"تقدير موقف: الموقف التركي من الثورة الليبية"

لا شك أن موقف الحكومة التركية الحالي من العقيد القذافي والثورة في ليبيا قد ألحق ضرراً بصورة تركيا عند العرب وذلك بعد أن حققت تقدماً في عهد أردوغان نفسه

شكّل الموقف التركي المعارض للدّعوات الدولية المتزايدة لفرض منطقة حظر جوّي على ليبيا نقطة استفهام لدى عدد من مراقبي الحراك على الساحة الدولية المرتبط بمسار الأحداث في ليبيا.
 
وصفت تركيا الدعوة إلى منطقة حظر جوي بأنها غير "مفيدة وتنطوي على مخاطر"، وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إنّ "التدخّل العسكري من قبل حلف شمال الأطلسي في ليبيا أو أية دولة أخرى ستنجم عنه أثارٌ عكسية تماماً". وعلى خلاف الموقف التركي، فقد أيّدت دولٌ عديدة كبريطانيا وفرنسا فرض حظْر جوّي على ليبيا. في حين لا يزال الموقف الأميركي يشوبه نوع من الغموض، خاصّة في ظلّ غياب موقف واضح للقوى الكبرى (الصين، روسيا).
 
وقد تناولت التحليلات العربية و الغربية موقف تركيا من مسألة الحظر الجوّي بالنّقد، خاصّة أنّ تركيا سبق أن شاركت في عدّة مهمات تدخّل فيها حلف الناتو، كما حصل في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وأفغانستان.
 
لا يمكن قراءة الموقف التركي الحالي، بالاستناد إلى مواقف سابقة لعبت تركيا في بعضها دور المحرّض لإنتاج التّدخّل العسكري. ولغرض الاستدلال علمياً، لا بدّ بدايةً من عملية استقراء موضوعية للمواقف السابقة، ووضْعها في سياقها التّاريخي مع مراعاة طبيعة النّظام الدّولي، والمصلحة القوميّة للدول التي تعتبر المحدّد الرئيس لسياساتها الخارجية.
 
شكّل تعريف الناتو وتحديد هويّته بعد انهيار حلف وارسو مدخلاً لنقاشات عديدة، خاصّة بعد أن ساد تفاؤل بتراجع دور الأحلاف والتنظيمات العسكرية. وجرى بعد قمّة روما سنة 1991 تحديد الفهم الاستراتيجي الجديد للناتو وتعيين مهمّته في إطار "المحافظة على التوازن الاستراتيجي في أوروبا".
 
وبفعل أزمة البوسنة والهرسك تعزّزت فكرة أنّ الأدوات الداخلية الأوروبية أضعف من التعامل مع معطيات تهدّد التوازن الاستراتيجي في أوروبا ذاتها. وكادت تسود فكرة أنه لولا العمليات العسكرية للناتو لما كان هناك مجال لهذا التوازن في أوروبا الشرقية أن يتغيّر أصلاً. لذلك كان ضروريا إيجاد دور تدخلي للناتو تم الاتّفاق عليه عام 1995 فيما عُرف بــ "اتفاق دايتون"، وأصبح بموجبه الحلف ذراعاً لتدخل الأمم المتّحدة.
 
كما أنّ التدخّل في كوسوفو جاء بعد مناقشات حول تجديد مهمة الحلف الاستراتيجية. خاصة عندما عمد الناتو مع الولايات المتّحدة لملء الفراغ الذي حصل في التوازن الاستراتيجي بعد انتهاء الحرب الباردة في وسط أوروبا وغربها.
 
وفي إطار هذه التنظيرات تطورت علاقات تركيا مع حلف شمال الأطلسي بعد الحرب الباردة عبر تقاطعات عديدة أبرزها العلاقات التركية – الأميركية وعلاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وعلاقات الولايات المتحدة الأميركية مع الاتّحاد الأوروبي.
 
فقد رأت تركيا في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية بديلاً عن علاقاتها مع الاتّحاد الأوروبي عندما تتعثر المفاوضات مع الاتّحاد. وقد اعتمدت على محور حلف شمال الأطلسي من أجل دعم هذه العلاقة. في حين اعتبرت أميركا تركيا لاعباً فاعلاً في البلقان وشرق أوروبا والشّرق الأوسط عندما تتعارض سياسته الأولى مع الدّول الأوروبية.
 
يمثل تدخّل حلف شمال الأطلسي في البلقان وما نجم عنه من وضع دولي أكثرَ الأمثلة وضوحاً على ذلك حيث أرادت تركيا إقامة توازن بين العناصر البوشناقية والألبانية، وأحسّت بضرورة الاهتمام بمستقبل هذه العناصر. ومن خلال توافق مصالحها في هذا الشأن مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية خاصة التعاون في منطقة حوض بحر قزوين الغنية بالبترول ودول آسيا الوسطى،استطاعت تركيا أن تُقنع الولايات المتحدة الأميركية بتدخل عسكري في إطار الأطلسي في البوسنة والهرسك من ثم كوسوفو رغم معارضة العديد من الدول الأوروبية.
 
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ازدادت أهمية تركيا باعتبارها طرفا رئيساً و"مسلماً" في إطار ما عُرف بـ"الحرب على الإرهاب"، حيث تجاوبت تركيا مع المعطيات التي طبعت النظام الدولي في تلك المرحلة، فازداد التعاون اللوجستي والاستخباراتي مع الولايات المتّحدة. وتجاوبت تركيا مع التوجّه الأميركي لتفعيل المادة 5 من معاهدة الدّفاع الخاصة بحلف الناتو التي تفرض على جميع الأعضاء في الحلف تقديم جميع أشكال المساعدة لأيّة دولة تواجه عدواناً خارجياً. وسهّلت تركيا استخدام القوات الأميركية أراضيها ومجالها الجوّي لبدء الحرب على أفغانستان في أكتوبر / تشرين الأوّل 2001.
 
وكان هذا الدور محلّ تقدير وإعجاب الولايات المتحدة التي استفادت معنوياً ورمزياً من مشاركة دولة مسلمة في إطار حربها على أفغانستان خاصة بعد إرسال تركيا ما يقارب 1200 جندي لتقديم العون لقوّات الدّعم والإسناد التابعة لحلف الناتو. ولا تزال تركيا تلعب دورا مهما في إطار تقديم العون اللوجستي والتدريبي لقوات الجيش والشّرطة الأفغانية.
 
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السّلطة في تركيا بدأت محدّدات العلاقات التركية مع حلف شمال الأطلسي تأخذ شكلاً جديداً خاصة مع محاولة تركيا تعريف دورها في إطار سياسة "متعدّدة الأبعاد" في الدّوائر الجيوسياسية المختلفة وخاصّة في الدائرة الشرق أوسطيّة التي شهدت حركة نشطة للدبلوماسية التركية خلال العقد الأوّل من القرن العشرين.
 
الموقف التركي من الثورة الليبية
 
حرصت تركيا، في الأسابيع الأولى من عمر الثورة الليبية، على عدم إصدار أيّ موقف رسمي يحدّد خياراتها تجاه أحد الطرفين، فقد انتهجتْ في تعاطيها مع الأزمة الليبية مبدأ "عدم إنتاج ردّ فعل". ورغم وجود رأي عام من جمهور حزب العدالة والتنمية يساند حركة 17 فبراير إلاّ أنّ ذلك لم يجعل حكومة حزب العدالة والتنمية تتوافق مع الحملة السّياسية والإعلامية ضدّ نظام القذافي خاصّة بعد المجازر التي تم ارتكابها بحقّ الشعب الليبي.
 
شكّل العقد المنصرم أوّل خروج حقيقي للسياسة الخارجية التركية عن الدائرة الغربية (الأطلسية والأوروبية)، خاصّة بعد احتلال العراق وظهور معضلة أمنية بالنسبة إلى تركيا على حدودها الجنوبية. من هنا بدأت العدسة الجيوستراتيجية التركية تركّز على الدّائرة الشرق أوسطية كدائرة فاعلة في سياساتها (متعدّدة الأبعاد). واستطاعت تركيا تحقيق قفزات نوعيّة على مستوى تطوّر العلاقات بينها وبين دول الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصّة فيما يتعلّق بمستوى التّبادل التجاري والتعاون الاقتصادي مع هذه الدّول، التي وجد فيها الدور التركي ترحيباً وقبولاً شعبياً لاعتبارات ثقافية عديدة.
 
انعكس التوجّه التركي على العلاقات مع ليبيا، فقد وصل مستوى التّبادل التجاري بينهما عام 2010 إلى 9,8 مليار دولار، وأعلنت ليبيا أنها ستقدّم استثمارات بقيمة 100 مليار دولار للشّركات التركية حتى عام 2013، وأعلنت عن استثمارات في قطاع التشييد وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار تمّ منحها للشركات التركية في هذا المجال. ومنذ عام 2010 دخل حيز التنفيذ 160 مشروعاً استثماريّاً تركيّاً في ليبيا.
 
أمّا على المستوى السياسي، فقد ارتبطت تركيا مع القذافي بعلاقات يمكن وصفها بالتاريخية، ومن محطاتها الهامة وقوف العقيد القذافي إلى جانب تركيا أثناء التّدخّل العسكري في قبرص عام 1974، وتعزيز العلاقات الليبية التركية بشكل كبير في عهد حزب العدالة والتنمية، مع دعوة ليبيا لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كضيف مشارك في القمّة العربية في سرت 2010، وقد عمل العقيد القذافي على استثمار رمزية وجود أردوغان للدعاية لسياسته ثلاثية الأبعاد (العربي، الأفريقي، الإسلامي).
 
انطلاقاً من ذلك، و نتيجة لتعاظم الفاعلية التركية في شمال أفريقيا على حساب الدول التقليدية كفرنسا، فسّرت تركيا السعي لاستصدار تدخّل عسكري للناتو على أنه فرصة للدول الكبرى وخاصة فرنسا لاستعادة نفوذها التقليدي في شمال أفريقيا. وهو ما يهدّد المصالح التركية والدور التركي في هذه المنطقة، خاصّة بعد أن دأبت فرنسا على أن تكون الرّكيزة الأساسية لمعارضة أيّ تقدم حاصل في المساعي التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويمكن الدلالة على ذلك من خلال تصريحات سابقة لوزير الخارجية التركي أحمد داود أواخر العام الماضي عندما قال "نحن العثمانيون الجدد" في إشارة إلى تنامي الدور التركي في شمال أفريقيا على حساب الدول الكبرى. وفي لهجة ساد فيها نزوع إلى التحدّي قال داود أوغلو في 24/11/2010: "لقد أعطيت أوامري إلى الخارجية التركية بأن يجد ساركوزي (الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي)، كلّما رفع رأسه في أفريقيا، سفارة تركية عليها العلم التركي".
 
تدرك حكومة العدالة والتنمية أنّ موقفها من تطوّرات الأحداث في ليبيا سيؤدّي إلى ردّ فعل سلبي في أوساط الشعب المساند بدرجة كبيرة لثورة 17 فبراير، خاصّة وأنّ أردوغان اتّخذ موقفاً متقدماً خلال الثورة المصرية وكان من الشّخصيات السبّاقة الدّاعية إلى تنحّي مبارك، انطلاقا من حجم التأييد الشعبي لثورة 25 يناير في تركيا، رغم أنّ استعادة مصر لدورها الطّبيعي في الدائرة العربية سيكون لها تأثير في التّغلغل التركي و نفوذه في هذه المنطقة.
 
كما سيكون للموقف التركي غير المفهوم للرأي العام انعكاسات على التجاذب الحاصل في الحياة السياسية التركية، حيث ستجد أحزاب المعارضة العلمانية وخاصةً حزب الشعب الجمهوري (CHP) وحزب الحركة القومية (MHP) ذريعةً لتجنيد رأي عام يسبق الانتخابات البرلمانية التي ستجري في شهر يونيو/حزيران المقبل، يتهم حزب العدالة والتنمية بتجاهل الدائرة الغربية كدائرة حاصنة للتوجّهات الجيوسراتيجية للسياسة الخارجية التركية مقابل دعم أنظمة "ديكتاتورية" في الدائرة الشرق أوسطية.
 
في المحصلة، إن براغماتية الموقف التركي ناتجة عن واقعية السياسة الخارجية التركية التي تسعى شأنها شأن الدول الغربية إلى الموازنة بين حسابات الرّبح والخسارة في مصالحها القومية قبل إنتاج أيّ موقف تدخّلي في ليبيا. لذلك، إذَا تمّ قرار فرض الحظر الجوّي على ليبيا، قدْ تطلب تركيا تفعيل "مبادرة إسطنبول" للتّعاون بين الناتو ودول الخليج العربي، ما يؤمّن ضمان مشاركة عربية في أيّ تدخل للناتو في ليبيا. وسبق أن أكدت الدول العربية المذكورة استعدادها للمشاركة من دون حاجة للعودة إلى اتفاقية اسطنبول.
 
لا شك أن موقف الحكومة التركية الحالي من العقيد القذافي والثورة في ليبيا قد ألحق ضرراً بصورة تركيا عند العرب وذلك بعد أن حققت تقدماً في عهد أردوغان نفسه.

التعليقات