قراءة نقدية في كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابيه..

-

قراءة نقدية في كتاب
كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابيه يسلّط الضوء على المجازر وعمليات التهجير التي ارتكبت بحق الفلسطينيين عام 1948؛ حيث تمّ تدمير 531 قرية، وطرد 800 ألف فلسطيني في ذلك العام. الكتاب صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، في تموز 2007، وهو مترجم عن الإنجليزية. يقع الكتاب في 374 صفحة من القطع المتوسط، ويحتوي على اثني عشر فصلاً.

يأتي الكتاب ليعرّي المزاعم الإسرائيلية حول ما جرى عام 1948؛ ففي حين يرى الشعب الفلسطيني أن ما حصل هو "نكبة" حقيقية من أكبر النكبات التي جرت في العصر الحديث، حيث تمّ ترحيل ما يقارب المليون فلسطيني من أرضهم، وتدمير أكثر من 500 قرية تدميرًا كليًّا، يرى الإسرائيليون أنّ ما حصل هو "حرب استقلال"، وعودة مشروعة لليهود إلى أرض الميعاد.

في بداية الكتاب يشرح المؤلف الدوافع الحقيقية لتأليفه، فيقول إنّ الدافع الرئيسي من وراء ذلك هو تصحيح المفاهيم وضبط المعلومات لما حصل بالضبط. يبدأ أولاً بالتسمية قائلاً إنّ ما حصل هو تطهير عرقي (Ethnic Cleansing)، وليس مجرد حرب، كما يسميها الإسرائيليون. إنّ تغيير التسمية ضروري، كما يرى المؤلف، ذلك لأنّ هذا التحريف يفسّر حقيقة إنكار النكبة من قبل المجتمع الإسرائيلي، رغم مرور زمن طويل على وقوعها. الأمر الآخر الذي يحاول المؤلف إبرازه هو ذكر جميع السياسيين والجنرالات الذين أمروا أو أشرفوا على عمليات التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، ليس من أجل محاكمتهم بعد موتهم، وإنما للتأكيد على استحضار مرتكبي الجرائم بصفتهم بشرًا. كل ذلك من أجل دحض مزاعم المؤرخين بأنّ ما حصل هو نتيجة ظروف سياسية وتاريخية حتّمت وقوع الحرب، وذلك حتى يجد المسؤولون مهربًا من تبعات الحرب وتحمّل المسؤولية، أو تقديمهم للمحاكمة الدولية كمجرمي حرب. من ضمن الدوافع الأخرى لتأليف الكتاب كشف النقاب عمّا حصل بالضبط دون مواربة أو مداراة حتى يكون ما حدث وسيلة للتقدم إلى الأمام، إذا أراد الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني التقدم إلى الأمام، والعيش جنبًا إلى جنب. ويخلص المؤلف إلى القول في نهاية المقدمة:
"إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين، وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها. إنّ استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يُكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني؛ إنّ ذلك، كما أراه، قرار أخلاقي، وبالذات الخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها إذا أردنا أن نعطي المصالحة فرصة، وأن نتيح للسلام أن يحلّ ويتجذّر في فلسطين وإسرائيل".

في الفصل الأول يقدم المؤلف تعريفات للتطهير العرقي، مع الاستشهاد بأمثلة على ذلك من التاريخ الحديث. يقول بأنّ المصطلح يعني سياسة محددة جيدًا لدى مجموعة معينة من الأشخاص تهدف إلى إزالة منهجية لمجموعة أخرى عن أرض معينة، على أساس ديني، أو عرقي، أو قومي. وتتضمن هذه السياسة العنف، وغالبًا ما تكون مرتبطة بعمليات عسكرية، ويتم تنفيذها بكل الوسائل الممكنة، من التمييز إلى الإبادة، وتنطوي على انتهاك لحقوق الإنسان والقانون الدولي.

وتشكّل أساليب التطهير العرقي، في معظمها، انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف لسنة 1949. بعد ذلك، يقدم المؤلف مجموعة من حالات التطهير العرقي في القرن العشرين، بدءًا من حملة الإبادة المنهجية التي شنتها الحكومة العثمانية ضد الأقلية الأرمنية عام 1915، حيث قتلت ما يقارب المليون شخص. ثم يستعرض حالات أخرى وقعت في أنحاء مختلفة من العالم مثل جرائم الحرب التي ارتكبها النازيون إبّان الحرب العالمية الثانية، والتطهير العرقي في تنزانيا ورواندا وإقليم دارفور.

إنّ التطهير العرقي الذي حصل في فلسطين مشابه للأمثلة السابقة، كما يرى المؤلف، وهو جريمة إنسانية، ومرتكبوها معروفون للجميع، وفي مقدمتهم دافيد بن غوريون ومجموعة من مستشاريه، حيث نوقشت في بيته الخاص وحُبكت نهائيًا الفصول الأولى والأخيرة في قصة التطهير العرقي. ثم يقوم المؤلف باستعراض الأشخاص الذين ساهموا في عملية التطهير ضد الشعب الفلسطيني، فيذكر القائدين البارزين: يغئيل يادين وموشيه دايان، وشخصيات أخرى غير معروفة خارج إسرائيل، لكنها راسخة في الوجدان المحلي مثل: يغئال ألون، ويتسحاق ساديه، وقادة مناطق مثل: موشيه كالمان الذي "طهّر" منطقة صفد، وموشيه كرمل الذي اقتلع معظم سكان الجليل، ويتسحاق رابين الذي نشط في كل من اللد والرملة والقدس. إنّ مثل هؤلاء الأشخاص قد حظوا بمكانة عالية لدى الشعب اليهودي لأنهم أسهموا، والقول للمؤلف، في حماية اليهود من براثن النازية زمن الشتات، ووفروا لهم ملاذًا آمنًا من خلال إقامة دولة مستقلة لليهود.

بعد ذلك يؤكّد المؤلف على أنّ مسألة التطهير العرقي في فلسطين لم تكن طارئة، أو وليدة الأحداث التي جرت عام 1948، وإنما هي فكرة مبيّتة نشأت وتبلورت منذ إقامة الحركة الصهيونية على يد تيودور هرتسل وتلاميذه، الذين اعتبروا أنّ تطهير الأرض من سكانها الأصليين هو أمر مشروع. في نهاية الفصل يؤكّد المؤلف، مرة أخرى، أنّ ما حصل هو تطهير عرقي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. فرغم أنّ رقم ثلاثة أرباع مليون فلسطيني اقتُلعوا من أرضهم يمكن أن يبدو متواضعًا مقارنة بترحيل ملايين الناس في أوروبا نتيجة الحرب العالمية الثانية، إلاّ أنّ الحديث هو عن طرد نصف سكان فلسطين إلى خارج وطنهم، وتدمير نصف قراهم ومدنهم. رغم ذلك، فإنّ الهوة ما زالت عميقة بين ما جرى فعلاً، وبين الصورة المرسومة في أذهان العديد من الناس. والأغرب من ذلك، كما يقرّ المؤلف، هو محاولات التهميش المتواصلة لما حدث، أو حتى الإنكار الكلّي للموضوع برمّته.

في الفصل الثاني من الكتاب يقدّم المؤلف معلومات تاريخية عن تبلور الفكر الصهيوني من خلال الحركة الصهيونية التي انشقّت في أواخر القرن التاسع عشر، خاصة بما يتعلق بأرض فلسطين. لقد كانت أرض فلسطين مكانًا مقدسًا بالنسبة للأجيال اليهودية المتعاقبة. رغم ذلك، فالديانة اليهودية تُلزم اليهود على انتظار قدوم المسيح في آخر الزمان، حتى يخلّصهم من محنتهم، ويمكّنهم من العودة إلى أرض إسرائيل، كشعب يتمتع بالحرية والسعادة. وهذا ما يفسّر عدم اعتراف بعض الجهات اليهودية المتعصّبة بالحركة الصهيونية، لأنها خالفت هذا المعتقد، ولأنها جعلت اليهودية علمانية وقومية. لقد قامت الصهيونية باختلاق ما يُعرف بـ "الأرض التوراتية" كذريعة للحث على العودة إلى أرض الميعاد، وأرض الآباء والأجداد.

ثم يستعرض المؤلف المراحل التي مرّت بها الحركة الصهيونية في فلسطين؛ ففي بدايات القرن العشرين وحتى احتلال بريطانيا لفلسطين عام 1918، كانت الحركة الصهيونية مزيجًا من أيديولوجيات قومية وممارسات استعمارية، وكان حجمها محدودًا؛ إذ لم يتجاوز عدد اليهود الخمسة بالمئة في ذلك الوقت، وكانوا يعيشون في مستعمرات دون أن يؤثّروا في السكان المحليين. لكنّ إمكان استيلاء اليهود على البلد في المستقبل، وطرد السكان الفلسطينيين الأصليين منه، والذي ظهر واضحًا للمؤرخين لدى مراجعتهم في وقت متأخر كتابات الآباء المؤسسين للصهيونية، كان واضحًا أيضًا لدى بعض الزعماء الفلسطينيين حتى قبل الحرب العالمية الأولى. بينما أبدى الزعماء الآخرون اهتمامًا أقلّ بالحركة. كان وعد بلفور الذي أعطى لليهود سنة 1917 إمكانية إقامة وطن قومي لهم في فلسطين قد فتح الباب لنزاع مستديم سرعان ما سيجتاح البلد وسكانه. وهذا ما حدث بالفعل، حيث تسبب بمقتل مئات من اليهود والفلسطينيين في أواخر العشرينات.

في سنة 1936 اندلعت أعمال العنف (الثورة العربية الكبرى)، مما حدا ببريطانيا إلى تعزيز قواتها في فلسطين، وتمكّنت من إخماد الثورة بعد ثلاث سنوات، تمّ خلالها العديد من الهجمات الوحشية على القرى الفلسطينية، وترحيل القيادات الفلسطينية. وهذا بطبيعة الحال سهّل على اجتياح القوات اليهودية للمناطق الريفية الفلسطينية عام 1947 من دون أية صعوبة.

بعد ذلك يتحدث المؤلف عن إنشاء "الهاغاناة" عام 1920. ومن الواضح أنها سمّيت هكذا للإيهام أنّ هدفها الأساسي هو الدفاع عن المستعمرات اليهودية. لكنها تحولت بسرعة إلى ذراع عسكرية للوكالة اليهودية، وللهيئة الصهيونية المسيطرة في فلسطين، التي رسمت وخططت للاستيلاء بقوة السلاح على فلسطين بكاملها.

في أواخر الثلاثينات كان زعماء الحركة الصهيونية قد جمعوا معلومات وافرة حول القرى الفلسطينية؛ مواقعها، وطرق الوصول إليها، ومصادر المياه والدخل، والتركيبة الاجتماعية للسكان.. إلخ. إنّ هذه المعرفة الدقيقة والتفصيلية بما كان يجري في كل قرية فلسطينية على حدة هي التي مكّنت القيادة العسكرية الصهيونية في عام 1948 من الاستنتاج بأنه لم يكن للفلسطينيين من ينظمهم التنظيم الصحيح. بعد ذلك يتحدث المؤلف عن دافيد بن غوريون، الزعيم الصهيوني الأول منذ أواسط العشرينات حتى أواسط الستينات.

كان بن غوريون المهندس لكل عمليات التطهير العرقي التي جرت في فلسطين. وضع بن غريون الخطة (ج)، وهي مطوّرة عن الخطتين (أ) و (ب). وكانت تقضي بتطهير البلد من سكانه الأصليين بعد خروج القوات البريطانية مباشرة. ولكن خلال بضعة أشهر تمّ وضع خطة عُرفت بالخطة (د)، التي حسمت مصير الفلسطينيين القاطنين داخل الأراضي التي أراد القادة الصهيونيون الاستيلاء عليها لإقامة الدولة اليهودية العتيدة.

في الفصل الثالث من الكتاب يعالج المؤلف مسألة تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة رقم (181). يقول المؤلف بأنّ الأمم المتحدة عام 1947 كان عمرها عامين فقط، لذلك كانت عديمة الخبرة، بحيث لم تأخذ بعين الاعتبار التركيبة السكانية في فلسطين. وهكذا منحت الأمم المتحدة الحركة الصهيونية نصف فلسطين رغم كون اليهود أقلية فيها. لقد بدا واضحًا أنّ هذا القرار قد شكّل كارثة حقيقية بالنسبة للفلسطينيين. نتيجة لذلك، قررت القيادة الفلسطينية منذ البداية مقاطعة إجراءات الأمم المتحدة. وكثيرًا ما يرد ذكر هذا القرار في الدعاية الاسرائيلية المعاصرة كدليل على أنّ الفلسطينين أنفسهم، لا إسرائيل، يجب أن يُعتبروا مسؤولين عن المصير الذي لاقوه في سنة 1948. بالمقابل، يتطرق المؤلف إلى الدور الريادي الذي قام به بن غوريون، والقرارات الانفرادية التي اتخذها في مواجهة العالم والجيران العرب والفلسطينيين. وكان بن غوريون هو من قاد زملاءه إلى قبول قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1948، وفي الوقت نفسه إلى تجاهله.

الخطوة الثانية التي قام بها بن غوريون هي تشكيل لجنة إستشارية، كانت مزيجًا من شخصيات أمنية وخبراء بالشؤون العربية، بدأت الحاشية الملتفّة حول بن غوريون بعقد اجتماعات منتظمة في شباط 1947، منذ اليوم الذي أعلنت فيه بريطانيا عن نيتها مغادرة فلسطين. وقد تطورت هذه الاجتماعات إلى وضع خطة لطرد مليون فلسطيني، بغض النظر عن مكان وجودهم في فلسطين.

ويأتي الفصل الرابع من الكتاب ليتطرق إلى تسلسل الأحداث الرئيسية بين شباط 1947 وأيار 1948؛ ففي شباط 1948 اتّخذت الحكومة البريطانية قرارًا بالانسحاب من فلسطين الانتدابية، وتركها للأمم المتحدة كي تجد حلاًّ لمسألة مستقبلها. لقد بدأ التطهير العرقي في فلسطين أوائل كانون الأول 1947 بسلسلة من الهجمات اليهودية على قرى عربية وأحياء في المدن، ردًّا على أعمال تخريب لحافلات ركاب ومراكز تجارية رافقت الاحتجاجات الفلسطينية على قرار الأمم المتحدة خلال الأيام القليلة الأولى لتبنّيه. في 10 آذار 1948، تمّ تبنّي خطة (د)، فكان الهدف الأول المراكز الحضرية في فلسطين، وقد جرى في هذه المرحلة اقتلاع نحو 250000 فلسطيني من أماكن سكنهم، ورافق ذلك مجازر عديدة، أبرزها مجزرة دير ياسين.

لقد انطلقت الحركة الصهيونية من دافعين أساسيين: الأول ضعف الفلسطينيين والعرب، والآخر استغلال الفرصة التاريخية السانحة إلى أقصى حدّ. لذلك، تطلعت القيادة الصهيونية إلى تحديد المكان، بمعنى الحصول على أكثر ما يمكن من فلسطين مع أقل عدد من الفلسطينيين.

ثم ينتقل المؤلف ليقدّم شرحًا مسهبًا عن الجنرالات والقادة الذين أشرفوا على عمليات التطهير مثل: عزرا دانين، السوري الأصل، الذي التحق بجهاز الاستخبارات بسبب معرفته باللغة العربية، وانضمّ إلى الهاغاناة في سنة 1940، ويهوشواع بالمون الذي كان نائبًا لدانين، وكان حريصًا جدًا على المشاركة شخصيًا في تنفيذ فرز الأشخاص، واستجوابهم، وإعدامهم. كذلك إلياهو ساسون، الذي لعب دورًا محوريًا في تعزيز التحالف مع الملك عبدالله، وزرع الشقاق بين المجموعات الفلسطينية المختلفة من خلال اتباعه سياسة "فرّق تسُد".

بعد ذلك، يسرد المؤلف العديد من أحداث الإرهاب وجرائم القتل التي اتبعها الجنود اليهود في العديد من المدن والقرى العربية، مثل قريتي دير أيوب وبيت عفّا القريبتين من مدينة الرملة، وقرية الخصّاص في الجليل الأعلى الشرقي، والأحياء العربية لمدينة حيفا، وقرية بلد الشيخ حيث يوجد قبر عز الدين القسّام، وغيرها العديد من القرى في مناطق مختلفة من فلسطين.

في الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن عملية "نحشون"، وهي أولى العمليات الميدانية لخطة (د). فكانت العمليات في منطقة جبال القدس حيث سقطت القسطل. بعدها دخلت القوات اليهودية إلى دير ياسين الواقعة غربي القدس في 9 نيسان 1948، فقتلوا العشرات من سكانها، ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، في حين اغتُصب عدد من النساء ومن ثمّ قُتلن. بعدها قامت القوات اليهودية بمهاجمة المدن الفلسطينية المختلفة؛ فشرّدوا قسمًا كبيرًا من سكانها وقتلوا أعدادًا كبيرة. فكانت طبريا أولى المدن التي تمّ تفريغ سكانها العرب بعد مجزرة دير ياسين. بعد ذلك جاء دور حيفا، حيث تمّ تهجير غالبية العرب منها بوسائل مختلفة. ثم انتقلت القوات اليهودية إلى صفد، فشرّدت معظم قاطنيها باستثناء بعض كبار السن، ولكن ليس لفترة طويلة. ثم انتقل الدور ليشمل عكا وبيسان ويافا. وهذا كله جرى قبل أن يدخل أي جندي عربي نظامي فلسطين. وهكذا فإنه بين 30 آذار و15 أيار احتُلّت 200 قرية وطُرد سكانها. هذه الحقيقة تقوّض الخرافة الإسرائيلية بأنّ العرب هربوا عندما بدأ الغزو العربي.

أمّا مجزرة الطنطورة فقد استحوذت على حيّز كبير من الفصل السادس. كانت الطنطورة واحدة من أكبر القرى الساحلية، يقطن فيها في ذلك الوقت نحو 1500 نسمة يعتمدون في معيشتهم على الزراعة وصيد الأسماك. في 22 أيار عام 1948 هوجمت القرية ليلاً، وقد جاء الهجوم من الجهات الأربع للقرية، فأُجبر السكان الأسرى تحت تهديد السلاح على التجمع على الشاطئ، ثم فصلت القوات اليهودية الرجال عن النساء والأطفال. وطردت الأخيرين إلى قرية الفريديس المجاورة. أما الرجال فتمّ قتل العديد منهم. واستنادًا إلى رواية أحد الناجين فإنّه تمّ قتل 110 رجال بدم بارد، ناهيك عن الإهانات والضرب المبرح قبل الإعدام. ثمة شخص آخر من السكان الناجين صرّح بأنه دفن 230 جثة من أبناء قريته بأمر من القوات اليهودية التي حفرت قبورًا جماعية لدفن الجثث.

في الفصل السابع يواصل المؤلف سرده لعمليات التطهير التي جرت في فلسطين بين شهري حزيران وأيلول من عام 1948، فيذكر العديد من القرى في لواء غزة والتي أبيدت عن بكرة أبيها بعد قتل وتشريد سكانها. كذلك قامت القوات اليهودية باقتحام العديد من مدن الضفة الغربية؛ ففي الأول من حزيران 1948 انطلقت عملية "يتسحاق" لمهاجمة واحتلال جنين وطولكرم وقلقيلية، والاستيلاء على جسور نهر الأردن. كذلك، الاستيلاء على قسم كبير من قرى الجليل وطرد سكانها منها، وقتل أعداد كبيرة من المواطنين العزّل. كما يتحدث المؤلف عن عملية القتل والطرد التي حصلت في منطقة السهل الساحلي، جنوب حيفا تحديدًا، خاصة في قرية طيرة الكرمل التي كانت تعدّ 5000 مواطن قبل اجتياح القوات اليهودية، والتي كانت تسمى أيضا "طيرة اللوز" لكثرة أشجار اللوز فيها، وقريتا كفر لام وعين حوض.

من المهمات التي أوكلت للقوات اليهودية أيضًا في أيلول 1948 القيام بمحاولة ثالثة لاحتلال وادي عارة، الواقع في الطرف الشمالي من الضفة الغربية. هذه العملية سُميت "عملية الخريف". لكن لم يُكتب لها النجاح، مع العلم أنّ هذا الجزء ستضمّه إسرائيل إليها بعد تنازل الملك عبدالله عنه عام 1949 كجزء من اتفاقية الهدنة بين البلدين. ومن المفارقات التي ينطوي عليها التاريخ، كما يقول المؤلف، أنّ كثيرين من الإسرائيليين، وقد أخافهم إمكان تغيير الميزان الديموغرافي في غير مصلحتهم، باتوا يؤيدون اليوم إعادة هذه المنطقة للسلطة الفلسطينية.

يتحدث الفصل الثامن عن إنجاز المهمة بالنسبة للقوات اليهودية من تشرين الأول 1948 إلى كانون الثاني 1948. يتحدث المؤلف عن عمليات تطهير أخرى، وعن مجازر وقعت في بعض القرى التي احتلتها القوات اليهودية. من ضمن هذه المجازر ما وقع في قرية سعسع في شباط 1948، نجم عنها مقتل خمسة عشر قرويًا، بينهم خمسة أطفال. تقع هذه القرية بالقرب من جبل الجرمق، وكانت هادئة جدًا إلى أن اقتحمتها القوات اليهودية، فأطلقت النار في كل اتجاه، وجرحت العديد من المواطنين. أما الذين فرّوا من القرية فغالبيتهم استقروا في المخيمات المختلفة الموجودة في لبنان.

ثم يواصل المؤلف سرده لعمليات تطهير أخرى في قرى الجليل، كان الهدف منها إحداث تغييرات طوبوغرافية وديموغرافية سريعة على المنطقة، بغية إزالة الطابع العربي لها. وهو ما ستسعى إليه إسرائيل في العقود القادمة من أجل تهويد الجليل. من المجازر الأخرى المهمة التي يشير إليها المؤلف هي مجزرة الدوايمة، وهي قرية واقعة بين بئر السبع والخليل. يشير المؤلف إلى أنّ هذه المجزرة ربما تكون الأسوأ من بين المجازر التي وقعت خلال عمليات التطهير العرقي. يعزو المؤلف الرغبة في عدم الكشف عن هذه المجزرة الرهيبة إلى أنّ الأردنيين خافوا من أن يوجَّه إليهم اللوم على عجزهم وتقاعسهم في حماية المنطقة. بعد انتهاء المجزرة تمّ إحصاء 455 شخصًا كانوا مفقودين، بينهم نحو 170 طفلاً وامرأة.

في الفصل التاسع يتحدث المؤلف عن استمرار المضايقات، وانتهاج السياسة العنصرية ضد المواطنين العرب الذين بقوا في وطنهم بعد انتهاء أعمال التطهير العرقي. يقول المؤلف إنه بعد تطهير فلسطين عرقيًا أمضى نحو 8000 شخص سنة 1949 بكاملها في المعتقلات، وعانى آخرون جرّاء الاعتداء عليهم جسديًا في المدن، وتعرضت أعداد كبيرة من الفلسطينيين للمضايقة بطرق متعددة تحت الحكم العسكري الذي فرضته إسرائيل عليهم، واستمر نهب بيوتهم، وصودرت حقولهم، ودُنّست أماكنهم المقدسة، وانتهكت إسرائيل حقوقهم الأساسية؛ كالحق في حرية الحركة والتعبير، والحق في المساواة أمام القانون. يقوم المؤلف برصد عدة حالات لانتهاك الحقوق الإنسانية للمواطنين العرب في إسرائيل، خاصة في مدينة حيفا التي أصبحت بمثابة "غيتو" بالنسبة للعرب الذين بقوا فيها؛ حبث المضايقات اليومية، وتهميش مطالبهم، وعدم تقديم الخدمات لهم، ومعاملتهم بقسوة وعنصرية.. إلخ.

كذلك يتطرق المؤلف إلى مصادرة الأراضي، وتدنيس الأماكن المقدسة، خاصة المساجد التي حُوّلت إلى دكاكين وخمّارات لليهود، مثل الجامعين قي قيساريا والمجدل، وغيرها العديد من الجوامع الممتدة على طول البلاد.

ويأتي الفصل العاشر ليتحدث عن محاولات السلطة لمحو المعالم الفلسطينية، من خلال طمس معالم القرى المهدّمة، وإنشاء مبانٍ حديثة على أنقاضها، وحدائق عامة ومتنزهات. فمثلاً، يذكر المؤلف حديقة "رامات منشّيه"، الواقعة على أنقاض عدة قرى هي: اللجّون، المنسي، الكفرين، البطيمات، خبيزة، دالية الروحاء، صبارين، بريكة، السنديانة، أم الزينات. كذلك، قامت إسرائيل بطمس المعالم الفلسطينية في جبال القدس، فقامت بتحريش الجبال الجرداء حتى تغطّي ما تبقّى من أطلال القرى المهجّرة.

في الفصلين الحادي عشر والثاني عشر، يتحدث المؤلف عن أوضاع العرب الباقين في البلاد ما بعد عمليات التطهير وإقامة الدولة، خاصة في السنوات الأولى لقيامها، ومعاناة العرب من نظام الحكم العسكري الذي ضيّق الخناق على تنقّلات العرب وتحرّكاتهم، وفرض الإقامة الجبرية على العديد من الناس، وإخضاع أماكن عديدة لحظر التجوال، وغيرها من المضايقات والمعاملات العنصرية الأخرى.

ويختم المؤلف كتابه بالقول إنّ إسرائيل كدولة وكشعب ليست نادمة على ما فعلت بحق الفلسطينيين، فهو يضرب مثالاً على جامعة تل أبيب القائمة على أنقاض قرية الشيخ مونّس. فلو كانت هذه الجامعة مخلصة للبحث الأكاديمي السليم، لكان من الجائز الافتراض أنّ علماء الاقتصاد فيها، على سبيل المثال، قد قاموا بتقدير قيمة الأموال الفلسطينية التي فُقدت في كارثة عام 1948. كذلك يوجّه المؤلف اللوم والانتقاد إلى أساتذة الجامعات في أقسام الجغرافيا والفلسفة على عدم جرأتهم في التطرق إلى المآسي الإنسانية التي عانى منها الفلسطينيون فترة التطهير العرقي.

وختامًا يمكن القول: إنّ هذا الكتاب يقدّم مسحًا شاملاً لما جرى من أعمال التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، أصحاب الأرض، عامي 1947 و 1948، بأسلوب علمي جريء، خاصة أنّ مؤلفه مؤرخ يهودي يساري، حاول دحض مزاعم الصهيونية والأفكار التي حاولت أن تروجّها إسرائيل لشعبها وللعالم على مدار العقود المنصرمة. وتأتي أهمية المادة المعروضة في الكتاب لكونها تعتمد، في غالبيتها، على أرشيف الحركة الصهيونية والأرشيفات العسكرية من جهة، وعلى شهادات الناجين من المجازر من جهة أخرى. لقد أكّد المؤلف، على امتداد الكتاب، أنّ ما جرى في فلسطين من تطهير عرقي هو جريمة ضد الإنسانية، تمامًا كما فعل النازيون إبّان الحرب العالمية الثانية، أو كما فعل الصرب بالمسلمين البوسنييّن في أوائل التسعينات من القرن العشرين.

التعليقات