:

«لكن ــ ويا فاطنة ــ يا ويل
الدنيا من قومة الفقرا الأجرا
مش وقتو
ده موضوع طولان..
وعلشان الواحد يحكيه
عايزلو ورقة جرنان
حكاية إن الدنيا دي فيها غلابة وديابة
ده موضوع عايزلو ربابة
ومداح وطران».

ولم يعرف مسؤولو صندوق النقد الدولي، الذين رسم تقريرهم في آذار 2010 صورة وردية للاقتصاد المصري وبالغ في مديح الأداء المصري، أنّ المصري كان مدركاً لعملية النهب المنظم التي أشرفوا عليها. فلم يسمعوا سيّد حجاب يقول:

«فتحت باب استيرادك... وصرفت فوق ضعف إيرادك
حلي للخواجة استكرادك، سابك بتقرا في اورادك
وده قشَطّكْ ونزل تشفيط».
وحين اندلعت الثورة، أعاد الأبنودي الصراخ بالفكرة ذاتها، ولم يسمع أحد:
«عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل، ويشبهوا بعضهم نهم وخسة وشكل
وبيسرقوك يا الوطن قدامنا عينى عينك، ينده بقوة الوطن ويقلي قوم، فينك».

المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية للحالة المصرية في آخر أيام العمدة مبارك وابنه مرعبة لأي دولة، وليس فقط للدولة التي باشرت أول وأهم مشروع تحديثي في المنطقة. وعاش المصري هذا الرعب يومياً ولم يكن ممكناً استغباؤه بأرقام عن النمو تتجاهل إعادة توزيع الثروة لمصلحة طبقة مصاصي الدماء ومقاولي الأنفار. الدخل القومي الإجمالي للفرد (جي أن آي/ مقياس أطلس) الذي يشير إلى الحالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للمجتمع كان 2070 دولاراً في 2010، بمعنى أنّ مرتبة مصر دولياً كانت 130 (سنوات قليلة كانت تفصل مصر العظيمة تحت قيادة ابن العمدة الملهم من تحولها لصومال).

هذا يعني أنّ المواطن المتوسط كان على حافة الفقر حتى بدون الحديث عن مؤشر اللامساواة أو الفقر النسبي (مؤشّر جيني) الذي يعادل 33 لمصر. تقرير التنمية البشرية عام 2009 أعطى مصر المرتبة 123 دولياً. ليست هذه حالة فقر، بل إفقار ممنهج قاد إليه الخضوع المطلق لإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد (ويمكن القول تدمير ممنهج اذا أخذنا في الحساب مؤشرات اجتماعية مثل معدل وفيات الأطفال تحت سن الخامسة، الذي اقترب من الثلاثين لكل ألف حالة ولادة حسب الإحصاءات الرسمية، وتقريباً ضعف ذلك حسب إحصاءات أخرى).

لكن الكابتن غزالي، مثل سيّد حجاب، لا يسكت على الظلم، وباح بالسر للجميع في «أبوح»:
«مال البلد مسفوح، يا صاحب البقرة
يا زارع الشجرة، يا صاحب الشهدا
تطرح ونديهم، ولا تمر فيهم، باعونا للكفرة».

لم تكن عبثيّة إذن إعادة إنتاج روائع سيّد درويش مراراً وتكراراً وبأشكال مختلفة لعلهم يسمعون. لكن، مرة أخرى، حتى لو ترجم أبرع المستشرقين (لغةً، لا معرفة أو إدراكاً لعبقرية الثقافة العربية، فهذا شيء آخر) سيّد درويش، فكيف سيفهم أنبياء الخصخصة ورسل صندوق النقد والبنك الدولي:
«محسوبكو انداس صبح محتاس، مسختو جزمة يا ناس
مافيش فلوس بقيتو منحوس، فقرتو خلاص»؟
سيّد حجاب، مرة أخرى، كان واضحاً ومباشراً وليس أيّ شيء مما يقوله بحاجة إلى تفكيك:
«يا مصري ياللي الغلا عاصرك
والنهب في عصرك حاصدك
قوم للحياه واسبق عصرك».

كل الإشارات كانت هناك، وواظب مبدعو مصر من دون يأس على إرسال رسالة تلو أخرى. والمبدع يوسف القعيد الذي تشبه رواياته شعر الأبنودي، وصاحب «يحدث في مصر الآن» و«يحدث في بر مصر»، كان واضحاً في رائعته «شكاوي المصري الفصيح». الثلاثية التي تستعير العنوان من «شكاوي الفلاح الفصيح» التي كتبها قدماء المصريين قبل أكثر من أربعة آلاف عام على أربع برديات وتمثّل تسع مرافعات لفلاح بسيط سرقه أحد المسؤولين في الدولة، كانت تأكيداً لإدراك المصري لما يجري في وطنه. حذّر المصري مراراً وتكراراً من الاستخفاف به وبقدراته، واستهزأ بالصورة التي انتشرت عنه وعن خنوعه. لكن لم يسمع أحد التحذير الذي جاء مثلاً على لسان الشيخ إمام في ختام أغنيته الرائعة «هم مين وأحنا مين»:

«حادي يا بادي يا عبد الهادي، ياللي عليك قصد الغنوا دي
لما الشعب يقوم وينادي، يا احنا يا همّا في الدنيا دي
حزّر فزّر شغّل مخّك، شوف مين فينا حيغلب مين».
ولم يسمع أحد الكابتن غزالي وهو يقول في إحدى قصائده:
«كدّابة ضحكتنا، ندّابة غنوتنا، كرامتنا ثورتنا، مخنوقة في القهرة
ابوح يا ابوح، أصرخ ألم وأبوح، دا العدل بات مدبوح، والظلم بقى مفضوح».

لم يعرفوا أنّ المصري «غويط» كما قال سيّد حجاب. حسبه الجاهل «ساهل وساهي وغبي وعبيط». لكنّه عرف الحقيقة وعرف قدراته رغم اضطراره للتغابي أحياناً. «ملهم أنا وأعمل غبي»، يقول الأبنودي في «الله يجازيك يا عم عبد الناصر». والمصري أيضاً صاح ولا يقبل تقليل القيمة كما تقول فرقة أولاد الأرض:
«أنا صاحي يا مصر أنا صاحي، سهران وفي حضني سلاحي
واللي يقلل من قيمتي، واللي يكسر عزيمتي، يحرم عليه صباحي».

تحتاج موسوعة العبقرية المصرية إلى آلاف الصفحات وآلاف الساعات لإدراك جزء يسير من عبقرية هذا الشعب وهذه الأمّة. كيف لم يرَ جابر عصفور شيئاً من هذه العبقرية، أم رآها ولم تردعه أمام إغراء كرسي الوزارة التافه! كيف لم يلهمه نموذج بطل تونس همّة الحمامي ليكون في الموقع الآخر؟ ربما لم يعِ ما قاله نجيب سرور:
«قللنا فخارها قناوي، بتقول حكاوي وغناوي
يا قلة الذل أنا ناوي، ما أشرب ولو في المية عسل».
"الأخبار"
 

التعليقات