العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (4/5)../ محمد جمال باروت

يركّز الباحث في الحلقة الرابعة على إشكاليّة العلاقة بين التّنمية والديموقراطية، واضعاً الفهم السياسي للديموقراطية في إطار فهم معمّق للتنمية، بينما يختتم هذه السلسلة في الحلقة القادمة والأخيرة الخاصّة بإعادة تشكيل الأحداث التي شهدتها سورية. و يبلور الباحث في هذا السّياق مفهوم النّظام التسلّطي المتلبرل الذي يمثّل مشتركاً بين تجارب اللّبرلة الاقتصادية التسلّطية في كلّ من تونس ومصر وسورية، وذلك كمفهوم نظري مشتقّ من التحوّلات الاقتصادية- الاجتماعية- الاتصالية و الثقافية والرمزية نفسها التي شهدها المجتمع السوري في العشريّة الأخيرة

العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح (4/5)../ محمد جمال باروت

يركّز الباحث في الحلقة الرابعة على إشكاليّة العلاقة بين التّنمية والديموقراطية، واضعاً الفهم السياسي للديموقراطية في إطار فهم معمّق للتنمية، بينما يختتم هذه السلسلة في الحلقة القادمة والأخيرة الخاصّة بإعادة تشكيل الأحداث التي شهدتها سورية. و يبلور الباحث في هذا السّياق مفهوم النّظام التسلّطي المتلبرل الذي يمثّل مشتركاً بين تجارب اللّبرلة الاقتصادية التسلّطية في كلّ من تونس ومصر وسورية، وذلك كمفهوم نظري مشتقّ من التحوّلات الاقتصادية- الاجتماعية- الاتصالية و الثقافية والرمزية نفسها التي شهدها المجتمع السوري في العشريّة الأخيرة.

ويقوم هذا المفهوم على الفصل بين اللّبرلة الاقتصاديّة واللّبرلة السياسية. ويتّصف هذا المفهوم كما يشتقّه الباحث ويبلوره بطبيعته الاقتصاديّة والاجتماعية والثقافية والسكّانية والسياسية المركّبة التي تفترض منهجيّة عابرة للاختصاصات في فهم الظّواهر الاجتماعية، وتحليل دينامياتها.

 وفي إطار هذه المفهوم المركب يتوقّف عند التمييز بين الإصلاح المؤسّسي واللبرلة الاقتصادية التّسلطية والديموقراطية، محلّلاً المأزق الذي نجم عنه اختزال  مشروع الإصلاح المؤسّسي السوري إلى برنامج تحريري اقتصادوي تسلطي، تقوده  شريحة" المئة الكبار" من فئة رجال الأعمال الجدد التي شكّلت" بوّابة" دخول الاستثمارات إلى سورية. وبالتالي يعامل الباحث عمليّة إعادة الهيكلة الاقتصادية بوصفها عمليّة تغيّر ثقافي واجتماعي كبيرة، وشديدة الآثار على مختلف حيّزات الحياة الاقتصادية- الاجتماعية- الثقافية، بما يسمح بخلفيّة اندلاع الحركات الاحتجاجيّة وطبيعتها وخصائص انتشارها الاجتماعي والمجالي.

أسئلة التنمية والديمقراطية: نهاية النظم التسلطيّة الملبْرلة

 تشير حصيلة تجربة العلاقة بين التحريرية الاقتصاديّة (اللبْرلة) وبين التحريريّة السياسية في بعض البلدان العربيّة، ولا سيّما مصر وتونس وسورية، إلى عدم وجود علاقةٍ ضروريةٍ بينهما، إذ إنّ عملية التحرير يمكن أن تتمّ في إطار تسلّطي سياسي ينتج نموذج اللبْرلة التسلطية التي تضفي على التّنمية الطابع التسلّطي وتقصيها عن الديمقرطية. وهذا ما يميّز التسلّطية الملبْرلة عن الدّمقْرطة. وعلى هذا النحو ثمّة فارق جليّ بين التحوّل اللّيبرالي (الاقتصادوي) والتحوّل الدّيمقراطي، وبين" اللبْرلة" و" الدمقْرطة"(1).

الإصلاح و اللبْرلة و الدمقْرطة

 يثير ذلك أهميّة التّمييز بين ثلاثة مفاهيم في العلاقة بين التّنمية والديمقراطية في العالم العربي لفهم خلفيّة حركة الاحتجاجات والثّورات الجديدة التي لا تزال تشهدها أكثر من دولة عربيّة. وهذه المفاهيم هي "الإصلاح" و "التحرير"(التلبْرل) و "الدمقْرطة". وينهض هنا الالتباس بين مفهوميْ "الإصلاح" و"التلبْرل" الذي يعود، بدرجة رئيسة، إلى شيوع مفهوم المؤسّسات الدوليّة للمطابقة بين عمليّتيْ "الإصلاح" و "التلبْرل" وتعميمها تحت مصطلح برنامج الإصلاح الاقتصادي والتّكيّف الهيكلي (Economic Reform and Structural Adjustment Program).

"
عطّلت مواقع التواصل الاجتماعي التفاعلية آليات الهيمنة التقليدية التي وظّفتها السّلطات المسيطرة للهيمنة على الفضاء العام، وبرعمت تشكّل فضاء عام جديد يتّسم بتحرّره من تلك الآليّات، وبالقدرة على تحدّيها وتخطّيها ووضعها في موضع الإحراج والضّغط، وتعديل سلوكها بما يفرض على النّخب التسلّطية الخضوع نسبياً إلى قواعد اللّعبة الجديدة
"

 وهذا البرنامج، في حقيقته، ليس برنامج "إصلاح" بل برنامج" لبْرلة" اقتصادوي، تشكّل الليبراليّة الجديدة مرجعيّته، وتتركّز أولويّاته على إعادة هيكلة الاقتصاد باتّجاه تحريره أو لبْرلته، وتحوّله إلى نظام اقتصاد السّوق المندمج أو القابل للاندماج في الاقتصاد العالمي بعد إعادة هيكلته، أكثر ممّا تتركّز على ربط التحوّلات الاقتصاديّة بقضيّة التّنمية البشرية(2). وقد تمّ تطبيقه نمطياً في جميع الدّول العربيّة التي طبّقته بطريقة "الوصفات" أو "الجرعات" و "الحقن" التي يضطلع فيها الخبراء بوظيفة الأطبّاء بالنّسبة إلى "الأجسام المريضة". لذا يجب تحديد هذا المفهوم ضمن محدّداته الجوهريّة التي تحكم سائر مستوياته الأخرى المحصورة في نطاق عمليّة "اللبرلة"، وتخصيص مفهوم الإصلاح بالإصلاح المؤسّسي الذي تشكّل التّنمية البشريّة مرجعيّته الأساسيّة.

يختلف هنا الإصلاح بمعناه المؤسّسي عن التّحرير( التلبْرل) بمعناه اللّيبرالي الاقتصادوي الضيّق، في أنّ الإصلاح المؤسّسي يستوعب التحرير أو اللبْرلة في إطار عمليّة إصلاح مؤسّسية شاملةٍ تشكّل التّنمية البشريّة مرجعيّتها، بينما يقصي التّحرير الاقتصادي " الملبْرل" الصّرف الجوانب المؤسّسية من عمليّة الإصلاح الاقتصادي، ويهتمّ بنموذج رفع معدّلات النموّ أكثر ممّا يهتمّ بنموذج التّنمية، أو ربط النموّ بقضايا التّنمية.

الإصلاح والدمقْرطة والتنمية

لا يقود الإصلاح المؤسّسي التّنموي بالضّرورة إلى التحوّل الديمقراطي، فهو قد تمّ في دول غير ديموقراطية سياسياً، لكنه يؤثّر فيه من طريق عقْلنة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة تنظيم البنيات الاقتصادية- الاجتماعية وإصلاحها، ليشمل إدخال تغييرات جوهرية فيها. إنّ التوزيع العادل نسبياً للسّلع العمومية public goods (المنافع العامّة)، مثل التربية والصحّة والضّمان الاجتماعي، ومضاعفة حصّة الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي، ومحاولة التّشغيل الكامل لقوّة العمل، وبناء قدراتها، كلّها عناصر أساسيّة تساهم في تعزيز العلاقة بين التّنمية والدّيمقراطية، إذ تعتبر تلك السّلع من العناصر الأساسيّة للدّيموقراطية الاجتماعية. وعلى سبيل المثال، فإنّ جودة التعليم في تلك النّظم توفّر الأدوات اللاّزمة للفرد كي يصبح مواطناً قادراً على استيعاب حقوقه الديمقراطية وممارستها. إنّ المشاركة والمساءلة والشّفافية عناصر مشتركة بين المؤسّسية التنمويّة والديمقراطية(3). والمؤسسية التي ترسخ قواعدها في حياة الدولة تيّسر عملية التحوّل الديمقراطي أمام الدّيمقراطيين وتختصره، وحين يتم التحوّل الديمقراطي بفعل ديناميات الثورة أو ديناميات تغيرية أخرى فلا مفر، في حال النقص المؤسّسي، من أن تترافق عملية بناء النظام الديمقراطي مع بناء النظام المؤسّسي في صيغة النظام المؤسّسي الديمقراطي، الذي يدمج عضوياً قضايا الإصلاح بمعايير الحكم الصالح، وهي معايير ديمقراطيّة بالضّرورة.

يتمثّل الأثر الصافي للإصلاح المؤسسي في قضيّة الدمقْرطة في تعزيز بناء الدولة الحديثة التي تشكّل المواطنة وحقوقها السياسية والاجتماعية مبدأَها الأساسي. إذ لا يقف عند حدود الإطار النّظري والعملي الاقتصادي الجزئي(Micro-economique) لليبراليّة الاقتصادوية أو لفاعلية المنشأة (قياس الجودة، إدارة المشاريع، معايير حوكمة الشّركات، بيئة الاستثمار، المشاريع المتوسّطة والمتناهية في الصغر... إلخ)(4)، بل يستوعب هذه الفاعليّات، ويتخطّاها في الوقت نفسه إلى الإطار الاقتصادي الكلِّي (Macro-economique) والاجتماعي والقانوني، معيداً تقويمها بوضعها في هذا الإطار عبر الإدارة الدّيمقراطية والشفّافة للسوق باسم المصالح العامّة للمجتمع، وعبر التوافق التفاوضي بين الأطراف الاقتصاديّة والاجتماعية وفق فلسفة "الملعب المستوي"(5)، وليس وفق مصالح لاعبين بأعينهم من شريحة "رأسمالية الحبايب والقرايب" فعلياً. ولذلك يفرض الإصلاح المؤسّسي نفسه على النظم كلّها في مرحلة ما قبل التحوّل الدّيمقراطي أو خلالها أو بعدها، بمعنى أنّ الإصلاح المؤسّسي حلقة جوهرية أساسيّة في عملية الدمقْرطة.

يُبنى نموذج الإصلاح أو الإصلاح المؤسسي مرجعياً، كما تمّ في دول شرق آسيا وحتى ولو تمّ في إطار غير ديموقراطي، على التنمية البشرية التي تربط النموّ والتنمية، بالتمكين والتحرير، وبناء القدرات البشرية لقوّة العمل بتحقيق معدّلات نموّ اقتصادي مرتفعة. وتشكّل بذلك حلقة ضمنيّة في تدعيم عناصر التحوّل لاحقاً إلى الديمقراطية. فقد بيّنت نتائج عمليّة بناء القدرات البشريّة أنّ معامل التنظيم المؤسّسي يمكن أن تضيف نقطة أو نقطتين مئويتين إلى معدّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي من دون الحاجة إلى القيام باستثماراتٍ ماديّةٍ ملموسةٍ على نطاقٍ واسعٍ(6).

ما هو مشترك بين التجارب المصريّة والتونسية والسوريّة في عمليّات "التلبرل" الاقتصاديّة في إطار آليّات ضبط تسلّطية هو اختزال عمليّة الإصلاح المؤسّسي إلى عمليّة تحريرٍ أو لبْرلةٍ" اقتصادية، وتطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي للمؤسسات الدولية وبرامجه بروح "وفاق واشنطن" التقليدي وليس حتى بروح "وفاق واشنطن الموسّع". بإمكان النظم التسلّطية المتلبْرلة في العديد من دول العالم أن تحرّك معدّلات نموّ اقتصادي مقبولة بل ويمكن في شروط معيّنة أن تكون هذه المعدّلات مرتفعة، فقد حقّقت تونس مثلاً معدّلات نموّ مرتفعةً قياساً على معدّل النموّ السكّاني، كما حقّق النظام العسكري السابق في البرازيل معدلات نموّ تفوق10%، لكنها تفضي، في ظلّ هشاشة المعامل المؤسّسي، إلى اختلالات التّنمية على المستوى المناطقي بين المراكز والأطراف، وتخفق في التّوزيع المنصف للدّخل، وتفاقم فجواته، وارتفاع معدّل الفقر والبطالة في الأقاليم، واتّساع حجم الفئات الضعيفة والهشّة والمهمّشة، وتساقط ثمار النموّ في سلّة حفنةٍ من رجال الأعمال الجدد من "رأسماليّة" المحاسيب" و "الحبايب والقرايب". ولهذا امتزجت في كافة الثّورات والاحتجاجات التي اندلعت في العالم العربي، ولاسيّما حركات وثورات تونس ومصر وسورية التي تشترك فيما بينها بخصائص النّظم التسلطيّة الملبْرلة، قضايا الحريّة بقضايا العدالة والإنصاف الاجتماعية، واسترداد حقوق المواطنة السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية التي صادرتها النظم التسلّطية، والمحكومة بأجهزة الاستخبارات والقوانين الاستثنائية. إنّ التنمية تغدو حليفاً استراتيجياً للديمقراطية في حالةٍ واحدةٍ فقط حين تكون قد أنجزت مرحلة الإصلاح المؤسَسي التي تمهّد الطريق لتحوّل ديمقراطي آمن.

أفرزت العلاقة بين التحوّل الليبرالي والتحوّل الديمقراطي في هذا السّياق ثلاثة أنماط تميّز ما هو مشترك فيها، أي نمط النّظم التسلّطية الملبْرلة، وهي: النمط المصري، ويتمثّل في قيام نظام تسلّطي مركزي يسمح بقدر معيّن ومضبوط من حرّيات الصّحافة والتجمّع وتأليف الأحزاب والجمعيّات بما لا يُدخل تغييرات جوهريّة على البنية التسلّطية الحاكمة، في إطار نمط الحزب التسلّطي المسيطر؛ والنمط التونسي الذي يتمثّل في قيام نظام تسلّطي (بوليسي) متلبرلٍ اقتصادياً، ويحرّك معدّلات نموّ جيّدة في إطار مركزية رئاسيّة عائليةٍ وقرابيةٍ ومحسوباتيّة تقوم على تأميم المجتمع المدني، وعلى تمثيليّة محدودة من أحزاب الموالاة، لكنه يخفق في التّوزيع المنصف للدّخل، وفي التنمية المناطقيّة. أمّا النّمط الثالث فهو النّمط السوري الذي انطلق في العشريّة الأخيرة من مرجعيّة خطاب الإصلاح المؤسّسي المنفتح على معايير الحكم الصالح، في صيغة إصلاح مؤسّسي ذي عناصر ديموقراطية، ثمّ تمَّ اختزاله في عملية "لبْرلة" يقودها تحالف البيروقراطيّة مع شريحة رجال الأعمال الجدد التي أعيد تكوينها لهذا الغرض. وتحتذي هذه الشّريحة فعلياً برامج "وفاق واشنطن" وسياساته وروحه في عملية "اللبْرلة" الاقتصادية والاجتماعية، أكثر ممّا تستلهم روح "وفاق واشنطن الموسّع"، وترسيم هذا الاختزال سياسياً تحت عنوان "التحديث والتطوير" كسقف لحدود العلاقة بين التلبْرل وقضية التحوّل الديمقراطي، في إطار ما يمكن أن نطلق عليه اسم "حزب الواحد والنصف"(الجبهوي)(7). وبهذا الشكل اختزلت التغييرات الجوهريّة التي تنطوي عليها عمليّة الإصلاح المؤسّسي في تعديلات بسيطة لا تغيّر شيئاً من البنى والدّيناميات التسلطيّة الحوكمية المسيطرة، ومن علاقاتها الزبائنية النمطيّة الموروثة من المرحلة السّابقة.

التجربة السورية: من تفسيخ السمات التوتاليتارية إلى التسلطية الملبْرلة وتغيير الأدوار

ما يدعوه الاقتصاديون إعادة هيكلة اقتصادية، هو ما يدعوه السوسيولوجيون عمليّة تغيير اجتماعي، والأنثروبولوجيون عمليّة تغيير ثقافي. ويعني ذلك أنّ عمليّة إعادة الهيكلة وإن كانت، في المنظور الاقتصادوي عمليّة اقتصادية، إلاّ أنها في العمق عمليّة تغيرٍ اقتصاديةٍ - اجتماعيةٍ - ثقافيةٍ تفرز أنماطاً جديدةً من السلوك والحياة ومن التغيّرات الكبيرة في شتّى زوايا الحياة الاجتماعيّة.

في إطار هذا الفهم فإن عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية التحريرية في العشريّة الأخيرة وما رافقها من العولمة، وإرغامها كافة اللاعبين على "التعولم"، أدّت إلى تفكيك الخصائص الشّمولية( التوتاليتارية) التي اكتسبتها الجمهورية الشعبوية البعثية في فترة (1984 -2000) إبان المواجهة الدامية بين السلطة والجماعات الإسلامية المسلّحة في الثمانينيات(1976 -1983). وبحلول نهاية العشريّة الأولى كانت معظم هذه الخصائص قد انحلّت وتفسّخت، أو خمدت جراء عوامل موضوعيّةٍ وذاتيّةٍ مركّبةٍ.

كان أبرز ما تفسّخ من السّمات الشمولية (التوتاليتارية) السابقة، هو نموذج" القائد الكاريزمي" المؤسّس على أيديولوجيا وطنيّةٍ وقوميّةٍ رساليةٍ، والذي يمثّل في شخصيّته وحدة الحزب والدّولة والمجتمع(8)، وتفسّخ احتكار الدولة للاتّصالات والإعلام والاقتصاد بما في ذلك تفسّخ احتكارها سياسة المحاصيل والتّسويق في القطاع الزراعي بوتائر مختلفة، والتخلّي عن مبدأ احتكارها التعليم بتحريره وفتحه بمختلف مراحله أمام استثمارات القطاع الخاصّ، بحيث تحوّلت الدولة من مسيطر على بعض هذه المجالات إلى مجرد لاعب بين لاعبين آخرين منافسين لها يمتلكون مصادرَ جديدةً في قوّتهم الاجتماعيّة والسياسيّة.

 اقترنت عمليّة التفسّخ الموضوعيّة (آثار ثورة الاتصالات وتعولم العالم) والتفسيخ (السياساتية) بحدود معيّنة للآليات التوتاليتارية السّابقة، وفي حدودٍ ومجالات معيّنة لبعض الديناميات التسلطيّة الصّرفة(9) مع رفع وتيرة التّحرير أوالتلبْرل، بانحلال العقد الاجتماعي - السّياسي - الاقتصادي المرجعي بين سلطة الحزب والمجتمع بوصفه دستورياً "الحزب القائد للدولة" من جهة، و"المجتمع" من جهة أخرى، والتحوّل من نظام "الاشتراكية" إلى نظام "اقتصاد السوق الاجتماعي"، ومن مفهوم "البورجوازية" إلى مفهوم "رجال الأعمال" ما يمكن وصفه بخضوع أيديولوجيا الحزب- الدولة إلى عملية إحلال أيديولوجي متلبرلة الشكل(10)، وإعادة تعريف الأدوار الاجتماعية لكلٍّ من الدولة والحزب والقطاعات العامّة والخاصّة والمنظّمات وغرف الأعمال... إلخ، وإدخال تعديلات جوهريّة على وظائفها ومكانتها، وإدماج أدوار جديدة للاعبين اقتصاديّين- اجتماعيّين جدد في عملية التّحرير أو التلبرل.

 في عملية إعادة تعريف الأدوار ظلّ الحزب رسمياً "قائد الدولة والمجتمع"، لكن الدّور الأساسي للقيادة القطرية تراجع وتغيّر لمصلحة اللجنة السياسية العليا التي انحصر دورها في العمل اليومي مع المنظّمات الشعبية والمهنية "الكوربوراتية" (التضامنية)، كما رفعت الحصانة السياسية عن القيادات الحزبية وقيادات الفروع في حال ارتكاب مخالفات أو استغلال نفوذ تستدعي التحقيق معهم أو مثولهم أمام القضاء. لقد تغيّرت المكانة، وهي معلم من معالم تغيّر القوّة.

يفهم تغيّر أدوار اللاّعبين على أنه نتيجة عملية تغيّر اجتماعي، وبوصفه كذلك فإنّ الأدوار كما في المسرح، شخصيات تتوارى وتظهر ضمن قواعد اللعبة المسرحيّة لعلاقات القوّة الاجتماعية والسلطة(11) وهي في ذلك تغيّر مواقع النّفوذ والتأثير، وتُعلي منزلة لاعبين معيّنين، بينما تحطّ من منزلة بعضهم الآخر. كان أبرز اللاّعبين الجدد أولئك الذين ينتمون إلى قوى السوق في مرحلة تغيّر العلاقة جوهرياً بين القطاعيْن العامّ والخاصّ، بحيث غدا لممثّلي القطاع الخاصّ، وبشكل أكثر تحديداً لرجال الأعمال الجدد وشركاتهم القابضة التي مثّلت بوّابة دخول الاستثمارات إلى سورية، "صوت مسموع" ومؤثّرٌ في استراتيجيات الهيمنة الأيديولوجية. فحتّى أواخر العقد المنصرم تمّ منْح تراخيص لأكثر من 192 مطبوعة ثقافية - إعلامية - اقتصادية. وتمّ منح ترخيص لــ 13 إذاعة تجاريّة خاصّة، باشر العمل منها 12 إذاعة، وظهرت محطّتان تلفزيونيتان، استمرّت واحدة منهما يملكها عددٌ من كبار رجال الأعمال السّاعين إلى التأثير في السّياسة وفي تشكيل الرّأي العام، وهي محطّة "الدنيا". والجوهري في ذلك هو الارتباط بين عمليّة تحرير الإعلام وبين دور القطاع الخاصّ فيه، وإعادة تعريف دوره بوساطته نفسه كقطاع يعمل في إطار قواعد اللعبة من أجل ذاته، إلى درجة طرح فكرة دمج رجاله الكبار في الحزب على غرار تجربة لجنة السياسات في الحزب الوطني المصري السابق(12)، ووضع شبكة الإعلام الخاصّ في فضاء النّشاط الاقتصادي والاجتماعي لرجال الأعمال ولا سيّما الجدد منهم وغرفهم وعشاءاتهم ولقاءاتهم وأفكارهم ومشاريعهم، وطقوس مهابتهم، ومحاولتهم الاضطلاع بدور نجوم الرّأي العام. ويقترب التّداخل بين هذا النّشاط ودمج عدد من المثقّفين والصّحافيين والشّخصيات الاجتماعية والسّلطوية البارزة، من روحية اجتماعات (الروتاري) القائمة على دمج الشّخصيات العامة برجال الأعمال في إطار رؤيةٍ (روتاريةٍ) كانت قد مثّلت رؤيةً مسبقةً للتعولم.

كانت تلك محاولة لإعادة تعريف دور الحزب وحلفائه "الجبهويين" المتحدين معه (حزب الواحد والنصف) في سياق ما أفرزته عملية "التلبرل" من تغييرٍ في أوزان الأدوار الاجتماعية ومكانتها في تراتبية العلاقة بين مصادر القوّة وسياسات السّلطة المتلبرلة، ومحاولة إعادة هيكلة وظيفته على أساس "الفصل" بينه وبين الحزب، بحيث يضطلع الحزب بالوظيفة السياسيّة وحدها، بينما تعمل أجهزة السلطة التنفيذيّة وفق أصولها من دون تدخّل حزبي في يوميّاتها على أساس الوظيفة التنفيذية. وعلى الرغم من أنّ هذه الصّيغة أخفقت، ووجدت معارضة من الحزب، فإنّها طرحت أوّل مرّة، تحديد دور الحزب على جدول الأعمال، في محاولة لفضّ مشكلات التشابك والتداخل والتراكب بين الحزب والدولة على أساس تحديد الوظائف و"فصلها". وطُرح على بساط البحث التخلص من قيادة الحزب للدولة والمجتمع التي غدا كثير من مؤشّراتها رمزياً وقطاعياً لمصلحة قوى السّلطة والمال بالمعنى الضيّق. وحدث الشّيء نفسه حتى قبل اندلاع الأحداث الأخيرة في شأن تحديد وظائف الأجهزة الأمنية الأربعة التي كانت تتدخّل في أيّ شيء أكان في نطاق وظائفها أم لا(13).

من نظام تسلطي شعبوي "صلب" إلى نظام تسلطي "مرن"

"
بالنّسبة إلى سورية تكفي المقارنة بين لحظة العام 1998 ولحظة العام 2011. ففي العام 1998 حين احتدمت حرب المواقع بين مراكز القوى في الهيئات القياديّة السّورية، على خلفيّة انزواء الرئيس حافظ الأسد جراء تردّي صحّته، قام أحد الأجهزة الأمنيّة بحملة يائسة على الصّحون اللاقطة للبثّ الفضائي ومصادرتها من سطوح المباني في بعض الأحياء. وكانت هذه أوّل وآخر معركة تتورّط فيها الأجهزة في مقاومة ما لا يمكن مقاومته، إذ كانت العمليّة رعناء واعتباطيةً
"

نتج من عملية إعادة تعريف أدوار اللاعبين الاجتماعيين- الاقتصاديين- السياسيين في مرحلة التلْبرل توليد نظامٍ جديدٍ تسلطي متلبْرلٍ، يشكّل "رجال الأعمال الجدد" قاطرته في الاستثمارات والتحالف مع الاستثمارات الخارجية، لرفع معدّل النموّ الاقتصادي. لم ينسف هذا النظام الوليد البنية المؤسسية "الكوربوراتية" الشعبوية التقليدية للتسلّطية البيروقراطية المؤلّفة من منظمات الحزب الشعبية بدرجة أساسيّة لكنه أضعفها كثيراً. لقد كانت "الكوربوراتية" التقليدية الحزبية والمنظّماتية ملازمةً لنظام الحكم البيروقراطي التسلّطي القديم، وتشكل منظومته في احتواء القطاعات الشعبية، وإدماجها في ديناميات المشاركة السياسية والمجتمعية، وأدوات ضبطه السياسي والاجتماعي(14). بينما تعزّز دور هيئات القطاع الخاص المؤسّسية التقليدية (غرف التجارة والصناعة) التي انتعشت حياتها المؤسّسية الداخلية، وباتت تشهد حياة انتخابية تنافسيّة مضبوطة عموماً برضاء مراكز القوى التّسلطية، واشتداد الصّراع الانتخابي بين قوائمها، وبرز فيها ظاهرة "العشاءات الانتخابية"(15)، كما ظهرت هيئات مجتمع مدني جديدة مرتبطة بأقوياء المجتمع مثل مجالس رجال الأعمال، ورجال الشّركات القابضة، والتي عملت فعلياً كـهيئاتٍ منظّمةٍ تتمّ في داخل قنواتها الصّفقات، وتحديد "الكعكات" الاستثمارية وتقاسمها.

 يمكن القول في سياق المقارنة بين النموذج البيروقراطي التسلّطي (الكورربوراتي) القديم وبين النظام التسلّطي (الملبْرل) الجديد أنه قد حدثت تعديلاتٌ جوهريّة في شدّة قوّة التسلّطية طوال العشريّة الأخيرة، من تسلّطية "صلبة" أو "قاسية" شعبوية محافظة و "منغلقة" مفرطةٍ في استخدام حالة الطوارئ، وأكثر اعتماداً على أهل الثّقة من اعتمادها على أهل الكفاءة، وذات خصائص شموليّة، إلى تسلّطية مرنة أو ليّنة منفتحة نسبياً وأكثر عصريّة وحداثةً وانفتاحاً وقابليةً للتعولم وأدنى "عقائدية" من التسلطية "الصلبة"، وأقلّ منها في اللجوء إلى استخدام حالة الطّوارئ، بدليل تقلّص الاعتقال السّياسي في "المرحلة الصلبة" إلى اعتقالٍ بالعشرات في المرحلة" الليّنة" (ما قبل اندلاع الأحداث الأخيرة). وبينما كان الموقوفون يعتبرون من الناحية الشكلية في حكم مجهولي المصير من دون محاكمةٍ في المرحلة "الصلبة" فإنّ السلطات باتت تقدّمهم إلى محاكمَ علنيةٍ في المرحلة "المرنة"، بغضّ النّظر عن مدى عدالة الأحكام التي تصدرها هذه المحاكم، وصارت تتعامل مع الأقوال والأفكار المرتبطة بالرّأي كجناياتٍ تطبّق عليها بشكل متشدّدٍ ومفرطٍ الأحكام القانونية. وبينما كان الانتساب إلى جمعيّات حقوق الإنسان وهيئاتها يجرّم بوصفه انتماءً إلى جمعيات سرّية، تمّ غضّ النّظر نسبياً عن النّشاط الإعلامي لهذه الجمعيّات والمنظّمات غير المرخّصة أو المسجّلة قانوناً(16). وبالمقارنة بين النّظامين التسلطيّين الصّلب والمرن شكّل نشوء نظام تسلّطي مرن خلال سنوات العقد الماضي نوعاً من عقلنةٍ وضبطٍ للتسلّطية، يتداخل فيها "حوض" كبير لمصالح اللاّعبين الاقتصاديّين- الاجتماعيّين النازلين والصّاعدين في مرحلة تغيّر أدوارهم. وفي الخلاصة حرّر النّظام من السّمات الشمولية لكنه عصْرَن الخصائص التسلّطية، مع بقاء هياكلها القديمة التي تآكلت وظائفها متعايشةً مع هياكل وتنظيمات جديدة في طور التكوّن.

ضمور المجتمع المدني: الخاصرة الهشة للبْرلة

تحوّلت أيديولوجيا الدولة من الناحية الرّسمية من نظريّة "الدور المركزي القيادي للقطاع العام" في عملية التّنمية الاقتصاديّة- الاجتماعية (1963-1989)، إلى نظرية "التعدّدية الاقتصادية" بين القطاعات الاقتصادية العامّة والخاصّة والمشتركة (1989-2003)، ثم في سنوات العشريّة الأخيرة إلى نظريّة "الشراكة" بين الدولة والقطاع الخاصّ والمجتمع الأهلي في ما أطلق عليه اسم "التشاركية". كانت عملية اللبْرلة تفترض نمطياً إنعاش دور المجتمع الأهلي أو المدني أو القطاع الثالث الذي يتوسّط بين الدولة والقطاع الخاصّ لتحقيق وظيفتيْن مترابطتيْن هما: التّخفيف من آثار سياسات التحرير السلبية وامتصاصها، وإنعاش المجتمعات المحلّية ولا سيّما في المرحلة الأولى من اللبْرلة التي يرى الليبيراليّون أنّها تتميز بآثارها السلبية إلى أن يقود التحرير إلى تعافي الاقتصاد من جموده وأمراضه "المركزية" السابقة من جهةٍ أولى، وتعزيز قنوات المشاركة المجتمعية في عملية التنمية وتنمية المجتمعات المحلية من جهة ثانية. لكن ما حدث بفعل اختزال مشروع الإصلاح المؤسسي إلى مجرد تحرير اقتصادي هزيل هو تهميش موقع العمل الجمعياتي الضعيف أصلاً بين أطراف هذه الشّراكة الثلاثية بين الدولة والقطاع الخاصّ والمجتمع الأهلي، بل اختزال هذه التشاركية إلى مشاريع اقتصادوية بين الدولة والشركات القابضة ورأس المال الأجنبي، بدلاً من أن تشكّل إطاراً مرجعياً لتطوير فضاء عام تتمّ فيه تفاعلات المواطنة.

يتكوّن الجسم الجمعياتي السوري الصافي (الكميّ البحت) والمسجّل منذ العام 1959 وحتّى أواخر تشرين الأوّل/أكتوبر 2010 من 1074 جمعيّة، وهو عددٌ قليل جداً بكافة المعايير والمقارنات حتى مع النّظم العربية التسلّطية الملبْرلة ( في تونس يوجد 9600 جمعية، وفي مصر ما لا يقلّ عن 21 ألف جمعية)، أي ما يعادل على المستوى الكمّي 52 جمعية لكلّ مليون مواطن، وكلّ جمعيّة، باستثناءات قليلة، تتّسم بقلّة عدد الأعضاء الذي يتراوح ما بين 15و100 عضو. ويعكس توزّع الجسم الجمعياتي تشوّهات المسألة السكّانية التنموية السورية التي يمثّل اختلال التوزّع الجغرافي السكاني أحد أبرز محدّداتها، وما يعكسه ذلك من فجواتٍ في التّنمية المناطقية. فيتركّز نحو85% من العدد الإجمالي للجمعيات فعلياً في دمشق وريف دمشق وحلب وحماة وحمص واللاّذقية وطرطوس، أي في المحافظات الأعلى نمواً وارتفاعاً في مؤشّرات تنميتها البشريّة، بينما لا تشكّل حصّة المحافظات الأخرى، وفي طليعتها محافظات المنطقة الشّرقية (الرّقة، دير الزور، الحسكة) والمحافظات الطرفية ( درعا، السويداء، القنيطرة) إلاّ أقلّ من 15%. ولا أدلّ على الفجوة الجمعياتيّة من زاوية دلالتها على الفجوة التنمويّة المناطقية من أنّ ما يعادل 55.7% من إجمالي عدد الجمعيات يتركّز في محافظات ريف دمشق ومدينة دمشق وحلب. وتحتلّ درعا المرتبة الدّنيا (10 جمعيات) بينما تحتلّ مدينة دمشق المرتبة العليا ( 355 جمعيةً).

بالمقارنة بين حقبة (1959-1999) التي سادها نمطٌ تنموي تسلطي شعبوي وحقبة (2000-2010) التي سادها التحول من الإصلاح المؤسسي إلى نمط تسلطي ملبرل، فقد سجّل في الفترة الثانية دخول العمل الجمعياتي في جيل جمعيات التمكين (التنموية)، وفي بعض قطاعات الجيل الدفاعي (أو الحمائي) مثل جمعيات البيئة. وتمّ ترخيص 605 جمعيات من إجمالي عدد الجمعيات البالغ 1074 جمعية حتى أواخر سنة 2010، أي ما نسبته 111% قياساً على الفترة الأولى. ويلاحظ أنّ النسبة الكبرى المسجَّلة من هذه الزيادة قد ظهرت بين 2000 و 2006 بفعل الرهانات على خطاب الإصلاح المؤسسي، وترجمة هذه الرؤية في الخطّة الخمسية العاشرة (2006-2010) بإعطاء مكان مميّز في المجتمع المدني لتنمية القطاع الجمعياتي، لينحدر بعدها تسجيل الجمعيات في فترة ( 2007-2010) من 27.44% في العام 2006 إلى 8,76% في العام 2007، ثم إلى 4,79% في العام 2008، فإلى 7,6% في العام 2009 ثمّ إلى 97و5% في العام 2010. وهو ما يتوافق مع اختزال عمليّة الإصلاح المؤسّسي في التحرير الاقتصادي التسلطي(17).

إذا كان التاريخ رقماً متحرّكاً، والرقم تاريخ ساكن، فإنّ هذه المؤشّرات الكميّة تكشف عن عملية تهميش المجتمع المدني (الجمعياتي) في الفترة التي ارتفعت فيها وتيرة التّحرير الاقتصادية، بينما كانت هذه الفترة تفترض رفع وتيرة تسجيل الجمعيّات، والاهتمام بتسجيل أكبر عدد ممكن منها في المناطق الريفيّة الشّمالية والمناطق الشّرقية والجنوبيّة السورية الأدنى نمواً، وتطويرها من الجيل الخيري البحت إلى الجيلين التمكيني- التّنموي والدفاعي (الحمائي) بما في ذلك جمعيّات الجيل الدفاعي (الحمائي) الثالث المتعلّقة بطيف واسع من حقوق المرأة والبيئة والشّفافية ومكافحة الفساد ومراقبة البلديّات والانتخابات وحقوق الإنسان والمتعطّلين عن العمل والمهمّشين اجتماعياً وثقافياً. وعلى العموم تمّ في مرحلة النموّ التسلطي "الصلب" حشر الجمعيّات في جيل العمل الخيري، بينما انفتحت مرحلة النموّ التسلّطي الملبرل على تأليف جمعيات البيئة والتنمية. ومع ذلك ظلّ عددُ جمعيات التّمكين والتنمية المسجَّلة في سورية ضعيفاً جداً مقارنةً بتونس، فهو لم يتجاوز في أوسع الحدود 20 جمعيةً في سورية مقابل602 جمعيةً تنمويّةً في تونس. لكنها كلّها اشتركت مع المرحلة التي سبقتها في العِداء الشّديد لتطوير العمل الجمعيّاتي عموماً، وتقييده على مختلف المستويات، أو تسجيل أيّ جمعية تنتمي إلى الجيل الدّفاعي الثالث، ولا سيّما جيل جمعيات حقوق الإنسان والمواطن، بل أبدت التحرّرية التسلطية ميْلاً قوياً لتأميم الجمعيّات من خلال تحويلها من نمط المنظّمات غير الحكومية (NGOs) إلى نمط المنظّمات اللاّبسة لبوس غير الحكوميّة (Governmental non-governmental organizations)، والتي تحوّل الجمعيات مجرّد واجهةٍ للسّياسات الحكومية.

المجتمع التواصلي: التجمّع الافتراضي ودور" الفيسبوك" والوسائط التّقنية الحديثة

"
كان الأسد قد واجه في العام 1989 نفاد احتياطي الدقيق الذي لم يكن يكفي أكثر من طحنتين، ولكن النجدة السعودية حلّت المشكلة، فعانت سورية ضيقاً شديداً لكنها لم تصل إلى المجاعة. ومع بدء تدفّق ريع النفط السوري الخفيف المصدّر بكميات تجارية وعبر عملية حثيثة لاستنضاب النفط في سبيل تعظيم عائدات العملة الأجنبية، ونجاح برنامج المقاصة بين القطاع الخاص الصناعي وديون الاتحاد السوفياتي، غدا الأسد في وضعٍ مالي مريح نسبياً.
"

مقابل هشاشة المجتمع المدني قامت الشّرائح الدّيناميكية من الفئات الوسطى بتعويض ذلك بنوعٍ من "التجمّع" الافتراضي في شبكات ومنتديات وتجمّعات ومواقع تواصل اجتماعية تشكّل نوعاً جديداً من الفضاء العام عبر الشّبكة العنكبوتية التي تحوّلت من تقانة وظيفية إلى تقانة معرفيّة تتجاوز المجتمع الهرمي التراتبي (المغلق) المرتبط بتنظيمات السّلطات التقليديّة السياسية والحزبيّة والاجتماعية التسلّطية المختلفة، إلى المجتمع الشّبكي التفاعلي (المفتوح) المرتبط بعلاقات أفقيّة لا مركزيّة، أو ما يمكن وصفه بمنطق الحريّة. فالقاسم المشترك في عمليّات التغيّر الاجتماعي كان دائماً التحوّل الذي تُحْدثه المعلومة، وفي هذا الإطار فإنّ التغيّر المعلوماتي هو تغيّر اجتماعي(18). وتبرز في مثل هذه التّقانة الوظيفية - المعرفيّة فاعليّة نظريّة جديدة محتملة يمكن وصفها بنظرية"تساقط الآثار" أو "العدوى" كمقاربة أساسيّة في فهم تبادل التأثير بين عناصر التحوّلات الجارية في مرحلة تهاوي النّظم التسلطية العربيّة المتلبرلة، ذلك أنّ الشّبكة العنكبوتية بعبورها الحواجز القوميّة والدولتية، تجعل ما هو خارجي داخلياً وما هو داخلي خارجياً في وحدة لا فكاك فيها، وهذا هو أحد المضامين الجوهرية لعملية عولمة العالم. لكن "تساقط الآثار" بما هو دينامية اجتماعية لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في بيئةٍ قابلةٍ للتّفاعل معه.

كان للنّظم التسلطية المتلبرلة في إطار سياستها العصريّة شأنٌ لا واعٍ في تحويل تحديث الاتّصالات، وتعميم شبكة الانترنت إلى قوّةٍ تقنيةٍ- معرفيّةٍ متمرّدة عند هزّها أو محاولة تقويضها. وينطبق ذلك على سورية التي عمّمت نشر المعلوماتية من خلال برنامج وطني منذ أواخر التّسعينيات بمبادرة مباشرة من الدّكتور بشار الأسد قبل تولّيه رئاسة الجمهورية، ثم أدمجته في جميع مراحل التعليم وأنواعه. وعلى الرغم من أنّ عدد المشتركين في خدمة الانترنت بما في ذلك مقاهي الانترنت لا يزال، وفق التقارير الرسمية، محدوداً جداً قياساً على إجمالي عدد السكان، ولا يتجاوز 744 ألف مشترك يشكّلون أقلّ من 1% من إجمالي عدد سكّان سورية. كما لم يتجاوز عدد مشتركي الحزمة العريضة(DSL) القادرة على حمل مجمل خدمات القيمة المضافة مثل الخدمة التلفزيّة إلى أكثر من 20 ألف مشترك، يضاف إليهم 20 ألف مشترك في الحزمة العريضة من خدمات الجيل الثالث من الهاتف الخليوي(19). وثمّة مصادر أخرى تقدم بياناتٍ مختلفةً على أساس عدد المستخدمين بما يتجاوز بيانات "مقاهي الانترنت" وليس على أساس عدد الأجهزة، وتقدّر عدد المستخدمين بما لا يقلّ عن 3.4 ملايين نسمة(20).

مهْما يكن الأمر فإنّ النسبة المرتفعة لزيارات السوريّين المرتفعة في زيارة موقع التّواصل الاجتماعي(فيسبوك) تبيّن كثافة استخدام الشّرائح الديناميكية من الفئات الوسطى للانترنت في التعويض عن "التجمع" المقّيد حوكمياً أو تسلّطياً بــ "التجمع" الافتراضي المفتوح والمتاح. فمنذ أن تمّ رفع الحجب عن موقع (فيسبوك) في 28 كانون الثاني/ يناير 2011 ارتفع عدد المتفاعلين مع (الفيسبوك) في سورية خلال أسبوعيْن من بضعة آلاف إلى 400 ألف زائر(21).

تفسّر نظرية "العدوى" أو "تساقط الآثار" كثافة الاستخدام هذه، وقد حوّلتها بعد اندلاع الثّورة التونسية ثم الثورة المصرية من نطاق الاستخدام التواصلي الذي أُنشئ الموقع من أجله إلى استخدام مسيّسٍ، بعد أن أثبت فاعليّته التحزيبية والتّعبوية في مصر. لكن يجب أن نعطي أهميةً لتعويض التجمّع الافتراضي على صفحات "الفيسبوك" بمعوقات التجمع الفيزيائية التسلطية في الواقع. ولذا فإنّ المتابع للنشاط على صفحات الموقع يستطيع أن يدرك السرعة التي يتطوّر بها عدد المستخدمين السوريين، بالإضافة إلى رصد توجّهاتهم، وأن يلمس أنّ من ينضمّ إلى الصفحات المعارضة التي تعبّر عن اتّجاهات الشباب الغاضب يشي بالتسييس والانغراس في الشأن العام من دون أن يعني التسييس التحزّب، بل على العكس من ذلك فإنّ ذهنية هؤلاء الشباب متمرّدة على المفاهيم النمطية في التنظيمات الهرميّة التقليدية(22).

لا تختلف المادة المقدّمة في هذه الصفحات السياسية كثيراً- حتى تاريخ رصدها في 12 شباط/فبراير 2011- عن نظيرتها المصرية التي كان لها شأنٌ بارز في تجمّع الشباب الافتراضي. ويغلب على المواد المنشورة الطابع الإعلامي المبسّط، وإثارة فضائح الفساد المرتبطة بأقوياء رجال الأعمال الجدد، مع العناوين الجاذبة، والقليل من التحليل، والدعوة إلى الاعتصامات. وتتركّز هذه الأمور في صفحة "ثورة ضد بشار الأسد" التي بدأ العمل فيها في أوائل شباط/ فبراير2011، وانضمّ إليها في منتصفه نحو 32 ألف مستخدم، وكذلك في صفحة "كلنا سورية" في الفترة نفسها، والتي انضمّ إليها 15 ألف مستخدم. وعلى مستوى الخطاب تركّز بعض صفحات "كلّنا سورية" على فضائح رجال الأعمال القريبين من السلطة وأخبار الفساد والصّفقات المشبوهة (التي آتت ثمارها في إلغاء عقد شركة الخليوي الثالثة في سورية والذي اقترب من شركة تركية تغطي على الشريك السوري المالك لإحدى الشركتين العاملتين الآن) في ردّة فعل مباشرة على سياسة التحرير الاقتصادي التسلّطية في "المنافسة الاحتكارية" وتعطيل (سيرياتيل) المشغّل الثالث(23)، بينما تركّز صفحات أخرى على الدعاية ضدّ النظام وتنظيم أيّام الغضب المتكرّرة. كما شغلت بعض الصفحات بالتكتيكات الثورية وبأساليب الحركة على الأرض، مع وجود تعاونٍ لافتٍ مع مصريّين ينقلون الخبرة ويروّجون لمسيرات تأييد في مصر تزامناً مع يوم الغضب السوري المقبل الذي حدّد حين توبعت صفحات" فيسبوك" في 15 آذار/ مارس 2011. وعلى الرغم من تعويل كثير من هذه الصفحات على التحرّك الكردي بوصفه الصاعق المحتمل للحراك في سورية، إلاّ أنّ المساهمة الكرديّة المباشرة لا تزال محدودةً إن لم نقل مهملةً. ويرجع البعض ذلك إلى عوامل اللّغة، والبعض الآخر إلى عراقة التنظيم السياسي السّرّي لأكراد سورية الذي يتيح إمكان التحرّك المتزامن من دون الحاجة إلى خدمات مواقع التّواصل الاجتماعي التي تعوّض افتراضياً فقدان حقّ التجمّع، وإلى التفاهم بين الأحزاب الكردية والسّلطة على تسوية المشكلات الكردية السورية(24).

عطّلت مواقع التواصل الاجتماعي التفاعلية آليات الهيمنة التقليدية التي وظّفتها السّلطات المسيطرة للهيمنة على الفضاء العام، وبرعمت تشكّل فضاء عام جديد يتّسم بتحرّره من تلك الآليّات، وبالقدرة على تحدّيها وتخطّيها ووضعها في موضع الإحراج والضّغط، وتعديل سلوكها بما يفرض على النّخب التسلّطية الخضوع نسبياً إلى قواعد اللّعبة الجديدة، ومحاولة التأثير السلطوي بطرائقَ مختلفة من خلال قواعد اللعبة الجديدة نفسها. وممّا لاشكّ فيه أنّ استخدام الفيسبوك هو ظاهرة شبابية بدرجة أولى، واستخدم في سورية ولا يزال يستخدم وسيلةً للتعبئة وللتجمّع الافتراضي وللاتصال غير التقليدي. ولكن يجب عدم المبالغة في تأثيراته، وتصنيع أسطورة عنه، إذ أنّ المجتمع التواصلي لا ينحصر فيه، بل يتجاوزه بفضل وسائطه التكنولوجية المتعددة. ويندرج في عداد ذلك مواقع الصّورة المرئيّة المتحرّكة (يوتيوب وتوتير)، والبريد الالكتروني، والصّحافة والترانزيستور والهاتف الخلوي و (الفضائية)، واستخدامهما أكثر شعبيةً من استعمال الفيسبوك المحصور في النهاية بأوساط النّخب الشابّة من جهةٍ، كما أنّ دوره في ما حدث من حركات احتجاجيّة في سورية كانت تتمثّل في تشكيل حوض واسع وهادر تتمازج فيه الأفكار وتهدر افتراضياً وليس في مشاركة زوّار الصفحات ومدوّنيها.

وعلى الرّغم من تكديح الفئات الوسطى السورية، ووصول نسبة مَن هم تحت خطّ الفقر إلى أكثر من 33% من السكّان، فإنّ في الإمكان القول إنّ استخدام الموبايل قد عمّ مختلف شرائح المجتمع السوري بما في ذلك تلاميذ المرحلة الثانية من التعليم الأساسي، وبات يضطلع، من الزّاوية الأنثروبولوجية المرتبطة بالثقافة والتقانة كنمط سلوك يومي، بالتراتبيّة الاجتماعية، وكان له، من زاوية النظر إليه عبر مفهوم المجتمع التواصلي، شأنٌ كبير في تعزيز التّواصل المجتمعي من خلال تيسير التّواصل الفوري بين الأفراد، ورفع وتيرة تواصلهم الاجتماعي بأقصر الطرق. ولقد وصل عددُ المشتركين السوريّين في نهاية العام 2008 في البطاقات المسبقة الدّفع إلى 7 ملايين مشترك يشكّلون أكثر من 84% من إجمالي المشتركين في الهاتف الخلوي(25).

 من المفهوم أن يتركّز ذلك في أوساط الفئات الوسطى، لكن تراجع الاستهلاك الخاصّ (الاستهلاك العائلي لجميع أنواع السّلع والخدمات باستثناء الأراضي والمباني) جراء نتائج عمليّة النموّ في حدود التحرّر الاقتصادي التسلّطي المتمثّلة في ارتفاع وتيرة الفقر، وتكديح الفئات الوسطى، والتهام تضخّم الأسعار المرتفع في العام 2008 الدّخول، أدّى في الشّهور الأخيرة من العام 2008 إلى تراجع ملحوظ في البطاقات المسبقة الدّفع من 62% في العام 2004 إلى39% في أواخر العام 2008، أي أنّ هناك 5,3 ملايين مشترك مفعّل بالبطاقات المسبقة الدّفع مقابل أكثر من 15 مليون بطاقة مبيعة. كما تقلّصت نسبة الخطوط اللاّحقة الدفع المفعّلة إلى المبيعة من89% في العام 2004 إلى68% في نهاية العام 2008. ويمثّل ضغط الإنفاق أحد أبرز عوامل تحوّل مشتركي البطاقات لاحقة الدّفع إلى البطاقات سابقة الدّفع، ويتمثّل ذلك في عدم دفع اشتراك قيمته 600 ليرة سوريّة شهرياً بسبب تراجع الإيراد الشّهري للمشترك أو تآكله بفعل التضخّم وارتفاع أسعار الموادّ الغذائية، والتحكّم في صرفها من خلال البطاقات السّابقة الدّفع. فقد وصل الإيراد الشهري الوسطي للمشترك الواحد في العام 2007 في سورية إلى ما يعادل 19.85-21.50 دولاراً، بينما انخفض الإيراد الوسطي للمشترك في الهاتف الثابت إلى 10.9 دولارات (26).

أمّا العامل الآخر في تكوين شبكة المجتمع التّواصلي التقنية أو الوسائطية فيتمثّل في الفضائيات التي باتت تضطلع بدور الوسيط التكنولوجي الاتّصالي الأهم في عمليّة التأثير، وتشكيل اتّجاهات الرأي العام في المجتمعات العربيّة المأزومة. لقد احتلّت الفضائيات في مرحلة العولمة، ونشوء فضاء اتّصالي عابر للحدود القومية مكان الترانزيستور الذي كان يحتلّ موقع التأثير الأساس في مرحلة الجماهيريّات والشّعبويات في الفترة الواقعة بين الخمسينيات بشكل خاصّ والثمانينيات. ولا يعني ذلك أنّ الترانزيستور قد غدا "أثرياً" فهو لا يزال أساسياً ومؤثّراً، لكن دوره تراجع كثيراً قياساً على دور الفضائيّات، وانتشار لواقطها تقريباً في كلّ بيت ومكتب.

 لهذا كان تأثير الفضائيات في ثورات العالم العربي الرّاهنة يضارع ما لعبه الترانزيستور والصّحف والمنشورات في مرحلة "الجماهيريات" الشّعبوية، وتحكّم النّخب والحكومات في مصادر البثّ والمعلومات. لقد لعبت الفضائيّات وبشكل خاصّ فضائيّة "الجزيرة" دور"صوت العرب" في الخمسينيات والسّتينيات، وكانت فاعليّتها أكبر لأنّ الترانزيستور يقوم على التّحريض ويمثّل علاقةً مركزيةً موجّهةً من مرسلٍ إلى مستقبلٍ، بينما طوّرت الفضائيّات البرامج الحواريّة التفاعلية المباشرة، ونظام النّقل والتّعليق المباشر، وحوّلت خلاصات الفيسبوك إلى صوت مسموعٍ مؤثّرٍ. وجسّد هذا التطوير ثورةً في التّواصل الاجتماعي يتيح التأمّل، بحكم طبيعته الصّامتة، في مجتمعات لا تزال شفاهية. بينما كانت البرامج الحوارية ألصق بالطبيعة الشفاهية من خلال الصورة المرئية- المسموعة الفورية التي لا تكشف عن اتّجاهات الرّأي العام بل تساهم في تشكيله وتوجيهه أيضاً، ما يجعلها مجال صراع للسّيطرة عليها بين القوى المعنيّة في المنطقة وخارجها بالتحكّم في اتّجاهات الرّأي العام وتوجيهها. والفكرة الجوهريّة هنا أنّ دور هذه الأجهزة الجديدة ما عاد مقصوراً على التّعبير عن اتّجاهات الرّأي العام فحسب، بل عن تشكيله وتعبئته.

 بالنّسبة إلى سورية تكفي المقارنة بين لحظة العام 1998 ولحظة العام 2011. ففي العام 1998 حين احتدمت حرب المواقع بين مراكز القوى في الهيئات القياديّة السّورية، على خلفيّة انزواء الرئيس حافظ الأسد جراء تردّي صحّته، قام أحد الأجهزة الأمنيّة بحملة يائسة على الصّحون اللاقطة للبثّ الفضائي ومصادرتها من سطوح المباني في بعض الأحياء. وكانت هذه أوّل وآخر معركة تتورّط فيها الأجهزة في مقاومة ما لا يمكن مقاومته، إذ كانت العمليّة رعناء واعتباطيةً، وكان ينقصها الكادر الأمني البشري وكذلك مستلزمات النقل للقيام بها، بينما يكاد لا يخلو أيّ بيت سوري اليوم من التقاط البثّ الفضائي، بما في ذلك العائلات الأكثر محافظةً وحتّى تمذهباً بالسلفية، وكذلك العائلات الغنيّة والفقيرة فيما خلا المعدمين جداً. وتخلّل ذلك في أوائل العشرية محاولة الحكومة فرض ضريبةٍ لمرةٍ واحدةٍ على تركيب اللاقط أسوةً بضريبة التلفزيون السابقة، لكن هذه المحاولة فشلت، كما أخفقت عملية ضبط تركيب (الفاكس) من طريق مديريات الاتصالات لقاء رسوم، ولهدف أمني ضمني هو ضبط انتشار الفاكسات ومعرفة تموضعاتها. لقد تغيّر المجتمع السوري بالفعل في غضون العشريّة الأخيرة. وباتت آليات الضّبط الأمنية (البوليسية) السابقة تعاني عطبا شديداً.

خلفية حركة الاحتجاجات في سورية

1 - إطار تاريخي قريب

تشترك الحركات الاحتجاجية التي دشّنها المشهد التونسي بين أواخر العام 2010 ومطالع العام 2011 في ردّة الفعل على سياسات إعادة الهيكلة والخصخصة في الثمانينيات (تظاهرات الأردن في العام 1989، وتظاهرات الجزائر والمغرب وتركيا في العام 1990)، بينما تختلف عنها في بروز مطالب الديمقراطية وحقوق المواطن، ودمجها بشكل عضوي بالمطالب الاجتماعية بما يمكن تكثيفه تحت اسم الحقوق الاجتماعية والسياسيّة للمواطن.

لقد أفضت حركة الاحتجاجات الأولى إلى انتزاع تنازلاتٍ سياسيةٍ ذات طابع انفتاحي ديمقراطي من النّظم العربية الحاكمة التي واجهها اندلاع هذه الحركات. وتمثّلت هذه التنازلات في توسيع رقعة استواء الملعب السياسي. وحتى نهاية العام 1992 كانت الكويت واليمن وتونس والجزائر وسورية قد أجرت انتخاباتٍ نيابيةً، كما شكّل أمير البحرين مجلساً استشارياً، وعمّ حراك المثقفين ولا سيّما "حركة الحقوق الشّرعية" أوساط الفئات الوسطى في المملكة العربية السعودية. وترافقت هذه الحركات الاجتماعية مع عملية تغيّر العالم، وإطلاق آليّة عولمته بعد نهاية الحرب الباردة. وفي هذه الفترة انهارت المنظومة السوفياتية ثم انهار النّظام السوفياتي نفسه، ووقعت حرب الخليج الثانية.

كانت وضعية سورية في هذا السياق وضعية دولةٍ خرجت للتوّ، بفضل حرب الخليج الثانية، من العزلة الإقليمية العربية والدولية، واستعادت مكانتها كدولةٍ إقليميةٍ، كما تحوّل نظام الحكم الذي كان مهدَّداً بمحاولة التطويق من الداخل في آذار/مارس 1989 بفعل التحالف بين ياسر عرفات وميشال عون والمعارضة السورية في الخارج، ومن خلفهم العراق إلى نظام قويّ بعد إحباط القيادة الداخلية للتجمع الوطني الديمقراطي مؤامرة "مؤتمر جنيف"( آذار/مارس 1989) بسحب الشرعيّة عنها، وإسقاطها سياسياً جراء افتتاحيّة في نشرة التجمع(27). ورسّخت المعارضة الوطنية السورية في ذلك وطنيّتها التي تتجاوز الحسابات السياسية للصّراع مع النظام. وفي حين تورّطت بعض أطراف قيادة الخارج بالتمويل الخارجي، فإنّ قيادة الداخل ظلّت مستندةً إلى إمكاناتها المحدودة.

سار الأسد بخطواتٍ محدّدةٍ ومضبوطةٍ في عملية الانفتاح السياسي، وجعل هذه العملية في ظاهرها، نتاج سيرورة سورية بحتة. كان الأسد قد واجه في العام 1989 نفاد احتياطي الدقيق الذي لم يكن يكفي أكثر من طحنتين، ولكن النجدة السعودية حلّت المشكلة، فعانت سورية ضيقاً شديداً لكنها لم تصل إلى المجاعة. ومع بدء تدفّق ريع النفط السوري الخفيف المصدّر بكميات تجارية وعبر عملية حثيثة لاستنضاب النفط في سبيل تعظيم عائدات العملة الأجنبية، ونجاح برنامج المقاصة بين القطاع الخاص الصناعي وديون الاتحاد السوفياتي، غدا الأسد في وضعٍ مالي مريح نسبياً. وتزامن ذلك كله مع خروجه من اجتماعه الثالث إلى الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف (27 إلى 29 نيسان/أبريل 1990) بشعور تحوّل البيروسترويكا من عمليّة إعادة البناء إلى هدم البناء. عكس حديث غورباتشوف مع الأسد صورة تدهور الاتّحاد السوفياتي إلى غير رجعة، إذ ما عاد غورباتشوف هنا غورباتشوف العامين 1985 و1987 في أوج ألقه وثقته العالية بالنفس، بل بدا متضعضعاً على الصّعيد الشّخصي، ويائساً من وقف التدهور جراء تطوّر عملية "البيروسترويكا"، إلى درجة سأل فيها الأسد عن كيفية بقائه في الحكم مدةً طويلةً(28).

 في هذا السّياق اقتصرت حدود إصلاحاته السياسية على الإفراج عن عددٍ كبيرٍ من المعتقلين السياسيّين، وانتخاب مجلس شعب في أيار/ مايو 1990 وزيادة عدد مقاعده من 195 إلى 250 مقعداً لتوسيع تمثيل المستقلّين الذين نالوا ثلث المقاعد تقريباً، بينما خصّص للبعث 137 مقعداً، و31 مقعداً لحلفائه الجبهويين (جبهة حزب الواحد والنصف). ويمكن تمييز المجموعات الفرعية التالية في مجموعة المستقلّين:صناعيّون ورجال أعمال تمّ تيسّر وصولهم كتعويض مطالبهم بتأليف حزبٍ للفاعليات الاقتصادية، وممثلو الأكراد القريبون من حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي كان متحالفاً مع السلطة، ووجهاء تقليديون، وبعض النخب المهنية المدينية الحديثة، وبعض النّخب العلمائية المستقلّة نسبياً لكنها مسايرة للنظام أو قابلة للعمل في إطار قواعد لعبته(29). ثم أصدر الأسد قانون تشجيع الاستثمار في العام 1991 الذي شكّل نقطة دفعٍ كبيرةٍ للقطاع الخاصّ للتوسّع، ونهاية "عصر الـتأميم".

عبّرت عملية زيادة عدد أعضاء مجلس الشعب عن توسيع مسرح اللعبة السياسية التي تتمّ بكاملها في إطار القواعد العامّة للنّظام السياسي القائمة على الاستيعاب، أكثر ممّا عّبرت عن تحويله إلى "برلمان" بالمعنى الدّيمقراطي. فالنّظام الدستوري السوري يقوم، من وجهة نظر القانون الدستوري، على الفصل بين الوظيفتين: السّياسية (تتولاّها القيادة القطرية بحسب المادّة الثامنة من الدستور التي تنصّ على أنّ حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد الدولة والمجتمع)، والإدارية (مجلس الوزراء كتجسيد للهيئة التنفيذيّة العليا)، وعلى "التفريق" بين السّلطات وليس على "الفصل" بينها(30).

 باستثناء العام 1997 الذي أنجز فيه الأسد اتّفاق مبادئ مع جماعة الإخوان المسلمين يتضمّن عودة الجماعة إلى سورية، وتمثيلها بحزبٍ إسلامي ينضمّ إلى الجبهة(31)، أحبطته أجهزته السياسية والأمنية، لم تشهد التّسعينيات أيّ محاولةٍ للانفتاح السياسي. وبعد انتقال السّلطة في العام 2000 كانت هناك فرصة سانحة لتوسيع الإطار السياسي المؤسسي، لكنها هدرت في سياق هدر فرصة الإصلاح المؤسّسي الذي كان يمكن أن يفتح الباب أمام عملية التحول الديمقراطي في غضون العشريّة الأولى. وكانت هذه الأجهزة قد غدت منذ "محنة الثمانينيات" سيّدة الدولة، أي "أصحاب الحكم"، وتحوّلت معها الدولة السورية إلى نمط من أنماط "الدولة الأمنيّة" في علاقاتها الخارجية-الداخليّة مع لبنان، أو المتغوّلة بشكل مفرط في علاقة الدّولة مع المجتمع(32).

2 - هشاشة الدولة

 

"
وبعد انتقال السّلطة في العام 2000 كانت هناك فرصة سانحة لتوسيع الإطار السياسي المؤسسي، لكنها هدرت في سياق هدر فرصة الإصلاح المؤسّسي الذي كان يمكن أن يفتح الباب أمام عملية التحول الديمقراطي في غضون العشريّة الأولى. وكانت هذه الأجهزة قد غدت منذ "محنة الثمانينيات" سيّدة الدولة، أي "أصحاب الحكم"، وتحوّلت معها الدولة السورية إلى نمط من أنماط "الدولة الأمنيّة" في علاقاتها الخارجية-الداخليّة مع لبنان، أو المتغوّلة بشكل مفرط في علاقة الدّولة مع المجتمع
"

وصل برنامج التحرير الاقتصادي التسلّطي في السّنوات الثلاث الأخيرة من العشريّة المنصرمة إلى مفرق الأزمة، وأنتج ما أنتجه في شروط وقوع الأزمة الماليّة الدولية، وآثار موسم الجفاف في سورية، كارتفاع الفجوة على مستوى الاختلال في التّنمية المناطقيّة، وارتفاع معدّل الفقراء، وازدياد تشوّهات توزيع الدّخل، وإفلاس مئات المصانع الصّغيرة والمتناهية في الصّغر بفعل تحرير التّجارة الخارجية، وتركّز رأس المال السّوري في قبضة "المئة الكبار" من مؤسّسي الشّركات القابضة الكبرى، وارتفاع معدّل البطالة، ونشوب هجرة بيئيّة داخلية قاسية ناتجة عن الجفاف، وارتفاع معدّل الفساد الصغير والكبير في الدولة، وانكشاف شبكات فساد بيروقراطية "مافيوزية" في بعض المحافظات كانت تعمل منذ سنوات كمنظّمة نهب سريّة للدولة، وتُوزّع الغنائم على أطراف الشبكة الضاربين جذورهم في مواقع السلطة، وبروز هشاشة أجهزة العدالة في القبض على المطلوبين بموجب مذكراتٍ غير منفذةٍ، علاوة على ركود وظائفها.

على خلفية هذا التدهور استعادت الأجهزة الأمنية فاعليّتها، وارتفعت وتائر تدخّلها في أجهزة الحكم وشؤون الحياة اليومية باسم التّحقيق في قضايا وشبهات فساد، وقامت أجهزة وزارة الداخلية بين أواخر العام 2010 وأوائل العام 2011 بأكبر حملةٍ لها ضدّ المطلوبين الفارّين من العدالة بسبب التّواطؤ بين الأجهزة البيروقراطيّة وبينهم لقاء الرّشى. وكانت الحملة شديدةً، وذات طابع بوليسي، وسمّمت الحسّ بالأمن في الحياة اليومية، ووضعت المدن في مناخ الطّوارئ الاعتباطي من جديد، لأنها شملت حتّى الذين ارتكبوا مخالفات بسيطة، وتمّت خارج القنوات القضائيّة في التوقيف. كما اتّبعت وزارة المالية سياسة المداهمات للمنشآت الصناعيّة والمكلّفين بهدف الحصول على الدفاتر المحاسبيّة الدّقيقة، وفرض ضريبةٍ واقعية تحلّ مكان الضريبة الصفقة" بين موظّف الماليّة وبين المكلّف التي تكشف العيوب البنيوية للنّظام الضّريبي، ما أبرز الحكومة وكأنها تعمل كحكومة أشخاص وليس كحكومة دولة أو مؤسّسات، بينما حدث فراغٌ نسبي في القدرات التّعبوية الحزبية نتيجة حلّ قيادات الفروع الحزبيّة، وتشكيل لجانٍ انتخابيةٍ "حياديةٍ" للإشراف على الانتخابات الحزبية(33). يضاف إلى ذلك انكشاف نتائج النموّ التسلطي المرتبط بدعوى زائفة للتحرير الاقتصادي، وارتفاع درجات الحرمان والفقر المادّي والبشري والبطالة وهشاشة الأمن الإنساني بوتائر ومعدّلات كبيرة، وارتفاع وتائر الهجرتين الخارجيّة والدوليّة في المناطق الشّرقية والطرفية الجنوبية وفي معظم المدن المتوسّطة والصّغيرة الطرفية.

 كشف ذلك هشاشة الدولة، لا قوّتها، لأنّ اللجوء إلى القوّة المباشرة من خلال الأجهزة "الصلبة" هو تعويض الهشاشة البنيوية للدولة المتمثّلة في شيخوختها المؤسسية(34)، واستشراء الفساد الصغير والكبير في أجهزتها، ومبادلة تسهيل المعاملات بالارتشاء، وتعيّش كثير من موظفيها على هذه الرّشى مع ضعف حسّهم بالواجب.

 لقد حكمت هذه الخلفيّة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة اندلاع حركات الاحتجاج الحادّة في المدن الصّغيرة والمتوسّطة والكبيرة السوريّة، وطرحت أسئلةً حادةً عن نهاية حقبةٍ كاملةٍ من نموذج النموّ التسلّطي الملبرل. وعبّرت عن نفاد الصبر من تسلّطية نظام قديم غدَا هشاً في بنيته المؤسّسية، بينما بات هذا النّظام غير قابل للاستمرار وفق ديناميّاته السّابقة، ووهنت استراتيجيّاته في الهيمنة، وتقوّضت قواعد عقده الاجتماعي فما عاد النّظام قادراً على الحكم بالوسائل القديمة من دون أن يتحوّل إلى قوّة قمع عاريةٍ، كما صار المجتمع غير قابل لاستمرار الانصياع له من دون تغيير جوهري في بنياته. وهي حركاتٌ احتجاج على عشر سنوات تحقّق فيها بعض نقاط القوّة في معدّلات نموّ اقتصادي جيّدة نسبياً، ونقاط الضعف التي تمثّلت في عدم توازن التنمية واختلالها المناطقي، وتكديس ثمار النموّ في قبضة الأقوياء وحفنةٍ من رجال الأعمال أو حفنة "المئة الكبار". الذين ينتمي كثير منهم إلى "أصحاب الأعمال" بالمعنى السلبي وليس إلى رجال الأعمال بالمعنى الإيجابي، وهم أقرب إلى ما أطلق عليهم في روسيا للسخرية " الشبّان الرائعون". وجرى خلال هذه العشرية التحوّل من الوعود المؤسّسية الإصلاحيّة التي تفتح أفق التّحوّل الدّيمقراطي لمصلحة نموّ تسلّطي ملبرل يغلق هذا الأفق، ويزيد المهمّشين تهميشاً، والفقراء فقراً، والدّيناميات السياسية والحوكميّة تسلّطاً.

 تحضر هذه الخلفيّة الاقتصادية- الاجتماعية كخلفيةٍ أساسيةٍ في فهم الحركات الاحتجاجيّة الأخيرة التي اندلعت في المدن السورية منذ التّجمهر العفوي لاندلاع أولى بؤرها متمثلةً في حادثة الحريقة(19 شباط/ فبراير 2011) في قلب مدينة دمشق التاريخية التي تسجّل بدء انطلاق حركة الاحتجاج وانتشارها وحتّى أواخر أيار/ مايو 2011. ولإعادة تشكيل الأحداث وتطوّرها خلال هذه الفترة على الأقلّ سنخصّص الحلقة الخامسة من هذا البحث.

 ----------------------------------

  • (1) يناقش غرايم جيل هذه الإشكالية على مستوى العلاقة بين التحولات الاقتصادية والسياسية في تجارب دول أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية بعد انهيار المنظومة السوفياتية، لكنها تشتمل على عناصر مهمّة تسمح بتطويرها لتطبيقها على نمط النّظم التسلطيّة العربية الملبْرلة. انظر: غرايم جيل، "ديناميات السيرورة الديموقراطية والمجتمع المدني" (ترجمة شوكت يوسف)، دمشق: وزارة الثقافة، 2005، ص65-66، ونزيه الأيوبي، "تضخّم الدولة"، ص802. بينما يرى عزمي بشارة في ضوء تحليله نظريات التحول الديموقراطي، وفي ضوء الربط بين هذه الفكرة وواجب التحول الديموقراطي، أنه "ما دام السوق الاقتصادي لا يؤدّي إلى إنتاج الديموقراطية، فلا بدّ أن تطرح كمشروعٍ بوساطة قوى ديموقراطية منظّمة"، انظر: عزمي بشارة، "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2010، ص22. ومن هذا المنظور سبق أن ناقش عزمي بشارة فكرة المجتمع المدني وإعادة إنتاج المجتمع خارج الدولة، وخاصةً في حالة الدول الاستبدادية إذا كان هذا المجتمع يخوض صراعاً مسّيساً من أجل الديمقراطية. راجع كتاب عزمي بشارة، "المجتمع المدني: دراسة نقدية"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1997.
  • (2) فيما بعد وفي إثر الكوارث التي تمخّضت عنها برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي عدّل صندوق النقد والبنك الدّوليان "وفاق واشنطن" إلى "وفاق واشنطن الموسّع" الذي يدمج قضية التنمية البشريّة والحدّ من الفقر في مفاهيمه. لكن هذا الدّمج لم يغيّر الطبيعة الجوهرية الاقتصادوية لبرامج الصّندوق والبنك، ومنح الأولويّة للإصلاح الاقتصادي وللتكيّف الهيكلي على الإصلاح المؤسّسي. وفي جميع الأحوال كان ما طبّقته البلدان العربية من هذه البرامج هو البرنامج التقليدي الملتصق بـ "وفاق واشنطن". ثم في مرحلة ثانية طرحت هذه البلدان على المستوى النّظري قضايا "وفاق واشنطن الجديد" من دون أيّ تطبيقٍ برنامجي وسياساتي فعلي وجوهري، بل تمسّكت بالإطار التسلّطي السّياسي.
  • (3) حسن كريّم، "مفهوم الحكم الصالح"، في "الفساد والحكم الصالح في البلدان العربية" (تحرير محمد جمال باروت)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2006، ص117، استناداً إلى أمارتيا سين، "الديموقراطية: الحل الوحيد للفقر"، مجلة "زوايا نظرية" (شتاء 2000).
  • (4) لا يعني ذلك أن هذه النشاطات لم تترافق مع طرح أسئلة الإصلاح المؤسسي وحتى الاقتراب من بعض المسائل التي تتعلق بالإصلاح السياسي، لكنه يعني أن المقاربات المؤسسية والإصلاحية السياسية لم تكن قضيتها، بقدر ما تركزت على قضايا ميكروية.
  • (5) عصام الزعيم، ص78-79.
  • (6) عبد الفضيل، العرب والتجربة الآسيوية، ص115.
  • (7) هي الأحزاب والمنظمات التي تتألف منها الجبهة الوطنية التقدمية والتي تمثل دستورياً" القيادة السياسية العليا" للدولة. ويتألف الإطار الجبهوي بقيادة حزب البعث من أحزاب شيوعية وناصرية وقومية واشتراكية إضافة إلى اتحادي العمال والفلاحين، فيما يترجم صيغة تحالف سياسي- طبقي على أساس البرنامج الذي حدده ميثاق الجبهة. كانت فكرة اتحاد القوى التقدمية والقومية في جبهة قومية أو وطنية تمثل أحد أبرز أهداف كل حزب من هذه الأحزاب. وبعد الحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970) مأسس حافظ الأسد هذه الفكرة في جبهةٍ وطنيةٍ تقدميةٍ وفق استراتيجية الحزب وبرامجه. وكانت هذه الصيغة في زمنها تعكس صيغةً متقدمة في فهم المشاركة السياسية في فضاء الأحزاب التقدمية، وشكلت تحولاً في سورية من نمط "الحزب الواحد" إلى الحزب القائد". وفكر الأسد في تطويرها براغماتياً إلى درجة قابليته لتمثيل حزب إسلامي في العامين 1997-1998 يكون واجهة للإخوان المسلمين. لكنها فعلياً لم تكن صيغةً للتعددية بل صيغة للوصول إلى "تنظيم سياسي موحد". وفي أواخر الثمانينيات تخلى الأسد نفسه عن فكرة التنظيم السياسي الموحد، وتمسك بالجبهة الوطنية كإطار للتعددية لتفادي التعددية السياسية الحقيقية، مع إمكانية ذهنية لفتحها في إطار آليات الاستيعاب/الإقصاء. 
  • (8) يرتبط هذا النموذج القائد بالبناء الكاريزمي للرئيس الراحل حافظ الأسد الذي أعيد بناء شخصيته كاريزمياً وتطويرها من نمط "قائد المسيرة" (1971-1983) إلى نمط شعار: "قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد"، لتصل عملية "كرْزمة" الوحدة بين الحزب والدولة والمجتمع في شخصه إلى أعلى مراتبها وهي مرتبة "الإلهام"( نمط القائد الملهم). وقد تمت عملية التطويرعلى خلفية حسم الصراع الداخلي على السلطة في آذار/مارس 1984 إبان دخول الرئيس الراحل حافظ الأسد في غرفة العناية المشددة، واليأس من حياته (تشرين الثاني/نوفمبر 1983) بين جناح رفعت الأسد - العماد حكمت الشهابي المتبني للاتجاهات السعودية- الأميركية في مختلف الساحات اللبنانية والفلسطينية والعراقية، وبين جناح وزير الخارجية يومئذ عبد الحليم خدام المتبني للسياسات السوفياتية في إطار توزيع الأدوار في القيادة السورية. وتولى العماد مصطفى طلاس بعد احتواء انقلاب رفعت الأسد صكّ هذا الشعار "الكاريزمي" الجديد، والحصول بنفسه على وثائق ولاء وبيعة ممهورة بالدم (معلومات مباشرة وميدانية للباحث). للاطلاع على جانبٍ أساسي من هذه القصة، انظر: باتريك سيل، "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط"، لندن، دار الساقي، 1988، ص 685-800. أمّا المعلومات المتعلقة بتوزيع الدورين السوفياتي لخدام والأميركي- السعودي للشهابي ورفعت فمستقاة من مقابلات شخصية مطوّلة أجراها الباحث مع أبرز مساعدي الرئيس الراحل، ولا يرغب في ذكر اسمه مؤقّتاً. في العشرية الأخيرة وقف الرئيس بشار الأسد ضدّ محاولة إحاطته بالطقوس الكاريزمية، لكن الآليات الشمولية الثاوية في النظام استمرّت في محاولة تحويل هذه الطقوس في الآونة الأخيرة إلى شعار: "الله، سورية، بشار وبس" الذي لا ينتمي إلى منظومة أفكار الرئيس بشار الأسد التي عبّر عنها في خطاب القسم، أو إلى أفكاره التي عبّر عنها في كثيرٍ من المناسبات والمواقف وأشكال السلوك. وكان ذلك الشعار قد طرح للمرّة الأولى قبل خمس سنوات في المواجهات بين البعثييين وبين المتحشدين أمام المحاكم لنصرة الناشطين الذين يحاكمون، ثم توارى عن الاستعمال، وأعيد استحضاره من جديد.
  • (9) كان من أبرز هذه الديناميات التسلّطية في تلك الفترة المرتبطة بالحياة اليومية والتي تم تفكيكها، الموافقات الأمنية المسبقة لكلّ تأشيرة خروج، وربط تأشيرة الخروج بصلاحية جواز السفر. وكان هذا التحرير شديد الأهمية نظراً إلى أنّ سورية تعتبر من الدول المصدّرة للهجرة الخارجية الدولية. وفي هذا السياق تم إلغاء الموافقات الأمنية المسبقة على استحداث بعض المهن، وإن كان هناك كثير ممّا تقرّر إلغاؤه لم يلغ بالفعل. وشمل الأمر أيضاً تحرير عشرات المهن من الحصول على الموافقة الأمنية المسبقة، لكن الأجهزة لم تتقيّد تماماً بهذا الأمر. إضافة إلى سلسلة إجراءات أخرى متّصلة بحساسيّات الحياة اليومية، وتقليص تدخّل الأجهزة الأمنية اليومي والمسمّم فيها.
  • (10) كان هذا العقد المنصوص حزبياً هو العقد "الاشتراكي" الذي يستند إلى تحالف واسع بين العمال والفلاحين والجنود وصغار الكسبة، وعبّر كراس "بعض المنطلقات النظرية"( 1963) عن صيغته المرجعية، ثم تم إضافة برنامج إجرائي تنفيذي له هو "البرنامج المرحلي لثورة الثامن من آذار" (1965)، ثم مأسسة الاشتراكية ودور الحزب والمنظمات والجبهة في الدستور "الدائم" (1973)، وقيام ميثاق الجبهة على ذلك... إلخ.
  • (11) روبرت نيسبت وروبرت بيران، "علم الاجتماع"( ترجمة جريس خوري)، بيروت: دار النضال، 1990، ص 159-160.
  • (12) نصر، "تقييم الحالة التنموية"، ص30.
  • (13) كانت هذه الصيغة جديدة على نمط التفكير في الأدوار، وحددت بعض صيغها الإجرائية على أساس تحويل السلطة (سلطة المحافظ مثلاً) إلى موازٍ لسلطة الحزب (قيادة فرع الحزب) في المقترحات. ولكن بسبب التشابك بين الحزب والدولة في صيغة الدولة- الحزب لم تنجح هذه التجربة بسبب غموض مفاهيمها، وعدم معرفة أين تنتهي حدود الحزب وتبدأ حدود الدولة. وفي المحصلة لم توافق القيادة القطرية على هذه الصيغة، وتمسكت بأساليب العمل القديمة المعتادة مع بعض التعديلات (مقابلات شخصية متعددة للباحث مع عدد من المعنيين).
  • (14) الأيوبي، تضخم الدولة العربية، ص386-369. كما يمكن العودة إلى خلدون النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 3، 2004، ص 183-186.
  • (15) ألفت قوائم انتخابية تجمع أقوى المرشّحين، وكان المرشحون يمارسون الدعاية الانتخابية بوضع لافتات قماشية ولافتات ضوئية في مفارق الشوارع الأساسية، وفي الصحف، وينظمون العشاءات الانتخابية (ملاحظات واستنتاجات الباحث الميدانية للحملات الانتخابية وطقوسها الخارجية والداخلية وصراعاتها وانقساماتها وأشكال تدخّل السلطات فيها، والمتواترة على مدى سنوات 2003 - 2010. وفي سنوات 2009-2010 كان الانقسام بين رجال الأعمال متداخلاً مع تحيّز بعض مراكز القوى التسلطية لهذه المجموعة أو تلك).
  • (16) مثل الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان، والمرصد السوري لحقوق الإنسان، والمنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سورية، المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سورية، ومركز دمشق للدراسات النظرية، والحقوق المدنية، والمنظمة العربية للإصلاح الجنائي في سورية، والمركز السوري لمساعدة السجناء، واللجنة السورية للدفاع عن الصحافيين، وكذلك اللجان الكردية لحقوق الإنسان. حصلت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في سورية على حق الترخيص القانوني وفق قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة الذي ينص على اعتبار الجمعية مشهرة وإصدار ذلك في الجريدة الرسمية في حال لم ترد وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على طلب التسجيل بالترخيص أو الإشهار، ولكن الوزارة كما الأجهزة القضائية رفضت إنفاذ القانون. بل اتبعت أجهزتها سياسة عدم تسجيل تاريخ تقدم أية جمعيةٍ- في قيد التأسيس- في بريد الوارد كي لا يتكرر مثل ذلك.
  • (17) باروت، مدخل لبناء خارطة جمعياتية كميّة في سورية، ص 3-17.
  • (18) علي محمد رحومة، "الانترنت والمنظومة التكنو- اجتماعية: بحث تحليلي في الآلية التقنية للانترنت ونمذجة منظومتها الاجتماعية"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005، ص 58-59.
  • (19) العيطة، "استراتيجيات الاستثمار في قطاع الاتصالات والمعلومات في سورية في ظلّ الأزمة العالمية"، ص29.
  • (20) يعود هذا التقدير إلى العالم المعلوماتي السوري مروان الزبيبي وفق حسابات المستخدمين، وقد أرسله إلى الباحث لتتم الاستفادة منه، وقد تم في هذا التقدير الاستضاءة بمعطيات موقع عالمي معتمد يعطي عدد مستخدمي الانترنت في العالم ومنها سورية http://www.internetworldstats.com/stats5.htm
  • (21) طالت عملية تحرير شبكة الانترنت من الرقابة السورية موقعين دون غيرهما (facebook و YouTube) بينما بقي كمّ كبير من المواقع محجوباً بأدوات الرقابة مع سهولة كسرها. فقبل إلغاء حجب الموقع كان آلاف المستخدمين السوريين لهم صفحات على الموقع (بما فيهم رئيس الدولة والسيدة عقيلته) حيث بالإمكان اختراق الحجب باستخدام "مخدِّم عبور" Proxy " يتيح الدخول إلى الموقع (وغيره من المواقع) من خلال شبكة إحدى الدول المجاورة (غالباً عبر مخدّم العربية السعودية). للاطلاع على نسبة دخول السوريين إلى( فيسبوك) ارجع إلى الرابط: http://www.alexa.com/topsites/countries/SY
  • (22) على الرغم من ذلك ما زال المستخدِم "المسيّس" يعتمد على Proxy المملكة، لأنّ الدخول عبر الشبكة الرسمية يمكّن أجهزة الرقابة من كشف هوية المستخدم عبر ربطه برقم IP (اختصار لـ Internet Protocol) ما يسهل تتبُّعه. ويفسّر للكثيرين سبب رفع الحجب (من ورقة خلفية قدّمها جلال المسدي في 13 آذار/ مارس 2011 خصّيصاً للباحث بغية الاستفادة منها في بحثه).
  • (23) في 20 نيسان/ أبريل 2011 أعلمت الحكومة السورية المشغلين المشاركين في مزايدة المشغّل الثالث تأجيل المزايدة حتى إشعار آخر (المدير التنفيذي لشركة مجموعة الاتصالات السعودية، فضائية العربية، النشرة الاقتصادية، الساعة السادسة مساء 20/4/2011).
  • (24) المسدي، مصدر سبق ذكره.
  • (25) العيطة، استراتيجيات الاستثمار، ص 25-27.
  • (26) العيطة، المصدر السابق نفسه، ص 28 و 33.
  • (27) مقابلات ميدانية أجراها الباحث مع معنيين بالأمر كان أبرزها المقابلة متعددة الجلسات مع الدكتور فايز الفواز وكان آخرها في أواخر العام 2010. وقد تم توثيق هذه المقابلة بقدرٍ كبيرٍ من المعلومات.
  • (28) أجاب الأسد غورباتشوف بأنّ التجربة قامت منذ البداية على الاعتراف بدور القطاع الخاص، وتأليف جبهة وطنية تقدمية، ومنظمات شعبية ومؤسسات تمثيلية، ولولا هذه المؤسسات لانفلتت الأمور من يديه. وقال إنه يفكر في تطوير هذه المؤسسات وتعزيزها وجعلها أكثر مرونةً، وتطوير التعددية الاقتصادية المؤلفة من القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع المشترك (محضر اجتماع الرئيس حافظ الأسد إلى ميخائيل غورباتشوف في 27 نيسان/ أبريل 1990، أرشيف القصر الجمهوري في دمشق).
  • (29) عن قائمة أعضاء المجلس انظر: شاكر اسعيد، "البرلمان السوري في تطوره التاريخي: 1919-2001"، دمشق: دار المدى، 2002، ص 499-505.
  • (30) غالي، ص621-631.
  • (31) مقابلة شخصية أجراها الباحث مع الوسيط الشيخ أمين يكن في صيف 1998، ومع مصدر مسؤول كان قريباً جداً من الرئيس الراحل الأسد لم يرغب في ذكر اسمه، ومراسلة شخصية للباحث مع علي البيانوني المراقب العام للجماعة يومئذ. وبهذه المقابلات والمراسلات مع الوسيط ومع مساعد الرئيس الأسد والمراقب العام للجماعة تتأكد واقعة طمس هذه الحقيقة أمام الرئيس بشار الأسد، وفبركة روايةٍ بوليسيةٍ مختلقة منسوبةٍ إلى الرئيس الراحل ليس لها أي أصل، ويقول ملخصها إن الإخوان اتبعوا تكتيكات مزدوجة تقوم على الادّعاء أنهم مع الرئيس الأسد لكنهم ضدّ جهازه، والادّعاء مع قادة جهازه أنهم معهم لكنهم ضدّ الرئيس الأسد. وكان ذلك مجرد فبركة تامة للحيلولة دون ردم هوّة الحلّ السياسي لأزمة الثمانينيات بين الطرفين ( معلومات خاصة بالباحث لا يرى من الملائم الآن نسبتها إلى مصدرها).
  • (32) في العام 1998 رفض الملحق الثقافي لجريدة "الثورة" نشر قصة للقاصّ والروائي السوري نيروز مالك، فكتب رسالة احتجاج إلى الأعضاء الأربعة في هيئة التحرير، فما كان من إدارة الجريدة إلاّ أنْ أحالت الرسالة إلى أحد أجهزة الأمن، فعوقب الكاتب بالحبس التأديبي عرفياً ستة عشر يوماً (معلومات الباحث المباشرة والموثقة في كافة مجريات العملية). وهذا نموذج يعكس طرائق الدولة الأمنية حين تتغوّل وتسيطر على السلطة. وفي فترة انتقال السلطة في منتصف العام 2000 شرع الرئيس بشار الأسد في محاولة تقليم تجريبية، وحاول بعد المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث (2005)، وانشقاق عبد الحليم خدام أن يحدد أدوار الأجهزة الأمنية، وأن يمنع أي مدني من زيارة مكاتبها باستثناء المندوبين الذين يطبَّق عليهم نظامٌ خاص ويخضعون للعقوبات التي تسري على العاملين في حال ارتكاب خطأ ما. لكن ميراث الدولة الأمنية كان لا يزال ثقيلاً. وكان ذلك يتطلب إعادة هيكلة هذه الأجهزة، وهو ما لم يحدث. وبالطبع لا يمكن ذلك من دون إعادة تأسيسها بلا أحكام عرفية ومحاكم استثنائية. ولذلك استنفرت أجهزة الأمن في الأزمة الأخيرة في بعض المحافظات جميع دينامياتها القديمة، بينما الذين تلقوْا تأهيلاً جديداً في محافظات حساسةٍ أخرى قد حالوا دون تفاقم المشكلات إلى ما هو أخطر.
  • (33) كان هدف هذه الانتخابات أن تنتج القواعد بشكل حر ممثليها خارج سيطرة مراكز القوى، ولهذا حلت قيادات الفروع، وألفت لجان انتخابية مستقلة، لكن في العديد من الفروع التي تمّ رصدها عاد كثير من القيادات القديمة إلى النجاح في الانتخابات. وتمثل مغزى ذلك في عجز الحزب بنيوياً عن تجديد ذاته، لأن عملية التجديد لا يمكن أن تنجح، كما تعلمنا الدراسات المقارنة، إلاّ في سياق عملية إصلاح حقيقية ذات قضايا واضحة وملموسة.
  • (34) على سبيل المثال حين صدر قرار رئاسي يقضي بفرض غرامات عالية على التدخين في المحلات العامة والتجارية، وكان سلاح الشرطة المكلفة تنفيذ المرسوم، هو إنذار المدخنين بأن هذا المرسوم أصدره الرئيس فكيف تتم مخالفته. ولم تتم محاولة تنفيذه بوصفه قانوناً بل باستخدام اسم الرئيس.

التعليقات