توطئة لكتاب "في صورة إسرائيل"/ أنطوان شلحت

توطئة لكتاب
تتطرّق مداخلات هذا الكتاب إلى صورة إسرائيل، بالأساس بين "المثال" أو "النموذج" الذي كانت عليه في ذهن بعض الأفراد اليهود والإسرائيليين ومخيالهم، في نطاق الفكرة الصهيونية وأباطيلها، وبين "الواقع" الذي أصبحت عليه فعلاً، وبالأخص في صيرورته القائمة بعد سنة 2000، وصولاً إلى فترة ما قبل الذكرى السنوية الستين لإنشائها في سنة 1948، وذلك من زوايا رؤية مجموعة كتابات أدبية وصحافية وبحثية في هذا الصدد.

وقد تعمدت أن تتحدّد نقطة التجوهر في مقاربة هذه الكتابات لذلك "الواقع" من خلال أربعة محاور رئيسة، تشكل موضوعات الفصول الأربعة للكتاب.

الفصل الأول هو عبارة عن مقايسة مقاربات بضع كتابات بشأن "الواقع" مع مقاربات كتابات يوتوبية بشأن "المثال"، وبالذات في مفاصل تتقاطع- مبنًى ومعنًى- مع تداعيات حرب حزيران/ يونيو 1967، ومع جوهر "الديمقراطية الإسرائيلية"، ومع التحولات التي طرأت على "المسلمات المؤسسة" [أو "الأساطير المؤسسة"]، بداية تحت تأثير تلك الحرب، ومن ثمّ في ظلّ ما تلاها من حروب ومواجهات ومعارك عسكرية.

ويعرض الفصل الثاني رؤى إسرائيلية خاصة بشأن مستجدات سنة 2000، التي عقدت فيها قمة كامب ديفيد الإسرائيلية- الفلسطينية وانتهت إلى الفشل الذريع، وبشأن ما أعقبها من تطورات مهمة، جديدة وخطرة، ألقت بظلالها على السنوات التي أعقبتها. وتكمن أهمية عرض هذه الرؤى، بصورة رئيسة، في ما تقدمه من قراءة تتسم بقدر معقول من الموضوعية لتلك المستجدات، وبالأخص في غمرة سيل لا حصر له من رؤى مغايرة، لها سبق السيادة في الخطاب الإسرائيلي العام، وتحدّدت غايتها الأساس في حجب صورة إسرائيل الحقيقية أو في تدليسها.

أمّا الفصل الثالث فيغوص على بضعة دهاليز في مشروع بناء "الذاكرة القومية" الإسرائيلية الذي استند إلى قاعدة ما ينبغي تكريسه أو نسيانه في الذاكرة الجماعية، وتحديدًا في كل ما يتعلق بالهولوكوست [المحرقة النازية] وبهوية اليهود الشرقيين وموضوعات أخرى تندرج هي أيضًا في عداد المسكوت عنه على المستوى الإسرائيلي عامة.

ويتابع الفصل الرابع التفصيلات الجديدة المتعلقة بفكرة الترانسفير، وذلك من خلال تعقب انضفارها في تفكير النخب اليهودية الإسرائيلية، السياسية والأمنية والأكاديمية، بشأن المواقف من التسوية الدائمة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني- العربي، وكذلك في موقف هذه النخب إزاء الذي يجري اعتباره "خطرًا ديمغرافيًا". وقد برزت هذه التفصيلات، بصورة خاصة، في بضع "وثائق" تواتر ظهورها بعد سنة 2000، علمًا بأن العودة إلى السياق الإسرائيلي- الصهيوني المرتبط بهذه المسألة تحديدًا- "الترانسفير"- لا بدّ أن تشي باستحكام هذه الفكرة في أسّ التفكير السياسي الرسمي الإسرائيلي، المؤدلج بالصهيونية، بما يُعد مدخلاً لملامسة المؤثرات النظرية المحتملة التي تفضي، بدورها، نحو "التقاط" صيغة "البنية" الإسرائيلية بالمعطى التاريخي، أبعد مما هي قائمة في صيغتها السياسية الراهنة.

إنّ اعتماد سنة 2000 يرجع إلى كونها سنة مفصلية للغاية، على أكثر من مستوى وصعيد.
ففي هذه السنة تفجرت المفاوضات بشأن ما بات يعرف بـ"الحل الدائم" للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والتي دارت في إطار قمة كامب ديفيد. وكان من حصيلة ذلك أن عادت الأوضاع إلى المربع الأول، ولعل الأصح القول إن تلك المفاوضات لم تغادر هذا المربع أصلاً. وفي إثر ذلك شهدنا عودة إسرائيلية عامدة إلى سياسة النظر التقليدية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية جمعاء عبر فوهة المدفع، والتي كانت قد أخلت مكانها، بصورة مؤقتة، لسياسة تسوية ومصالحة تقف في صلبها، على ما يبدو، غاية الاحتواء والتهرّب من دفع المستحقات اللازمة لا أكثر. وكما لم يعد خافيًا على أحد، فإن هذه العودة انطوت على تصعيد للسياسة الداخلية، المتعلقة بعلاقة الدولة والأكثرية اليهودية مع الفلسطينيين في الداخل.
كما أن صعود أريئيل شارون، مع ما يحمله على كتفيه من إرث سياسي وعسكري عدواني بشأن الشعب العربي الفلسطيني عامة والفلسطينيين في إسرائيل خاصة، إلى سدّة رئاسة الحكومة الإسرائيلية سنة 2001، يُعدّ من تداعيات أحداث سنة 2000.
وفي سنة 2000 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وما عرف باسم "هبّة أكتوبر" بين صفوف الفلسطينيين في إسرائيل.

لكن يبقى الأمر الذي لا يقلّ أهمية هو ما لحق بصورة إسرائيل من تعرية حقيقية، تأثرت بصورة مباشرة من أحداث تلك السنة وما تلاها، بقدر ما تأثرت من التطورات العالمية.
وبالإمكان القول، على صلة بموضوع هذا الكتاب، إن إسرائيل زادت، بعد سنة 2000، من جرعة اكتراثها في كل ما يرتبط بمجالي صورتها وإعلامها السياسي. وقد ترتب هذا الاكتراث، ضمن أشياء عديدة أخرى، على خلاصات مؤتمر رسمي طارئ عقد في كانون الأول/ ديسمبر 2000 في فندق "دان بانوراما" في تل أبيب تحت العنوان "صورة إسرائيل في إبان الأزمات". وتزامن انعقاده مع بلوغ ثورة الاتصالات العولمية ذروة جديدة، أسفرت عن نتائج كثيرة، منها ازدياد نسبة بني البشر الذين في وسعهم أن يطلعوا من دون وسيط مهيمن على ما يدور في الكون كافة، وفي زمن وقوع الأحداث الحقيقي.
ومع أن من الصعب أن نجزم بمسألة انعدام الاكتراث الرسمي والإعلامي بتلميع صورة إسرائيل، قبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلا أن ما يجدر بنا أن نلاحظه هو أن هذا الموضوع لم يحتل المرتبة المتقدمة، التي أصبح يحتلها بعد سنة 2000 في سلم الأولويات الإسرائيلية، خلال الأعوام الأولى التي أعقبت قيام إسرائيل في سنة 1948. ويعزو بعض الدارسين ذلك لا إلى عوامل متعلقة بالخشية أو التحسب من تداعيات انفضاح الصورة الحقيقية على مواقف الرأي العام العالمي بشأن جوهر إسرائيل، وإنما إلى انهماك "الآباء البناة" [المؤسسين] في عملية ترسيخ دعائم "الدولة الوليدة"، لكونها "دعائم" انطوت على ارتكاب العديد من الجرائم والآثام والموبقات الأخلاقية، التي لم يتكشف منها سوى النزر اليسير. وقد نسبت في هذا الشأن إلى أول رئيس للحكومة الإسرائيلية، دافيد بن غوريون، مقولة مفادها "إنّ الأمر المهم هو ماذا يفعل اليهود، لا ما سوف يقوله الغوييم [الأغيار]" بشأن أفعالهم. وفي هذه المقولة إشارة بليغة إلى تغاضي الممارسات التي أعقبت إقامة إسرائيل عما يمكن أن يترتب عليها من إسقاطات تتعلق بصورتها العامة، ناهيك عن الإصرار عليها عن طريق العمد. وهي- للمعلومية- ممارسات جرت على ركام من الممارسات الصهيونية في هذا الشأن لا تقلّ شدّة ودهاء، أدّت بدورها إلى إقامة إسرائيل، وإلى مكابدة الشعب الفلسطيني شرور تلك الموبقات حتى يومنا هذا. ويؤكد دارسون آخرون أنّ هذا التغاضي يتضاد، بكيفية ما، مع اكتراث الديانة اليهودية بمسألة الصورة العامة، سواء على المستوى العمومي أو على مستوى الأفراد. وتمثيلاً على هذا الاكتراث يجري دومًا استحضار قول مأثور من تراث الديانة اليهودية جاء فيه أن "الإنسان يقاس، عادة، بكأس شرابه وجيبه وغضبه"، وأيضًا استحضار الفقرة الاستهلالية للأصحاح السابع من سفر الجامعة في التوراة، والتي ورد فيها أن "الصيت خير من الدهن الطيّب". وفي ثنايا هذا الكتاب ثمة إلماح بدر عن أحد الأساتذة الجامعيين إلى عدم جواز استغناء إسرائيل في الأحوال كافة عن أساطيرها المؤسسة، التي كان من تحصيلاتها مسلّمة تقول إن جعل السلام قيمة عليا إنما يعرّض الديمقراطية والدولة الديمقراطية للخطر، لأن "العالم الذي تريد إسرائيل الانتماء إليه لم يصل إلى وضعه الراهن عن طريق السجود لآلهة السلام"!.

وما من شكّ في أن وقائع "حرب لبنان الثانية" في صيف 2006، ونتائج تلك الحرب، أدّتا إلى بضعة مستجدات تتعلق بصورة إسرائيل في العالم.

ويتواصل، حتى لحظة إعداد هذا الكتاب [ربيع 2008]، صدور الدراسات التي تبحث في هذا الشأن.

مثلاً، في تشرين الأول/ أكتوبر 2007 أصدرت "كلية روتشيلد- قيسارية للإعلام" في جامعة تل أبيب، في إطار سلسلة "الإعلام خلال حرب لبنان 2006"، التي بدأت بإعدادها منذ أن وضعت تلك الحرب أوزارها، كراسة ثالثة من هذه السلسلة بعنوان "حرب إسرائيل- حزب الله 2006: الإعلام كسلاح في نزاع غير متناظر".

وضمت هذه الكراسة ترجمة عبرية لبحث أميركي سبق أن نُشر بالانجليزية أنجزه مارفين كالب وكارول سيفاتش من "مركز شورنستاين للصحافة والسياسة العامة" في "كلية الحكم على اسم جون كينيدي" في جامعة هارفارد الأميركية.

وقال البروفسور يورام بيري، رئيس "كلية روتشيلد- قيسارية للإعلام"، إن تضمين هذا البحث المترجم في نطاق السلسلة المذكورة، على الرغم من أن غايتها الرئيسة هي أن تعتمد، حصريًا، على أبحاث أصلية [عبرية إسرائيلية]، جاء باعتباره أحد أهم الأبحاث المنجزة في محور حرب لبنان والإعلام.

وقد درس البحث الصراع بين إسرائيل وحزب الله على كسب ودّ وسائل الإعلام العالمية في صيف 2006 "وتوصل إلى نتائج مثيرة للقلق" من ناحية إسرائيل، على حدّ توصيف بيري.

لعلّ أبرز هذه النتائج هي أن إسرائيل مُنيت بفشل ذريع في المعركة على صورتها، في مقابل حزب الله، لأن هذا الأخير عرف كيف يدير المعركة الإعلامية بصورة أفضل من إسرائيل، وليس فقط لكون المجتمعات المنغلقة (التي يؤطر حزب الله في نطاقها) تتمتع في مثل هذه الحروب غير المتناظرة بأفضليات بنيوية أو مبنوية على المجتمعات المفتوحة والديمقراطية (التي عادة ما يتم تأطير إسرائيل في نطاقها).

ويتوقف البحث، بصورة تفصيلية، عند العناصر التي جعلت حزب الله "الرابح الأكبر" في هذا الصراع، وذلك من خلال عرضه وتحليله للكيفية التي غطت بواسطتها وسائل الإعلام العالمية والعربية، على أنواعها الشتيتة، وقائع الحرب على لبنان في صيف 2006.

يكمن أهم هذه العناصر في حمل وسائل الإعلام على التمحور حول ما يسميه البحث بـ "عدم التناسب" الذي تميزت به ردّة فعل إسرائيل على عملية اختطاف جنديين إسرائيليين من قبل حزب الله يوم 12 تموز/ يوليو 2006، هذه العملية التي كانت مشابهة في أسلوبها لعمليات أخرى جرى تنفيذها على مرّ الأعوام السابقة، وتوقع الطرفان (إسرائيل وحزب الله) في أعقاب وقوعها أن تتدخل الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وأن يؤدي هذا التدخل بداية إلى مفاوضات ومن ثمّ إلى صفقة تبادل للأسرى. ويؤكد الباحثان، اللذان يعرضان في هذا السياق نتائج رصد غير مسبوق لتغطية وسائل الإعلام العالمية والعربية، أن موضوع "عدم تناسب" ردّة الفعل الإسرائيلية مع عملية حزب الله المذكورة تكرّر بقوة في وسائل الإعلام خلال أيام الحرب كافتها، أكثر من أي موضوع آخر سواه.

وانعكس ذلك، على نحو خاص، في تغطية وسائل الإعلام الأميركية. وفي ذلك دلالات كثيرة.

ويكتب الباحثان الأميركيان في هذا الصدد:
"إن كل الذي شاهد التلفزة الأميركية سرعان ما كان يتوصل إلى استنتاج مفاده أن أنباء شبكة الكوابل فوكس كانت منحازة لإسرائيل، وحاولت شبكة سي. إن. إن أن تكون متوازنة، غير أن برامج الأنباء المسائية في شبكات إيه. بي. سي وسي. بي. إس وإن. بي. سي [وهي البرامج التي تحظى بنسبة مشاهدة عالية] كانت نقدية حيال إسرائيل أكثر مما حيال حزب الله... ونتيجة لذلك فقد عبر رجل الشارع الأميركي، الذي تمت مقابلته لنشرة الأنباء المسائية في شبكة إن. بي. سي في يوم 21 تموز/ يوليو 2006، عن الرأي التالي: الإسرائيليون يدمرون كل شيء. ليس في وسعنا أن نفهم لماذا يفعل الإسرائيليون ذلك؟ هل بسبب اختطاف جنديين فقط؟ هذا لا يعدّ سببًا وجيهًا. أمّا مراسل شبكة سي. بي. إس، ديفيد رايت، فقال في نشرة يوم 17 تموز/ يوليو 2006: إن هذا الصنف من الدمار هو الذي يجعل العديد من اللبنانيين العاديين يرون أن الإسرائيليين هم الأشرار. وسواء أيد اللبنانيون حزب الله أو لم يؤيدوه فقد كانوا يسمعون دويّ القنابل المتساقطة على رؤوسهم".

وبموجب استطلاع آخر أجري في "مركز شورنستاين" فقد تمّ تصوير إسرائيل باعتبارها الطرف المعتدي حتى في الصفحات الأولى لصحيفتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست"، وذلك من خلال العناوين العريضة، وبشكل أكبر من خلال كلمات الصور.

كما يشير الباحثان كالب وسيفاتش إلى حقيقة أن شبكات التلفزة العالمية، لا العربية والأميركية فقط، بثت تقارير عن الحرب من لبنان أكثر من التقارير التي بثتها من إسرائيل، التي تعرضت جبهتها الداخلية لقصف صواريخ حزب الله على مدار أيام الحرب كافة. وقد تركزت التقارير المبثوثة من لبنان، أكثر شيء، في القتلى المحليين وفي الدمار والخراب اللذين لحقا بالبلد، وهو ما أدى في رأيهما إلى تصوير العرب باعتبارهم الضحايا الرئيسيين لهذه الحرب.

أمّا الخلاصة التي يتوصلان إليها، بعد التوكيد على أنه بحسب المفاهيم العسكرية الصارمة لم تُهزم إسرائيل في هذه الحرب ولكنها لم تنتصر فيها أيضًا، فهي أن النصر في حرب المعلومات والأنباء والدعاية الإعلامية كان من نصيب الإستراتيجيا التي اتبعها حزب الله. ولا شكّ في أن هذا النصر سيبقى موضوعًا ساخنًا تتناقش فيه مجالس الحرب الإسرائيلية.

ومع أن هذا البحث يشتمل على العديد من الأحكام التي يمكن الاستئناف عليها أو تفنيدها، وليس أبسطها الحكم القائل بـ"استحالة الحفاظ على أي سرّ" بسبب طبيعة "المجتمع الإسرائيلي المنفتح والديمقراطي"، وعلى الرغم من أنه لا يتعمق في قراءة أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي كانت في معظمها مجنّدة للحرب، مع ما عناه ذلك من دلالة المماشاة مع الرواية الأمنية الرسمية، غير أن أهميته تكمن أساسًا في ما يظهره من نجاح طرف عربي مقاوم في زحزحة بعض المسلمات المتعلقة بصورة إسرائيل في العالم وحلول مقاربات أخرى، قد تكون مغايرة، محلها. وهو نجاح يمكن البناء عليه في جبهات أخرى من النزاع مع إسرائيل، رغم أنّ من السابق لأوانه القول إنّه قد زلزل وضعًا قائمًا.

وربما سيكون من المفيد أكثر أن تجري دراسة المستجدات التي أعقبت حرب لبنان في صيف 2006 في المستقبل، في نطاق آخر غير نطاق هذا الكتاب.

أخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض هذه المداخلات يحتوي على مقالات ظهرت، بصورة متفرقة، في منشورات مختلفة صدرت بين السنوات 2001- 2007 عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار في رام الله. وجرت الإشارة إلى ذلك في متن الفصول وهوامشها. وقد تمّ جمعها وتبويبها في إطار هذا الكتاب بما يتلاءم مع موضوعه المحوري.


التعليقات