تقدير موقف: احتمالات استمرار الوحدة والانفصال في اليمن

إنّ تقديم رؤية استشرافيّة عن واقع العلاقات بين "شطريْ" اليمن في المرحلة القادمة يتطلّب تسليط الضّوء على مكامن الخلل واستقراء واقع التهميش والإقصاء، والذي أنتج هذه الرّغبة الانفصاليّة، والتي قد تسهم أدبيات المرحلة الجديدة في تجاوزها وإعادة إنتاج محفزات للمحافظة على وحدة اليمن السّياسية والجغرافية

تقدير موقف: احتمالات استمرار الوحدة والانفصال في اليمن
أرستْ الثّورة الشّعبية في اليمن مجموعة معطيات تختلف عن الحراك الذي شهدتْه السّاحة اليمنيّة خلال السّنوات القليلة السّابقة. فمنذ بدْء الاحتجاجات السّلمية التي عمّت مختلف أرجاء اليمن اتّحد اليمنيّون على اختلاف مشاكلهم وقضاياهم وانتماءاتهم تحت شعار "إسقاط النّظام".
 
وخلقت هذه الحالة الثّورية معادلةً جديدة ثنائيّة الأطراف على السّاحة اليمنيّة، يمثّل الشّعب بغالبيّة أطيافه وفئاته على الامتداد الجغرافي للبلاد طرفه الأول، وطرفه المقابل النّظام، الذي بدأ يفقد تدريجياً قدرته على التحكّم في مفاصل الحياة السّياسيّة والعامّة.
 
وبعد أن أصبح مطلب التّغيير أقوى يوما بعد يوم رغم مظاهر الحشد والتّعبئة التي ينتجها النّظام، بدأت النّخبة الحاكمة تبحث عن بدائل تمكّنها من تفادي ما آلت إليه الحالة المصريّة والتّونسيّة.
 
وقد غابت القضايا الأساسيّة والفرعيّة الخلافيّة عن النقاشات خلال الثورة، دون أن يعني ذلك خبو جذوتها في التّفكير الجمعي أو النخبوي. ومع ظهور معالم مرحلة مستقبلية تبنيها الإرادة الشعبية، أُثيرت أسئلة عديدة عن مستقبل هذه القضايا الخلافيّة ومستقبل تفاعلاتها ضمن النّسق السياسي القادم.
 
وشكّلت " القضيّة الجنوبية" أبرز القضايا المثيرة للتّساؤلات الاستشرافية بعد مطالب الحراك الجنوبي السّلمي، السّابق للثورة الشعبية، بـ"فكّ الارتباط" وإنهاء عقد الوحدة التي تمّ إنتاجها عام 1990. وتنطلق النّخب اليمنية "الجنوبيّة" في الطرح السابق من فكرة أنّ الوحدة لم تكن جاذبة، وأنّ الإقصاءَ والتهميش اللذيْن نهجهما نظام علي عبد الله صالح أسهما في تبلور واقع شعبي ونخبوي مؤيّد لفكّ الارتباط وإنتاج شخصية مستقلّة عن الشّمال.
 
انطلاقاً من المدخل السابق، فإنّ تقديم رؤية استشرافيّة عن واقع العلاقات بين "شطريْ" اليمن في المرحلة القادمة يتطلّب تسليط الضّوء على مكامن الخلل واستقراء واقع التهميش والإقصاء، والذي أنتج هذه الرّغبة الانفصاليّة، والتي قد تسهم أدبيات المرحلة الجديدة في تجاوزها وإعادة إنتاج محفزات للمحافظة على وحدة اليمن السّياسية والجغرافية .
 
القضية الجنوبية
 
تُعتبر القضيّة الجنوبية قضيّة سياسية حقوقية ذات أبعاد اقتصادية واجتماعيّة مختلفة تهمّ أغلبية أبناء الجنوب، الذين أنتجوا حراكاً اجتماعياً تبَلور بعد عام 2006 في شكل حراك سياسي سلمي ضدّ واقع التهميش والإقصاء. ونتيجة قصور استجابة النظام وقمعه وعنفه الدموي ضدّ الحراك السلمي، رفعت النّخب السّياسية سقف مطالبها إلى حدّه الأقصى المتمثل في ـ"فكّ الارتباط".
 
قبل شهر من تاريخ إعلان الوحدة اليمنية في 22 أيار/ مايو 1990 التقت قيادتا الجنوب والشّمال في مدينة صنعاء لترتيب إنتاج قيادة موحّدة لليمن. وتمّ الاتّفاق بحسب المادّة 2 من اتّفاقيّة الوحدة على تشكيل مجلس رئاسة يتكوّن من 5 أشخاص ينتخبون رئيسًا للمجلس من بينهم. وتمّ مراعاة الانحدار المناطقي وانتماءات أعضاء المجلس القبلية ، ليتوزّع أعضاؤه كالتالي: 
 
 
لكن بعد الحرب اليمنية عام 1994، و ما تمخّض عنها من تعديلات دستورية بإلغاء مجلس الرّئاسة وتولي صالح منصب رئيس الجمهورية، الذي تركّزت بيده صلاحيّات شبه مطلقة، ورغم أنّ الرّئيس صالح عيّن اللّواء عبد ربه منصور هادي (جنوبي) نائباً لرئيس الجمهورية، إلاّ أنه عمل على تركيز السّلطة والتمثيل والنّفوذ في أسرته وقبيلته. وانعكس ذلك على السّلطات الثلاث.
 
فعلى مستوى السّلطة التّشريعيّة، تراجع التّمثيل الجنوبي بدرجات كبيرة عمّا نصّت عليه اتّفاقية الوحدة عام 1990، والتي حدّدت حجم التّمثيل بنسبة (54%) للشّمال و (46%) للجنوب. والجدول التالي يحدّد بوضوح حجم إقصاء الجنوب و تهميشه (دراسة أعدّها في محافظة عدن د. محمد حسين حلبوب عام 2010)
توزيع مقاعد مجلس النوّاب بين الشّمال والجنوب بعد الوحدة اليمنية
 
لم يقتصر التهميش على التّمثيل في السّلطةالتشريعيّة، بل امتدّ إلى مختلف النّواحي الإداريّة والعسكرية، فقبل الحراك الجنوبي 2006 تمّ تعيين ثلاثة محافظين شماليّين لثلاث محافظات جنوبية من أصل خمس وهي (حضرموت ، لحج ، المهرة) .وبعد عام 2007 أصبح جميع محافظي المحافظات الجنوبية منالشمال. أمّا في المؤسّسة العسكريّة فنجد أنّ نسبة الجنوبيّين تقدَّر بـ(12.3%).
 
بدأ التحرّك الجنوبي ضدّ حالة التهميش والإقصاء منذ عام 1998، حيث شهدت حضرموت أوّل مظاهرة احتجاجيّة تمّ قمعها بالقوّة المسلّحة. وتجدّدت المظاهرات في عام 2000، و شاركت فيها الأحزاب السّياسية المعارضة وبعض منظّمات المجتمع الأهلي، الأمر الذي أجبر السّلطة على الاعتراف بوجود "قضيّة جنوبية" ووعدت باتّخاذ تدابير سياسيّة واجتماعية لحلّها. إلاّ أنّ المعالجة الحكوميّة لم تتعدّ تشكيل لجان وعقْد لقاءات دون خطوات تنفيذيّة جدّية.
 
ونتيجة لفشل المعالجة الحكوميّة، بدأ ما أطلق عليه لاحقا تسمية "الحراك الجنوبي" في عام 2007. وأخذ طابعاً سلمياً رافعاً سقف مطالبه إلى ضرورة إنهاء آثار حرب عام 1994، والعودة إلى المجلس الرّئاسي. اختلط هذا المطلب بمطالبَ اجتماعيّة كالبطالة والفساد وغيرها. وهو ما أسهم في تبلور رأي عام "جنوبي" تضامني مع هذه الاحتجاجات. بعدها بدأت القضيّة الجنوبية تتجلى في شكل صراع سياسي سمته الأساسيّة الفشل في بناء الدولة المعاصرة وغياب العدل عن توزيع الثروة والسّلطة. لذلك ساد نزوع لدى الجنوبيّين بأنّ "فكّ الارتباط" هو ضرورة حتميّة وشرط للتّخلّص من الإقصاء الاجتماعي والسياسي الذي فرضه نظام علي عبد الله صالح.
 
الثورة اليمنية واحتمالات الوحدة والانفصال
 
تنطلق غالبية النّخب الجنوبية من أنّ الثّورة الشّعبية ضدّ نظام علي عبد الله صالح برهنت على مشروعيّة المطالب الجنوبيّة. فقد تمحورت حول رفض التفرّد والمركزة التي اتّبعها النظام اليمني. لذلك يعتبر معظم هؤلاء أنّ "فكّ الارتباط" سيبقى خياراً لأبناء الجنوب حتى بعد نجاح الثورة. على اعتبار أنّ هذا الخيار أصبح مطلباً شعبياً ومعطىً لا مفر منه بعد سنوات طويلة من الإقصاء والتهميش والإلغاء.
 
ورغم واقعيّة هذا الطرّح، إلاّ أنه يقوم بشكل أساس على مصالحَ سياسيّة تطوّرت لدى بعض النّخب والقيادات الجنوبية. فقد أنتجت الثورة حالة وطنية شاملة وتنسيقا أفقيّا بين الفئات الشّبابية في مختلف أنحاء اليمن، وتوحّدت تحت شعار واحد "إسقاط النّظام"، ولم ترافقها أدبيات أو دعوات انفصاليّة. وهو ما أسهم في نجاحها وتجلّيها بالشّكل السّلمي الحضاري الحاصل حالياً، رغم محاولات النّظام استنهاض انتماءات فرعيّة (قبلية، مناطقية، طائفيّة). لذلك فإنّ السيناريوهات التي ستحكم العلاقة بين الجنوب والشّمال ستقوم على ركيزة أساسيّة وهي: كيف يمكن أن تكون الوحدة جاذبة؟ وعليه ستكون المرحلة الانتقاليّة هي المدخل باتجاه تفعيل ذلك أو تكريس الوضع الرّاهن.
 
مجلس رئاسي
 
يتحدّد هذا السّيناريو بمحاكاة المعطيات التي أنتجت اتفاقيّة الوحدة في 22 أيار/مايو 1990 عبْر تشكيل مجلس رئاسي خلال المرحلة الانتقاليّة يراعي التّمثيل بحسب البعديْن الجغرافي والدّيمغرافي. وعليه تصبح اتّفاقية الوحدة بجميع موادّها هي المرتكز لدستور جديد، يضمن بموادّه المشاركة السّياسيّة والانخراط الفعلي للجنوب في الحياة السّياسيّة والعامّة. بعدها يتمّ إجراء الانتخابات البرلمانيّة وفق نظام النّسبيّة، الذي سيعكس حجم التّمثيل الشّعبي الجنوبي، خاصّة وأنّ التّجربة الحزبيّة في الجنوب هي تجربة متأصّلة منذ سبعينيات القرن الماضي.
 
انطلاقاً من ذلك، تكون التّحالفات الانتخابيّة والحزبيّة في البرلمان هي المعيار في تحديد شكل النّظام السّياسي المقبل. ويستطيع هذا السّيناريو، إذَا تمّ تنفيذُه، التخلّص من آثار حرب عام 1994 وما نجم عنها من تجاوزات دستوريّة وقانونية.
 
لكن هناك عقبات جمة تعترض هذا المسار، تتعلّق بموقف القيادات الجنوبية من جهة، وماهية الدّور الذي ستلعبه المؤسّسة العسكرية في المرحلة القادمة من جهة أخرى، خاصّة وأنّ قسما كبيراً في المؤسّسة العسكرية انضمّ إلى الثّورة ويفاوض على المرحلة الانتقاليّة باسمها. يضاف إلى هذا دور الفاعلين الدّوليّين والإقليميّين ومدى تقبّلهم لمثل هذا السّيناريو.
 
رئيس جنوبي وضمانة العسكر
 
لم تتّضح معالم ترتيب المرحلة الانتقاليّة، ولكن يتجلى دورٌ بارز لنائب الرّئيس الحالي عبد ربّه منصور هادي، وقائد المنطقة الشّمالية المنشقّ عن نظام صالح علي محسن الأحمر. من المرجّح لمواجهة واقع الانفصال، بعد تنحّي صالح، تسليم زمام الحكم في اليمن لنائب الرئيس الحالي (جنوبي محسوب على معسكر علي محسن صالح)، كمبادرة لجعل الوحدة جاذبة، والحفاظ على ضمانة العسكر التي تسندها أيضا دولٌ إقليميّة ودول كبرى تخشى ضعف الجيش اليمني في مواجهة القاعدة والحوثيّين. ويرفض الرّئيس اليمني هذا السّيناريو الذي يؤدّي عمليّا إلى الاستغناء عن دوره ودور رجالاته. وقد اقترح في إحدى مراحل التّفاوض مع المعارضة تعيين رئيس حكومته نائبا للرّئيس تمهيدا لتسليمه السّلطة.
 
نظام اتحادي كونفدرالي
 
وهو من أكثر السّيناريوهات واقعيّة، وقد يجسّد الرغّبة الشّعبية والنخبوية الجنوبية في إنتاج واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي متمايز عن الشّمال. وفي إطار هذا النظام الاتّحادي لا يرتبط الجنوب بالشّمال إلاّ في مجالات السّياسة الخارجية والدّفاع. لكنه أيضا سيناريو تُواجهه عقباتٌ عديدة، تتمثّل في غياب ثقافة سياسيّة مدنيّة، ودور القبيلة باعتبارها محدّدا رئيساً يدخل في تفاعلات النّظام السّياسي.
 
استفتاء على تقرير المصير
 
قد يكون خيارُ فكِّ الارتباط هدفاً للجنوب في هذه المرحلة، تفشل السيناريوهات السابقة في تَلافِيه. لذلك فمن المرجّح عندها أن يمنح النّظام السّياسي في اليمن، بعد تنحّي علي عبد الله صالح، فترةً انتقاليّة عدّة سنوات تكون مهمّته خلالها جعل خيار الوحدة أو الاتّحاد خياراً جاذباً. وخلاف ذلك يصبح الانفصال هو المآل على غرار ما حصل في جنوب السّودان مطلع العام الحالي. ورغم التّشاؤم الذي يحيط بهذا الخيار إلاّ أنه قد يتضمّن نتائجَ إيجابية تتجلّى في تعزيز خيار الوحدة إذا ما تمّ دراسة الحالة السودانية بشكل معمّق، خاصّة وأنّ جنوب اليمن لا يختلف ثقافياً أو بنيوياً عن شماله. ومع هذا فإنه يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ الفترة التي ستخصّص لخيار الوحدة والإغراء به قبل إجراء استفتاء تقرير المصير، سيعمل خلالها أيضا مؤيّدو الانفصال على إفشال أيّ خطوة تجعل الوحدة جذّابة لأنّ الاستفتاء يشكّل تحدّيًا بالنّسبة إليهم أيضا.
 
 إنّ إنتاج نظام ديمقراطي مدني في المرحلة المقبلة في اليمن، من دون تحديد تاريخ استفتاء أو غيره، هو ما يسهم في تحقيق العدالة الاجتماعيّة ويقوم على أساس المواطنة وحقّ المشاركة السّياسيّة لمختلف شرائح المجتمع اليمني، ويكون أحد أبرز العوامل التي يمكن أن تزيل مسبّبات الانفصال.
 
بالمحصّلة، فإنّ العلاقة بين الشّمال والجنوب ترتبط أساسا بطبيعة المرحلة الانتقاليّة المقبلة وشكل النّظام السّياسي الجديد في اليمن.

التعليقات