متى وكيف اختُرِع "الشعب اليهودي"؟/ أنطوان شلحت

متى وكيف اختُرِع
(*) لا ندري ما إذا كان من شأن كتاب إسرائيلي جديد بعنوان "متى وكيف اختُرع الشعب اليهودي؟"، لمؤلفه البروفسور شلومو زند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، أن يثير مناقشات عاصفة في إسرائيل، نظرًا لكونه "أحد أكثر الكتب إثارة وتحديًا، مما لم تألفه الأبحاث الإسرائيلية منذ فترة طويلة بشأن موضوعة الشعب اليهودي المشحونة"، على حدّ تعبير مؤرخ إسرائيلي آخر هو توم سيغف، الصحافي في "هآرتس".

صدر هذا الكتاب حديثًا عن "منشورات ريسلينغ"، ويحاول مؤلفه، على امتداد صفحاته الـ358، أن يجيب بأناة الباحث وبتمحيص دقيق عن أسئلة متفرعة عن السؤال الرئيس في عنوانه العريض، من قبيل ما يلي:
- متى وُجد الشعب اليهودي، هل بالتزامن مع نزول التوراة في سيناء، أم مع احتلال أرض كنعان، أم بجرّة قلم بضعة مؤرخين يهود من القرن التاسع عشر تصدوا- في ظل تبلور الحركات القومية- لمهمة اختراع هذا الشعب، على غرار باحثين من الماضي أبناء ثقافات أخرى، اختلقوا شعوبًا مغايرة في سبيل إيجاد أمم مستقبلية وتثبيتها؟.
- في أي فترة زمنية جرى نقل كتاب التوراة من خزانة الكتب الثيولوجية- الدينية إلى خزانة الكتب التاريخية- القومية؟.
- هل تمّ تهجير سكان "ملكوت يهودا" بالتزامن مع دمار الهيكل الثاني في سنة 70 ميلادية، أم أن ذلك كان أسطورة مسيحية تسربت إلى التقاليد اليهودية وجرى استنساخها بقوة داخل الفكرة الصهيونية؟ وإذا لم يتم تهجير هؤلاء السكان، فماذا حلّ بمصيرهم؟.
- هل اعتنقت مملكة الخزر الغامضة الديانة اليهودية فعلاً؟ وكيف تكونت الجاليات اليهودية في أقطار أوروبا الشرقية؟.
- هل اليهود هم "شعب عرقي" ذو جينات خصوصية؟ أم أن من المعقول الافتراض، أكثر، أن ما دجّج الحديث عن "الجينات اليهودية" بيولوجيًا هو انعدام ذاكرة شعبية واحدة أو تاريخ مشترك موثوق فيه، يكفي بصورة بليغة لإرساء دعائم هوية يهودية جماعية؟.
- ما الذي يختبئ من وراء مصطلح "دولة الشعب اليهودي"، ولماذا لم يتحوّل هذا الكيان، حتى الآن، إلى جمهورية إسرائيلية؟.

ومع أن المؤلف يخلص، في هذا الكتاب، إلى ضرورة دفع فكرة جعل إسرائيل "دولة جميع مواطنيها" قدمًا، فإن الاستنتاجات التي يتوصل إليها في معرض تفنيد أسطورة اختراع أو اختلاق الشعب اليهودي توسع دائرة الضوء من حول أراجيف رواية الحركة الصهيونية، بشأن تلك الأسطورة، من جهة وبشأن مشروع استعمار فلسطين وما ترتب عليه من آثار كارثية بالنسبة للشعب العربي الفلسطيني، من جهة أخرى موازية. وهو يؤكد، في هذا الصدد، أن الرواية التاريخية القائلة إن "الشعب اليهودي" قائم منذ نزول التوراة في سيناء، وإن الإسرائيليات والإسرائيليين من ذوي الأصل اليهودي هم ذراري ذلك الشعب، الذي "خرج" من مصر واحتل أرض إسرائيل واستوطن فيها لكونها "الأرض الموعودة" من قبل الرب، وأقام من ثمّ مملكتي داود وسليمان وبعد ذلك انقسم على نفسه وأنشأ ملكوت يهودا وملكوت إسرائيل، وإن هذا الشعب تشرّد نحو ألفي عام في الدياسبورا بعد دمار الهيكل الثاني، ولكنه على الرغم من ذلك لم يذب في الشعوب [الأغيار] التي عاش بين ظهرانيها، هي رواية غير موثوق فيها، بل إنها انتفت تمامًا ولم يكن لها أي أنصار أو مريدين حتى نهاية القرن التاسع عشر. فقط في ذلك الوقت نضجت الظروف، التي أوجدت فرصة ذهبية نادرة استفاق فيها هذا الشعب الشائخ من غفوته الطويلة وأضحى في إمكانه أن يعدّ العدّة كي يستعيد صباه ويجدّد عودته إلى "وطنه" القديم. ولا يزال الكثير من الإسرائيليين يعتقدون أنه لولا مذابح النازية لكان ملايين اليهود سيهاجرون إلى إسرائيل بإرادتهم، لأن ذلك كان بمثابة حلم داعب مخيلتهم على مدى آلاف الأعوام. بكلمات أخرى يرى زند أن الحركة الصهيونية هي التي اخترعت فكرة "الشعب اليهودي الواحد" بهدف اختلاق قومية جديدة، وبهدف شحنها بغايات استعمار فلسطين.

وقد تمثلت النتيجة البدهية لذلك كله في أن هذا "الوطن" عائد للشعب اليهودي وله فقط، لا لأولئك "القلائل"- الفلسطينيون- الذين أتوا إليه بطريق الصدفة ولا تاريخ لهم، وفقًا لمزاعم تلك الحركة. وبناء عليه فإن حروبه لاحتلال الوطن وحمايته من كيد الأعداء هي حروب عادلة بالمطلق، أمّا مقاومة السكان المحليين فإنها إجرامية، وتبرّر ما ارتكب ويُرتكب بحقهم من آثام وشرور، مهما تبلغ فظاعتها.

غير أنّ بيت القصيد في ما يؤكده زند هو ما يلي: إن الأكوام السالفة في تلك الذاكرة المشتركة لم تتراكم في دولة إسرائيل بصورة تلقائية، وإنما حدث ذلك بفعل فاعل منذ نهاية القرن التاسع عشر، كومة إثر كومة، وذلك بواسطة إعادة كتابة الماضي [اليهودي]، على يد كتّاب أكفاء عكفوا على تجميع شظايا ذاكرة يهودية- مسيحية واستعانوا بخيالهم المجنح كي يختلقوا، بواسطتها، شجرة أنساب متسلسلة لـ"الشعب اليهودي". وفي ضوء ذلك لم تكن عملية "التذكر" العامة موجودة قبل ذلك التاريخ، غير أن الأنكى من ذلك، في عرفه، أنه على الرغم من كونها عملية مخترعة، يعوزها الصدق والقرائن العلمية، فإنها لم تتغير قيد أنملة منذ بدء تدوينها، وقد ساهمت في هذا، على وجه الخصوص، الدراسات الأكاديمية عن الماضي اليهودي، والتي أنتجتها الجامعات اليهودية في فلسطين ومن ثم في إسرائيل، وكذلك معاهد الدراسات اليهودية التي انتشرت في أنحاء العالم الغربي المختلفة، علاوة على عوامل أخرى.

إن كتاب زند، إذًا، يعد تحديًا للمؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية واليهودية أيضًا، لا للمزاعم الصهيونية التضليلية فقط المتعلقة بـ"الوطن" وسواه من قضايا خلافية. وهو يعيب على هذه المؤسسة برمتها أن أيًا من "رموزها" لم يكن شريكًا في السجال الذي دار في نهاية الثمانينيات من القرن العشرين في شأن ما عرف باسم "المؤرخين الجدد". كما أن زند يحاول أن يقدّم تفسيرًا خاصًا لأفول تيار "المؤرخين الجدد" في الأعوام القليلة الفائتة، أو بالأحرى لعدم قدرة هذا التيار، مع أنه الأكثر مدعاة للتعاطف في منظومة العلاقات بين إسرائيل والفلسطينيين، على أن يترك بصمات تحويلية في الوعي الإسرائيلي العام. إن فحوى تفسيره هو أن استغراق دراسات "المؤرخين الجدد" في تحليل النتائج المترتبة على حرب 1948، سواء بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي أو بالنسبة للمجتمع الفلسطيني، لم ينطوِ على ما من شأنه أن يزلزل قناعات قارّة تعود إلى سنوات أقدم كثيرًا من وقائع تلك الحرب وما أسفرت عنه، وهي القناعات التي شكلت "سورًا واقيًا" للوعي الإسرائيلي العام، بقدر ما شكلت تكأة لأسئلة تبدو، في الظاهر، أكثر صميمية على غرار: ما هو وزن النكبة الفلسطينية قياسًا بالهولوكوست؟ وكيف بالإمكان أن نقارن مشكلة اللجوء الفلسطينية مع تشرّد شعب في المنفى القسري لمدة ألفي عام؟. وقد زيّن هذان السؤالان وغيرهما من الأسئلة المماثلة، ولا تزال، طريق الهروب إلى الأمام من نتائج حرب 1948 في الذهنية الإسرائيلية وممارستها العامة.

ومع أن زند يبدي تشاؤمه الكبير بشأن إمكان أن يمارس كتابه التأثير المشتهى على الوعي العام، في ظل الواقع الإسرائيلي المحايث لسنة 2008، إلا أنه يعرب عن الأمل في أن يستنفر محتواه ومنهجه أفرادًا قلائل كي يأخذوا على كواهلهم الاستمرار في ما يسميه "مجازفة المساءلة الأكثر راديكالية للماضي اليهودي، بما يسهم في زعزعة الهوية- المختلقة- التي تمسك بتلابيب السواد الأعظم من الإسرائيليين اليهود".

إن مجرّد ذلك يكفيه مؤونة التصادم مع المقاربات التي لا بدّ أن تستأنف على طروحاته المثيرة والجريئة في آن معًا.

_____________________________________

* الكاتب محرر "المشهد الإسرائيلي" في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار".

التعليقات