الاستيطان في الفكر الصهيوني (2- 2)/ أنطـوان شلحـت

الاستيطان في الفكر الصهيوني (2- 2)/ أنطـوان شلحـت


(*) بالعطف على ما ذكرناه في نهاية الحلقة السابقة من هذه المداخلة، فإن ما يقوله الباحث الفلسطيني الدكتـور وليد الخالدي (1)- وأساسًا أن قبول دافيد بن غوريون قرار التقسيم من العام 1947 لم يكن قبولا صادقًا بل تمشيًا مع تكتيك تقليدي صهيوني قديم في هذا الشأن- نجد مصداقاً له من زاوية أخرى، تستحق بدورها مزيدًا من البحث والاستقصاء، فيما تقوله الباحثة والمؤرخة الإسرائيلية أنيتا شابيرا في كتابها الموسوم بـ "النضال الخائب" (2) ومؤداه أن "تشكّل مناطق استيطان يهودية منعزلة أدى، في نهاية الأمر، إلى التنازل عن تلك المناطق من فلسطين التي لم تتشكّل فيها أغلبية يهودية".
وفي حقيقة الأمر فإن هذا الجدل الديموغرافي- الجغرافي لا يزال مستمرًا حتى الوقت الحالي، ومن آخر وقائعه يمكن الإشارة، مثلاً، إلى ما كتبه الكاتب والأستاذ الجامعي غادي طاوب، ولا سيما إشارته إلى أن كثيرين من الإسرائيليين المؤيدين للتقسيم حاليًا قد تبنوا هذا الموقف عمليًا بعد أن "يئسوا من إمكان التوصل إلى سلام إسرائيلي- فلسطيني- عربي"، وهم يعتقدون أن التقسيم هو "الطريق الوحيدة لمنع أفول المشروع الصهيوني وفقدان الأغلبية اليهودية" (3). ووفقًا لما يقوله أيضًا فإن الفكرة الصهيونية لدى كل من هرتسل وحايم وايزمان وزئيف جابوتنسكي وإسحاق رابين وحتى مناحيم بيغن تطلعت إلى غاية مزدوجة هي السيطرة على أرض إسرائيل (فلسطين) كلها وإلى إقامة دولة إسرائيل، إلا إنها تجنبت أي مجازفة من شأنها مسّ "استقرار الأغلبية اليهودية"، مثل ضم مناطق ذات أغلبية عربية إلى تخوم "الدولة اليهودية". وفي عُرف كاتب إسرائيلي آخر هو مناحيم بـن فإن "الإنجاز الأهم" الذي انطوى عليه اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية هو "تخليص إسرائيل من فخّ ديموغرافي رهيب" (4). ومن نافل القول إن هذا الكاتب يتبنى المقاربة التي تقول إنه يتعين على إسرائيل أن تتوصل إلى "تسوية جغرافية" كي لا تكون "ضحية" واقع ديموغرافي بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن الغلبة فيه من نصيب الفلسطينيين، أمّا المعارضون لهذه "التسوية" فإن مقاربتهم تؤكد أنه لا توجد "مشكلة" ديموغرافية ولم يسبق أن وُجدت مشكلة من هذا القبيل، كما أن شيئًا من هذا القبيل لن يظهر في المستقبل، وعليه فلا مبرّر إطلاقًا للتفكير بحلول سياسية تنطوي على تسوية جغرافية على شاكلة "خطة الانفصال عن غزة". وثمة قاسم مشترك بين هاتين الفئتين يتمثل في غاية الحفاظ على الطابع اليهودي لإسرائيل (5).


إن ما يرد في هذا السياق على وجه التحديد يلوّح، إلى حد بعيد، بالخلفية التي مهّدت لاحتلال العام 1967، والذي يرى كثيرون من المؤرخين والباحثين، الفلسطينيين و"الإسرائيليين الجدد" على حدّ سواء، أنه جاء كي يكمل ما لم تستطع الحركة الصهيونية أن تنجزه في العام 1948.
في نطاق هذا الفهم الجدلي للأمور، وتوكيدًا على أن الصراع هو في حقيقة الأمر صراع بين تيارات صهيونية متنوعة، لا يشكل التضاد مع الفكرة الصهيونية الأصلية الدافع الرئيس لها، نورد أيضًا ما يلي من حقائق ومعطيات تتعلق باحتلال 1967:
(*) أولاً- أوجدت حرب حزيران العام 1967 ظروفًا لـ "تطرّف" آخر في عملية الاستيطان الكولونيالية الصهيونية، حسبما يؤكد عالم الاجتماع الإسرائيلي غرشون شافير (6). فبعد هذا التاريخ أصبحت الطريق سالكة، في نظر زعماء الصهيونية، لاستبدال نموذج الاستيطان المجزّأ، والذي جرى اعتماده لظروف موضوعية في حدود العام 1948، بنموذج استيطان آخر يستند إلى سيطرة مجموعة المستوطنين اليهود على السكان المحليين (الفلسطينيين)، أو إلى طرد هؤلاء الأخيرين من جميع المناطق الخاضعة لسيطرة المستوطنين. بكلمات أخرى انقطعت الصلة أو الرابطة بين المركّب الديموغرافي وبين المركّب الجغرافي (وكانت حصيلتها في الماضي ما سبق أن أسميناه بـ "حوسلة الجغرافيا")، والتي كانت قيدًا على عملية الاستيطان الكولونيالية الصهيونية. وبطبيعة الحال فإن الذي أتاح ذلك هو السيطرة على تلك المناطق بصورة عسكرية والتفوّق العسكري لإسرائيل، الأمر الذي افتقر إليه المستوطنون في فترة ما قبل الدولة. وهكذا فإن نموذج الاستيطان الطاهر المحدود أخذ يخلي مكانه لنموذج الاستيطان الطاهر المطلق، الذي كانت منظمة "غوش إيمونيم" الاستيطانية أول من بدأ بتطبيقه.
وتزامنًا مع هذا التطوّر بدأ يتشكل تشابه واضح بين الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي في المناطق المحتلة منذ العام 1967، وبين حركات استيطان كولونيالية أوروبية سابقة في مناطق مختلفة من العالم. ويرجع مصدر التقاطب الأيديولوجي- السياسي بشأن الموقف من المناطق المحتلة، الذي حدث في المجتمع الإسرائيلي بدءًا من العام 1967، إلى خلاف بين مؤيدي نموذجين مصغرين مختلفين للسياسة الكولونيالية بإزاء نموذج الاستيطان الطاهر: هناك من جهة مؤيدو النموذج الطاهر المحدود، الذين هم على استعداد للتنازل عن أراض في مقابل التجانس الإثني، ومن جهة أخرى هناك مؤيدو النموذج الطاهر المطلق، الطامعون في الانتشار على الأراضي كلها، مفترضين أن السكان الفلسطينيين بالإمكان السيطرة عليهم أو طردهم. إن الخلاف، إذن، هو بين من يؤيدون الخصوصية- الحصرية اليهودية، وإن بأصناف مختلفة، لا بين مؤيدي هذه الخصوصية- الحصرية وبين معارضيها.
(*) ثانيًا- عمليًا فإن الحكومات الإسرائيلية بعد العام1967 - بدءًا من الحكومات التي كانت برئاسة حزب العمل- ألغت تقسيم أرض إسرائيل (فلسطين) الذي نشأ بعد حرب العام 1948. و"برنامج ألون" (يغئال)، الذي شكل هاديًا ومرشدًا لمبادرات الاستيطان من طرف حزب العمل بعد "حرب الأيام الستة"، أعدّ تحت تأثير تدوين الحسابات الديموغرافية- الجغرافية القديمة لحركة العمل الصهيونية. وكانت غاية هذا البرنامج هي ترسيخ وجود إسرائيلي ثابت في المناطق الإستراتيجية في الضفة الغربية، من خلال شمل حدّ أدنى من السكان الفلسطينيين في تخوم المناطق المعدّة لأن تبقى خاضعة لسيطرة إسرائيل. ولهذا فقد تمحور البرنامج حول تشجيع الاستيطان اليهودي في غور الأردن ذي الكثافة السكانية المنخفضة. مع ذلك، فإن إحدى الحكومات برئاسة حزب العمل صدقت على إقامة المستوطنات "غير الشرعية" في منطقة "غوش عتصيون" والخليل (ومن هذه المستوطنات ظهر زعماء منظمة "غوش إيمونيم" الاستيطانية الجامحة، في فترة لاحقة). وبهذه المصادقة انجرّت تلك الحكومة وراء سياسة توسّع إقليمية بالتقسيط. وجرى توسيع المناطق المشمولة في "برنامج ألون"، بمقدار كبير، في العام 1973، عبر "برنامج غاليلي" الأكثر غلواءً. وبشكل تدريجي حدثت نقلة كبيرة في المفاهيم والتصورات السابقة بشأن المناطق الحدودية والاستيطان، بدءًا من الاستيطان الأمني، مرورًا بالاستيطان ذي الدوافع الدينية- المسيانية، وانتهاء باستيطان الأطراف غير الأيديولوجي.
كذلك فإن الطريقة الرئيسة لتحصيل الأرض في الماضي- أي طريقة امتلاكها بالمال- استبدلت بالطريقتين اللتين سبق أن قال عنهما مناحيم أوسيشكين إنهما "ليستا من الرب (الإله)" وهما: طريقة الاحتلال العسكري وطريقة المصادرة الإدارية. ومع اتساع اللجوء إلى استعمال هاتين الطريقتين، في سبيل تكديس الأراضي لصالح الاستيطان اليهودي، بدأ يتقلص أكثر فأكثر الفارق بين نموذج الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي، وبين نموذج الاستيطان الكولونيالي التاريخي للدول الأوروبية العظمى.
وفي ظل حكومات "الليكود" (بدءًا من العام 1977) تغيرت أيضًا، بصورة جوهرية، الخلفية النظرية لتمدّد المستوطنات اليهودية في المناطق المحتلة منذ العام 1967. ففي فترة الييشوف، وكذلك بعد العام 1967، في إطار "برنامج ألون"، كان زرع المستوطنات اليهودية يتم بصورة "متراصة" ومتتابعة لتسهيل التتابع الإقليمي، ولإقصاء السكان الفلسطينيين من المناطق المعدّة لأن تشملها الدولة اليهودية ولرسم حدود التوسع المستقبلية. في مقابل هذا فإن برنامج الاستيطان لحكومات "الليكود" سعى نحو توزيع المستوطنات اليهودية بين المدن والقرى العربية كي يمنع تواصلاً إقليميًا فلسطينيًا من شأنه أن يشكل نواة لدولة فلسطينية عتيدة. بكلمات أخرى فإن نموذج الاستيطان والتمدّد الجديد سعى نحو إبطال أهمية الوجود الديموغرافي الفلسطيني أو، على الأقل، إلى التغاضي عن هذا الوجود بصفته عاملاً يحدّ من التمدّد الجغرافي اليهودي.

وقد قام ألـوف بن، المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس"، عندما عمل باحثا في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، بتقسيم تطور الاستيطان والمستوطنات (في الضفة الغربية أساسًا) بعد العام 1967 وحتى الآن إلى ثلاث مراحل رئيسة:
الأولى- مرحلة الإنشاء أو التكوين، وقد استمرت من العام 1967 وحتى العام 1992، وتمّ خلالها إقامة مستوطنات بهدف رسم حدود إسرائيل في المستقبل، وتعزيز سيطرة إسرائيل على الضفة، وإحباط إمكان تسليمها إلى جهة أخرى. وفي مرحلة الإنشاء تم رسم خريطة الاستيطان الحالية في الضفة.
الثانية- مرحلة الفرز، والتي استمرت من العام 1992 وحتى العام 2005، وخلالها تم تثبيت الفرق بين ما يسمى بـ "الكتل الاستيطانية"، التي تسعى إسرائيل إلى ضمها إليها في إطار اتفاق دائم، وبين المستوطنات المعزولة في عمق الضفة وفي غور الأردن، والتي تستخدمها كورقة مساومة في المفاوضات مع الفلسطينيين. وكان مؤشر الفرز هو حجم المستوطنات، من جهة وبُعدها عن الخط الأخضر، من جهة أخرى. وأنشأ جدار الفصل عزلا فعليا بين هذين النوعين من المستوطنات. ومنحت التفاهمات بين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق أريئيل شارون ورئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش، والتي جرى التوصل إليها في العام 2004، في مقابل إخلاء المستوطنين من قطاع غزة من خلال خطة الانفصال أو فك الارتباط (نُفذّت في العام 2005)، مفعولا سياسيا لسياسة الفرز.
الثالثة- مرحلة التطبيع، والتي بدأت مع صعود إيهود أولمرت إلى سدّة الحكم في العام 2006. وتصرّف أولمرت كما لو أن الكتل (الاستيطانية) قد تم ضمها فعليا إلى إسرائيل، وفي فترة ولايته تسارع البناء في الكتل الاستيطانية وشكلت (سياسته) بالأساس أداة لحل مشكلات اجتماعية، وأولها توفير سكن للحريديم (أي اليهود المتدينين المتزمتين). وبموجب التفاهمات التي توصل إليها شارون مع الإدارة الأميركية، تم تحديد البناء في الجانب الغربي من جدار الفصل. ولم يسمح أولمرت ووزير الدفاع في حكومته، إيهود باراك، بأعمال بناء فيما وراء الجدار، وكان تطوير المستوطنات المعزولة ضئيلا وبمبادرات محلية، على حدّ زعم الكاتب (7).
ولا بُدّ من ملاحظة أن المدّ الاستيطاني الإسرائيلي الواسع النطاق، العائد إلى الأعوام التي أعقبت صعود "الليكود" إلى الحكم في العام 1977، جرى تحت إشراف وزير الزراعة في ذلك الوقت، أريئيل شارون. فقد سعى "الليكود" نحو تكريس سيطرة إسرائيل على الضفة الغربية من خلال الاستيطان. وجرى التوسع الاستيطاني بوتيرة سريعة لأن حكومة هذا الحزب اعتبرت أن الوقت ضيّق، وذلك على خلفية مفاوضات السلام بين إسرائيل ومصر، فضلاً عن خشيتها من عودة "المعراخ" (سلـف حزب العمل) إلى الحكم. ولذلك قررت حكومتا "الليكود" خلال ستة أعوام، مثلا، إقامة مائة وثلاث مستوطنات في الضفة الغربية.
وتدل الوثائق الإسرائيلية على أن شارون استعرض أمام حكومة مناحيم بيغن الأولى بضعة أهداف لإقامة المستوطنات في الضفة الغربية، ومنها ما يلي:
أولاً- إنشاء عازل (حاجز) يفصل بين الفلسطينيين في منطقة المثلث داخل الخط الأخضر وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية، تحسبا من نشوء كتلة عربية "تهدّد" السكان اليهود في منطقة السهل الساحلي؛
ثانيًا- السيطرة- بواسطة المستوطنات- على المناطق الواقعة في الضفة الغربية والمطلة على التجمعات السكانية الإسرائيلية في السهل الساحلي بهدف منحها عمقا وتعزيز "الممر" إلى القدس وضمان عدم انتشار أي قوة غير إسرائيلية في المناطق المطلة على إسرائيل؛
ثالثًا- السيطرة بواسطة المستوطنات على غور الأردن لصد أي هجوم بري من الشرق؛
رابعًا- ضمان بقاء القدس، بما فيها القدس الشرقية المحتلة، عاصمة دائمة للشعب اليهودي بواسطة إقامة حزام من المستوطنات يحيط بالأحياء العربية في المدينة. ولتحقيق هذا الهدف تمت إقامة الكتلة الاستيطانية غوش عتصيون ومستوطنات إفرات ومعاليه أدوميم وغفعات زئيف وبيت إيل. وكان تقدير شارون أن إقامة مستوطنات "غلاف القدس" ستضمن وجود أغلبية يهودية وسيطرة يهودية على المدينة لخمسين أو مائة عام مقبلة.
وكتب شارون في مذكراته عن اجتماع الحكومة الذي استعرض خلاله هذه الأهداف يقول "لم أعرف ما إذا كان الوزراء قد صدقوني أم لا، لكني قلت لهم إني لا أتحدث إلى محضر الجلسة (فقط)، ولذلك فكروا جيدا في الخطة، لأنه في اللحظة التي ستتم فيها المصادقة عليها فإني سأنفذها". وقد صدقت الحكومة الإسرائيلية على الخطة.
وسعى شارون إلى تنفيذ خطته بسرعة قبل أن توقف معارضة داخلية وخارجية مشروعه الاستيطاني. وعمل في البداية على فرض وقائع على الأرض ليتمكن من مواصلة المشروع في المستقبل. وفي الأعوام اللاحقة تعرضت إسرائيل إلى ضغوط دولية كانت غايتها منعها من إقامة مستوطنات أخرى. لكن البؤر الاستيطانية كانت قد أقيمت، ولذلك فقد وجهت إسرائيل جهدها الأساس نحو توسيع هذه البؤر والمستوطنات، لا سيما في مناطق الضفة الغربية المتاخمة للخط الأخضر والتي كان عليها طلب، كما وجهت هذا الجهد نحو إقامة بنى تحتية مثل شبكة الشوارع الالتفافية، التي سهّلت على المستوطنين العيش بأمن بالقرب من المدن الفلسطينية.
من جهة ثانية شجع شارون تنفيذ "خطة النجوم" المتمثلة في إقامة بلدات يهودية غربي الخط الأخضر، لتحقيق الهدف الذي وضعه ويتعلق بفصل الفلسطينيين داخل الخط الأخضر عن الفلسطينيين في الضفة الغربية. لكن الاتصال بين الفلسطينيين في كلا جانبي الخط الأخضر استمر حتى العام 2002. وفي هذا العام عاد شارون، وكان قد أصبح رئيسا للحكومة، واتخذ قرارين بهدف الفصل بين المجموعتين الفلسطينيتين. وبينما قضى القرار الأول ببناء الجدار الفاصل الذي منع التنقل بين منطقة المثلث والضفة الغربية، فإن القرار الثاني منع حصول الفلسطينيين من الضفة الغربية، الذين تزوجوا من مواطنين إسرائيليين، على المواطنة الإسرائيلية.
ويشدّد باحثون كثيرون على أنه "لا شك في أن اعتبار الفصل السكاني بين العرب مواطني إسرائيل وبين سكان السلطة الفلسطينية كان ماثلا أمام عيني شارون لدى المصادقة على هذين القرارين".
عند هذا الحدّ تجدر الإشارة إلى أن المؤرخ والصحافي الإسرائيلي توم سيغف كان الأكثر إصابة للهدف من بين سائر المعلقين والمحللين حين أكد، وهو يخطّ رسمًا بيانيًا لما اصطلح على تسميته بـ "تركة شارون" أو "وصيته السياسية" بعد أن أضحى غيابه عن الساحة السياسية الإسرائيلية من "الأسرار المفضوحة"، أن شارون نظر إلى العرب الفلسطينيين باعتبارهم الخطر الأكبر على المشروع الصهيوني. ومما كتبه سيغف في هذا الشأن: لم يرَ ابن المزارعين من كفر ملال (يقصد أريئيل شارون) في الجيوش العربية خطراً أساسياً على إسرائيل، فالخطر الأكبر كان يتبدّى له من العرب المقيمين في أرض إسرائيل (فلسطين). وقال ذات مرة "إنني لا أكره العرب، ولكنني على وجه اليقين أومن عميق الإيمان بحقوقنا التاريخية على أرض إسرائيل وهذا يفاقم بشكل طبيعي من موقفي تجاه العرب"، وهو يقصد عرب البلد. لقد كانوا العدو الأساس له، مدنيين كانوا أم عسكريين، إذ لم يعتد شارون على التمييز فيما بينهم. فقد رأى في هؤلاء وأولئك خطرًا على الهوية القومية لإسرائيل (8). وأضاف سيغف: ...إن شارون لا يختلف في ذلك عن الآخرين (من زعماء الحركة الصهيونية)، فمنذ اليوم الأول لبدء مشروعها (الاستعماري) في فلسطين أدركت الحركة الصهيونية أنها ستواجه مقاومة عربية. ومنذ اللحظة الأولى التي وصل فيها الطلائعيون لم يكفّ اليهود في البلد عن السجال فيما بينهم عن أفضل الطرق للتعايش مع "المشكلة العربية". وقد درسوا كل احتمال يقع بين ترحيل العرب إلى مناطق أخرى وإقامة دولة ثنائية القومية، كما اختبروا احتمالات تقسيم البلد كلها، لكنهم (في خضم ذلك) أجمعوا على مبدأ أساس فحواه: أرض أكثر وعرب أقل!.


منذ مطلع السبعينيات (في القرن العشرين الفائت) بدأت تتبلور في أوساط الباحثين الإسرائيليين، وحتى على هامش الجدل الجماهيري العام، مقاربة جديدة ونقدية إزاء الرواية الصهيونية المتعلقة بالاستيطان اليهودي في فلسطين. ومن منظور هذه المقاربة فإنه من الصائب عقد مقارنة بين الاستيطان الإسرائيلي الذي أعقب حرب العام 1967 والتشكيل الاجتماعي الإسرائيلي الناشئ الآن، وبين مجتمعات كولونيالية أخرى مثل إيرلندا الشمالية والجزائر الفرنسية أو جنوب أفريقيا. ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته هو أن مريدي هذه المقاربة هم، في معظمهم، من منتقدي الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة تحديدا.
والأمر الدارج عند هؤلاء كلهم، ربما أكثر من أي شيء آخر، هو إجراء تمييز حاد بين هذا الاستيطان، الذي يجاهرون برفضهم له بل حتى بدعوتهم إلى التخلي عنه، وبين الاستيطان في السهل الساحلي والأغوار مثلا، والذي لا يجدون أي غضاضة في رفعه إلى مصاف العمل المقدّس. ولذا فإنهم يرون في الاستيطان المتأخر- المستوطنات أو المستعمرات- ظاهرة جديدة وانعطافاً مرهونين، بهذا القدر أو ذاك، بتغيّر متطرّف طرأ على الثقافة السياسية الإسرائيلية بعد حرب العام 1967.
إن هذه النظرة، التي تبدأ بسرد التاريخ الإسرائيلي من جديد بالتزامن مع الاحتلال في العام 1967 أو مع "الانقلاب" في العام 1977 ("الانقلاب"- هو التعبير السياسي الإسرائيلي عن مرحلة صعود حزب "الليكود" إلى سدة الحكم في إسرائيل بعد أن تربع عليها حزب "العمل" لمدة تسعة وعشرين عاماً متواصلة)، تتغاضى عن التشابه الكبير بين الاستيطان ما قبل العام 1948 وبين الاستيطان ما بعد العام 1967. وهي تهدف في العمق إلى إنكار أي بعد كولونيالي للاستيطان الصهيوني المبكر. وفي واقع الأمر، فإن التغيّرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي بعد العام 1967 ينبغي فهمها لا بوصفها انتقالاً من "مجتمع صهيوني- اشتراكي" إلى مجتمع يميني- كولونيالي، وإنما بوصفها استمراراً طبيعياً للمشروع الكولونيالي الأصلي، عبر الانتقال من شكل استيطاني معين إلى شكل آخر، من دون مفارقة جوهر هذا المشروع.
وكنا قد عرضنا، في مقام سابق، بعض الرؤى الإسرائيلية التي تؤكد عدم انتهاء مرحلة التوسع الإقليمية، وفق العقيدة الصهيونية، بالتزامن مع أحداث العام 1948. ولعل البروفسور زئيف شطيرنهيل، المؤرخ الإسرائيلي اليساري والحاصل على "جائزة إسرائيل"، والذي تعرّض في 25 أيلول 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التي يتبناها، هو أبرز أصحاب هذا الموقف، حيث رأى، في سياق مقال له ظهر إلى جانب مقالات لآخرين غيره في كتاب بعنوان "الوضع الآن" صدر في العام 2003، أن جذور الأزمة الكبيرة التي تتسم بها السياسة الإسرائيلية العامة في الآونة الأخيرة تعود إلى أداء القيادة الإسرائيلية على وجه العموم. وبموجب ما كتب فإن القيادة الصهيونية التي تولت عملية إقامة دولة إسرائيل في العام 1948 لم تفلح في أن تتفوّق على نفسها، فتبادر إلى تأسيس مجتمع سياسي يتحلى بأجندة ليبرالية عامة، وبذا فقد ظلت القيم القومية اليهودية في مرتبة متقدمة، من ناحية الأفضلية، على القيم العالمية، وخصوصًا القيم المتعلقة بحقوق الإنسان. وبسبب انقياد تلك القيادة وراء القيم القومية اليهودية فإنها أصبحت فاقدة القدرة على اعتبار العام 1949 (الذي شهد توقيع اتفاقيات الهدنة بين إسرائيل وبين الدول العربية المجاورة) بمثابة نهاية ما يسميه "مرحلة الاحتلال"، أو مرحلة التوسّع الإقليمية.
وبناء على ذلك، كما يؤكد شطيرنهيل، فإن "الحروب التي خاضتها إسرائيل حتى الآن لم تكن ناجمـة عن الرفض العربي المستمر للاعتراف بشرعية الحركة القومية اليهودية فحسب، وإنما أيضًا عن عدم توفر القدرة والرغبة لدى إسرائيل في تحديد الوجهة التي يتعين المضي فيها قدمًا". ولذا، فإن "الانتصار الإسرائيلي في حرب العام 1967 اعتبر استمرارًا للانتصار في حرب الاستقلال" (حرب العام 1948)، الأمر الذي يؤكد الصلة الوثيقة فيما بين الحدثين، تاريخيًا وفكريًا.
(انتهـــى)


(*) هذا المقال هو نص منقح ومزيد لمداخلـة قدمها الكاتب خلال ندوة حول الاستيطان الصهيوني عقدت في جامعة فيلادلفيا، الأردن، في كانون الأول 2009. وقد نُشر أيضًا في ملحق "المشهد الإسرائيلي" الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار.
1- وليد الخالدي: عودة إلى قرار التقسيم- 1947، مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 9، عدد 33، شتاء 1998.
2- أنيتـا شابيـرا: النضال الخائب، إصدار: عام عوفيد، تل أبيب، 1977 (بالعبرية).
3- صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 14 نيسان/ أبريل 2010.
4- صحيفة "معاريف"، 14 نيسان/ أبريل 2010.
5- قام المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، في إطار العدد رقم 41 من سلسلة "أوراق إسرائيلية"، بتقديم جانب من السجال الذي دار ويدور في إسرائيل بشأن الميزان الديموغرافي وتوقعاته المستقبلية وإحالاته السياسية.
6- غرشون شافير: الأرض، العمل والسكان في الاستيطان الصهيوني- جوانب عامة وخاصة. نشرت الترجمة العربية لها في كتاب "ذاكرة، دولة وهوية- دراسات نقدية حول الصهيونية وإسرائيل"، إعداد وترجمة: أنطوان شلحت، إصدار: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله 2002.
7- ألوف بن: نظرة مغايرة إلى المستوطنات"، المستجد الإستراتيجي، معهد دراسات الأمن القومي، جامعة تل أبيب، تشرين الأول/ أكتوبر 2008.
8- صحيفة "هآرتس"، 13 كانون الثاني/ يناير 2006.

التعليقات