"إنكسار السلام" رؤى إسرائيلية مغايرة حول مستجدات 2000 2004/ أنطوان شلحت

-

صدرت في إسرائيل، منذ أن عقدت وانتهت إلى الفشل الذريع قمة كامب ديفيد الإسرائيلية الفلسطينية في صيف 2000، عدة كتب تناولت ما حصل في تلك القمة وفي أعقابها من تطورات هامة وخطيرة لا تزال ترخي بظلالها على الأيام الراهنة. ومعظم هذه الكتب اضطلع بتأليفها ساسة أو إعلاميون شاركوا في القمة (كتب جلعاد شير ويوسي بيلين وشلومو بن عامي ومناحيم كلاين ورفيف دروكر مثلاً). ومؤخرًا انضم إلى هذا المجهود عدد من الباحثين الأكاديميين الإسرائيليين.

هنا قراءة في كتابين لاثنين من هؤلاء الباحثين إلى جانب أخرى في تقرير صدر عن أحد معاهد البحث حول المحور ذاته:
"أطلق الكثيرون من الشرق الأوسط وخارجه على الأحداث المتعاقبة، التي من شأنها أن تفضي إلى السلام المرتجى بين إسرائيل والفلسطينيين، توصيف: عملية السلام... وفي التحصيل الأخير فإن ما أفلح الإسرائيليون والفلسطينيون في إحرازه على مدار العقد الممتد بين 1993 و2003 لم يكن أكثر من "عملية" انعكست في العديد من الاتفاقات والتسويات وفي القليل من مضامين "السلام" الهامة وذات الدلالة".

بهذه الكلمات للمؤلف يمكن إيجاز كتاب الباحث والأستاذ الجامعي د. يورام ميتال، من جامعة بن غوريون في بئر السبع، الموسوم بـ"سلام مكسور: إسرائيل، الفلسطينيون والشرق الأوسط" (1)، الذي يعرض لـ"عملية السلام" بين الطرفين حتى شتاء العام 2003، وتحديدًا إلى ما قبل إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرييل شارون، عن خطته للانسحاب الأحادي الجانب من مستوطنات قطاع غزة وبعض المستوطنات في أقصى شمال الضفة الغربية المعروفة باسم "خطة الانفصال" (أعلن شارون عنها خلال خطابه أمام مؤتمر هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي، في كانون الأول 2003).

ينهي ميتال كتابه بوقفة متأملة في من أسمي ب"شارون الجديد"، الذي بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية بتسويقه على هذا النحو بعد أن أعلن قبوله لرؤية الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) كخطة لائقة لتسوية المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية، على رغم استنادها إلى مبدأ "دولتين للشعبين"، وهو المعروف بكونه من أشدّ معارضيه، فيتساءل: هل يدلّ قبول رئيس الوزراء الإسرائيلي لرؤية إقامة دولة فلسطينية وتصريحاته، التي تشفّ عن إقرار بعدم جدوى استمرار السيطرة بالقوة على الشعب الفلسطيني، على جهوزيته للتوصل إلى تسوية دائمة تشمل حلّ جميع القضايا المختلف عليها بين الشعبين؟ أم أن أفقه السياسي لا يزال أشد ضيقًا وفي صلبه قيام دولة فلسطينية في قطاع غزة وفي نصف مساحة الضفة الغربية بحيث يكون مدى استقلالها وسيادتها خاضعًا على نطاق كبير لرغبة حكومة إسرائيل وإرادتها؟

ومع أنه لا يجيب عن هذا السؤال حصرًا، من النقطة الزمنية التي طرحه فيها، إلا أنه لا يدع مجالاً للشك في أنه يجهل الجواب عليه. فلدى انتقاله للحديث عن خطة "خارطة الطريق" للرباعية الدولية، التي يخصص لها أحد فصول الكتاب، يأخذ على حكومة شارون أن تأييدها للخطة المذكورة جاء بعد تسجيل ملاحظات عليها أقل ما يمكن القول فيها إنها تفرغها من مضمونها، وليس قبل تبني الإدارة الأميركية لها. ويخضع الباحث "التغيير"، الذي يجري تسويقه لدى شارون، للفحص والتحليل بناء على مواقفه التي تلت أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة ومن مبادرة السلام العربية. غير أنه في موازاة قبول خطة الرباعية الدولية، وإكمالاً له، راج في السجال العمومي في إسرائيل في تلك الأيام الافتراض التبسيطي بأن الولايات المتحدة تبنت "خارطة الطريق" فقط من أجل تعويض رئيس الوزراء البريطاني، طوني بلير، على وقفته الحازمة إلى جانب إدارة بوش في الحرب على العراق. "وهكذا تمّ، مرة أخرى، تسطيح مصالح وطنية لدول (وبينها الولايات المتحدة) في رواية أفقية جرى قبولها دون استئناف وروفقت بتأويلات جوفاء كانت في معظمها عودة على تقييمات شائعة في المؤسسة الإسرائيلية".

في واقع الأمر فإن المؤلف يوجّه سهام نقده في الكتاب كافةُ، من ألفه إلى يائه، صوب التبسيط والتسطيح اللذين عادة ما كانا صفة ملازمة لجملة من مفاهيم السياسة والساسة في إسرائيل إزاء النزاع وإزاء الفلسطينيين والشعوب العربية جمعاء، وهي الصفة التي كانت تسعف المصابين بها في تجاهل السياقات المخصوصة.

وبناء على ذلك فهو يشدّد على أن غاية كتابه هي تعزيز الدعوات المختلفة الملحة على إعادة النقاش في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى سياقاته التاريخية والسياسية، التي جرى تغييبها في غمرة التأجيج المتواتر والمكثف للروايات المركزية في المجتمعين، خلال السنوات القليلة الماضية استنادًا إلى إرث متراكم في هذا الخصوص.

يرى ميتال أن برنامج أوسلو وسياسة الولايات المتحدة، إلى ما قبل أحداث 11 أيلول 2001، شكلا منارتين "شقّ الإسرائيليون والفلسطينيون طريقهما على هدي نورهما سنوات طويلة". وقد تلقت هاتان المنارتان طعنات نجلاء خلال السنوات 2000-2003، بحيث أن محاولات تأهيلهما لا تزال شديدة التعقيد إلى أيامنا الحالية.

تنطوي خطة أوسلو، برأي الباحث، على ثلاثة مركبات تشكل عمادها وقوامها. هذه المركبات هي: الاعتراف المتبادل ومأسسة "عملية السلام" خلال المرحلة الانتقالية والتزام بالتوصل إلى اتفاق حول الحل الدائم يتم في إطاره إجمال المواضيع الأكثر استعصاء على الحل.

وهو يرى أن رصاصات يغئال عمير، التي اغتالت رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين، في 4 تشرين الثاني 1995، أصابت الهدف المتوخى منها وهو كبح جماح العملية السياسية.

غير أن ميتال، في موازاة ذلك، يولي أهمية كبيرة لقرار شمعون بيريز، وريث رابين في كرسي رئاسة الوزراء وقيادة حزب "العمل"، إبقاء السيطرة الإسرائيلية على مدينة الخليل، الذي كان ذا مفعول نافذ في عدم توفير الحماية المطلوبة للعملية السياسية "وقد أدرج المستوطنون في تلك المدينة في عداد ما جرى اعتباره في إسرائيل النواة الصلبة للمستوطنين... وعلى خلفية التوترات بين التيارات السياسية المتخاصمة في إسرائيل آثر رئيس الوزراء عدم المخاطرة بدخول مواجهة مع هؤلاء المستوطنين وأنصارهم".

في سياق لاحق، لكن متصل، ينوه الباحث بأن جميع خروقات إسرائيل لما تضمنه اتفاق أوسلو من التزامات تكاد تتقزّم حيال سلوكها في موضوعة الاستيطان، الذي كانت غايته الرئيسية ولا تزال إيجاد ظروف ووقائع ميدانية تحول دون تقسيم البلاد ودون قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات تواصل إقليمي.

ويضيف أن جماهير المستوطنين وأنصارهم كانوا على مدار السنوات عنصرًا شديد التأثير في الساحة السياسية في إسرائيل. وحقيقة أن أية حكومة في إسرائيل لم تفلح بعد أوسلو في إتمام ولايتها القانونية تعد تعبيرًا ملموسًا عن انعدام الاستقرار السياسي. ويلفت إلى أن جميع حكومات إسرائيل المتعاقبة في العقد الأخير أيدت وأعطت الضوء الأخضر لتوسيع المستوطنات ومصادرة الأراضي وخلق مواقد احتكاك مع الفلسطينيين بين الفينة والأخرى. وخلال السنوات الثماني الأولى من "عملية أوسلو" زاد عدد المستوطنين بحوالى 80 بالمئة، فيما تشكل الزيادة الطبيعية نسبة ضئيلة من هذا الارتفاع.

ولم تكن مسايرة بيريز للنواة المتطرفة من المستوطنين النقطة الوحيدة التي عَنَت أو كان فيها ما يؤشر إلى انكسار "عملية أوسلو"، في موازاة جريمة اغتيال رابين، ضمن سياقها الإسرائيلي. وإنما كانت هناك أيضًا نقاط انكسار أخرى أبرزها فترة ولاية بنيامين نتنياهو في رئاسة الوزراء، التي استمرت ثلاث سنوات "تميزت بجهد لا يكلّ لحرف برنامج أوسلو عن مسار تطبيقه". ويؤكد ميتال أن إيهود باراك، الذي ارتسم في الوعي الإسرائيلي باعتباره "مكمل طريق رابين"، لم يكن على هذا النحو بالتمام والكمال. فقد اشتهر عنه تحفظه من برنامج أوسلو في فترة توليه منصب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي ومنصبي عضو كنيست ووزير عن حزب "العمل". و"خلال نقاشات في الكنيست وحول طاولة الحكومة عرض باراك مساوئ برنامج أوسلو، وامتنع خلال التصويت على الاتفاق المرحلي".

ومن الطبيعي أن يخصص المؤلف حيّزا واسعًا لفترة ولاية باراك في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (20011999)، وهي الفترة التي كان مآلها "تفجر المواجهة العنيفة بين إسرائيل والفلسطينيين".
يحاول المؤلف أن يتجابه مع "الصورة الجديدة" لأرييل شارون، التي يحاول الإعلام الإسرائيلي تسويقها وتحديدًا منذ قبوله لرؤية الرئيس بوش المعتمدة على مبدأ "الدولتين"، وهو المعروف بأنه من أشدّ الأعداء الألدّاء لفكرة قيام دولة عربية أخرى بين النهر والبحر ونصير، بل ومبتكر مفهوم "الأردن هو الدولة الفلسطينية". بيد أنه يخضع هذا "التغيير" للفحص في ضوء حدثين هامين: الأول، ما تعرضت له الولايات المتحدة من هجمات إرهابية واسعة النطاق في الحادي عشر من أيلول 2001. والثاني، مبادرة السلام العربية التي أطلقتها قمة بيروت.

ولئن كان في الحدث الأول ما يفسّر دوافع "التغيير" لدى شارون (أقلمة نفسه للظروف الدولية الجديدة التي شرعت الإدارة الأميركية البوشية تدفع بها خطوات كبيرة إلى الأمام)، فإن الحدث الثاني قد وضع هذا "التغيير" على محك الاختبار العملي.

يكتب ميتال أن "اللقاء" بين أحداث الحادي عشر من أيلول المذكور وبين المحافظين الجدد من الجمهوريين، الذين تبوأوا المناصب المفتاحية في الإدارة الأميركية، سرعان ما أصبح نقطة تحوّل دراماتيكية في سياسة الدولة العظمى، الأقوى في العالم. وقد أمكن الشعور بإسقاطات هذا التحول، التي اتضحت بداية في أميركا الشمالية، في مناطق مختلفة من العالم وأساسًا في الشرق الأوسط. وعلى هذا الضوء تم صوغ السياسة العامة للولايات المتحدة من جديد بحيث احتلت "الحرب العالمية على الإرهاب" التي أعلنها الرئيس بوش المرتبة الأكثر تقدمًا في أولويات هذه السياسة. وبسرعة قياسية انعكست تبعات هذه الحرب على الشرق الأوسط، وأكثر فأكثر على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني المتواصل، وتمثلت أساسًا في التقاء مواقف شارون وبوش في عدائها المفرط للقيادة الفلسطينية. وبالتالي فلا معنى لفهم موافقة شارون على رؤية بوش السالفة دون قراءتها في سياق التأييد غير المحدود الذي قدمته الإدارة الأميركية ولا تزال تقدمه لإسرائيل في "حربها على الإرهاب".

ومع أنه بالذات على خلفية هذا الواقع المتوتر والشديد التعقيد نبتت "واحدة من أكثر مبادرات السلام أهمية في تاريخ النزاع الصهيوني العربي"، حسبما يصف المؤلف مبادرة القمة العربية في بيروت (أواخر آذار 2002)، فإنه مقابل هذه المبادرة انكشفت حكومة شارون بكونها مجرّدة من أية رؤية سياسية، ما يحيل إلى أن "التغيير" الذي طرأ على شارون كان تكتيكيًا وليس تغييرًا جوهريًا، لناحية اتخاذ موقف أخلاقي يحقق نوعًا من العدل النسبي. ويعيد ميتال إلى الأذهان، في معرض الإلماح إلى حدود هذا "التغيير"، أن ردود فعل مماثلة من الاستخفاف وعدم الاكتراث صدرت عن إسرائيل الرسمية حيال الملك الأردني والرئيس المصري، اللذين توجها مباشرة إلى الشعب في إسرائيل عير لقاءات مع قنوات التلفزة الإسرائيلية. وأن ردود فعل أشدّ فظاظة صدرت حيال توجهات علنية من طرف الرئيس عرفات إلى الشعب في إسرائيل وقيادته. وفي إحدى المناسبات بعث عرفات ب"رسالة مفتوحة إلى أصدقائي الإسرائيليين" (20 تموز 2001). وفي أخرى توجّه إلى الإسرائيليين والرأي العام العالمي عبر مقال ظهر في "نيويورك تايمز" (3 شباط 2002) تحت العنوان "حلم السلام الفلسطيني".
تبدو الحقائق التي سلسلناها حتى الآن مألوفة بعض الشيء.
لكن الكتاب لا يتوقف عندها فقط، على ما في ذلك من أهمية. فالمؤلف يغوص أيضًا في جملة من التغييرات التي شهدتها إسرائيل خلال الفترة قيد البحث (20031993)، فضلاً عما ورد ذكره في السطور السالفة، ويعتبرها تغييرات سلبية.
تجدر الإشارة في هذا الشأن إلى ما يلي:

1 ارتفاع منسوب مساهمة العسكر في السياسة الإسرائيلية، دون مراعاة أن الحديث يخصّ نمطًا شاذًا في أنظمة الحكم الديموقراطية. وهو يأخذ إيهود باراك كمثل لكن شيوع هذا النمط الشاذ في المشهد السياسي الإسرائيلي عمومًا يتعدى هذا الجنرال، ويحيل إلى خطورة بناء المنظومة السياسية في نظام حكم ليبرالي غربي باعتبارها منظومة عسكرية. ولا يلبث أن يؤكد أنه في واقع يكون فيه معظم أصحاب القرار أناسًا من قادة الجيش والأجهزة الأمنية وحضورهم في الإعلام مكثفًا جدًا فلا غرو إن هيمنت وجهة النظر الأمنية على السجال السياسي والعمومي في إسرائيل. وبهذه الطريقة يتم تكريس النزعة الذاهبة إلى أن احتياجات الأمن هي البؤرة التي ينبغي أن يتمحور حولها كل الاهتمام.

2 مماشاة السجال الإعلامي المهيمن مع ما ضخّته المؤسسة السياسية والأمنية من مواقف وأنباء وتحليلات، خصوصًا في ما يتعلق ب"الشريك الفلسطيني". وبلغة المؤلف فإن "البطن الرخوة" لغالبية وسائل الإعلام الإسرائيلية تمثلت في "اعتمادها المبالغ فيه والمفتقر إلى النقد على أخبار وتقييمات مصدرها المؤسسة السياسية والأمنية"، حتى "بدا أحيانًا أن صحافيين معينين ليسوا سوى رجع صدى لنغمات جرى تأليفها من قبل تلك الأطراف الرسمية أو غيرها".

3 فترة إيهود باراك، وخصوصًا في أعقاب قمة كامب ديفيد، كشفت النقاب، في نظر المؤلف، عن أزمة ما يعرف ب"اليسار الصهيوني" في إسرائيل. فهذا اليسار الذي يشخّص عن اليمين، خلافًا لليسار في دول العالم كافة، فقط بموجب موقفه من "عملية السلام" انقاد وراء الرواية التي صاغها باراك وسيطرت بكثافة على السجال الإعلامي. إن كل ما جرى الكشف عنه عقب فشل قمة كامب ديفيد لم يكن أكثر من جملة مزاعم تبسيطية تقاسمها اليسار واليمين على حد سواء، وهذان شكلا معًا الإجماع في السجال السياسي الإسرائيلي. أما المطالبة بإجراء نقاش عمومي معمّق حول الأسئلة الأساسية، يمكن عبره مواجهة سحابة الضباب الداكنة التي دأب على نشرها الناطقون الرسميون بلسان المؤسسة الحاكمة في مناسبات من الصعب حصرها، فكانت من نصيب أفراد قلائل فقط ضاعت أصواتهم هباء في الزحام. بالمقابل فقد ارتفعت في الإعلام أسهم "يسارويين" تحددت وجهتهم في الإعراب عن الندم وفي الاستفاقة من "وهم السلام مع الفلسطينيين"، ومنهم على سبيل المثال الكاتب عاموس عوز و"المؤرخ الجديد بيني موريس، الذي لم يعد "جديدًا".

بكلمات أخرى فإن المجهود المنصرف بكليته نحو إعادة بناء صورة "الشريك" أصبح بمثابة الدبق الذي يعيد لحمة "أبناء القبيلة الواحدة"!
إذا كان كتاب يورام ميتال يتيح للقارئ إطلالة على التطورات التي شهدها العقد الممتد بين 1993 و2003 فإن الباحثة الجامعية تانيا راينهارت تركّز في كتابها الموسوم ب"أكاذيب عن السلام حرب باراك وشارون ضد الفلسطينيين" (2)، بصورة تكاد تكون جوهرية، على وسائل الإعلام الإسرائيلية وأدائها المبتور وعلى أزمة اليسار الإسرائيلي الصهيوني، الذي وقف من خلف "فكرة أوسلو".

وهي تؤكد في مقابلة خاصة ظهرت في آخر الكتاب وأدلت بها لمحرره، أمير روتم، أن اعتمادها الرئيسي في تأليف فصول الكتاب كان على وسائل الإعلام الإسرائيلية في سيرورة أريد لها، كقولها، "تخليص الحقائق من ربقة المزاعم الأساسية، والفصل بين الحقائق وتلك المزاعم في سبيل تشييد تفسير متجدّد للحقائق".

في ما يتعلق ب"اليسار الإسرائيلي"، تتبنى الباحثة الفكرة القائلة إن هيمنة اليمين على المؤسسة السياسية الإسرائيلية، والتي على ما يبدو لن تجد هذه المؤسسة لنفسها فكاكًا منها حتى إشعار آخر يصعب استشرافه من الآن، راجعة إلى تبدّد "البديل اليساري" شذر مذر. ولغرض توكيد الفكرة فهي تستعيد الأجواء التي جرت فيها المنافسة في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة (كانون الثاني 2003) بين "الليكود" بزعامة أرييل شارون وبين "العمل" بزعامة عمرام ميتسناع.

"رويدًا رويدًا تكتب راينهارت أصبح ميتسناع غير مختلف كثيرًا عن شارون (بالنسبة للموقف من مستقبل المناطق الفلسطينية). وفي اللحظة التي يكون فيها الخيار الماثل أمام المترددين هو بين يمين واضح وبين نهج مماثل متبّل ببلاغة يسارية (جوفاء)، فإن ذلك يسعف في إقناع هؤلاء بأن طريق اليمين هي الطريق الوحيدة عمليًا. أما إذا كتب علينا أن نحارب الفلسطينيين وأن نسعى إلى طردهم أو حبسهم فإن في مقدرة شارون أن يفعل ذلك أفضل من ميتسناع بكثير". ينطوي كتاب راينهارت، زيادة على ما ذكر، على تعميق لجانب واحد من الجوانب الواردة في كتاب ميتال، ترى بدورها أنه جانب بالغ الدلالة. ذلك هو دور العسكر (الجنرالات) في ترسيم حدود السياسة الإسرائيلية. وهي تشير في هذا الخصوص إلى أن المنظومتين العسكرية والسياسية في إسرائيل كانتا على الدوام منضفرتين ببعضهما البعض. وطبقًا لأقوال <<مصدر أميركي في الكونغرس>> فإن الذي يقرّ في إسرائيل الاستراتيجيات وسلم الأولويات القومي، باعتبارهما موضوعًا يقف في صلب الإجماع (الوطني)، ليس هيئات تتولاها تعيينات سياسية وإنما أشخاص في البزات العسكرية. وجميع حكومات إسرائيل السابقة أولت اهتمامًا هائلاً للاقتراحات التي طرحها الجيش حيث أنه يمثل "الحكومة الدائمة"، حسب أقوال المصدر الأميركي نفسه. مع ذلك تؤكد المؤلفة فلم يكن للجيش دور مركزي في السياسة الإسرائيلية يضاهي الدور الذي يقوم به منذ فترة باراك وكما هو دوره الآن في ظل حكومة شارون.

وثمة تركيز استثنائي على باراك وعلى جوهر أدائه في فترة توليه رئاسة الحكومة. وهو تركيز أريد له أن يسند الخلاصة التي تتوصل إليها المؤلفة، والذاهبة إلى أن باراك لم يتطلع إلى تحقيق مصالحة مع الفلسطينيين في قمة كامب ديفيد، ولم يحاول تقريب النزاع من نهايته، بحق وحقيق. والتأويل الأكثر معقولية لما أقدم عليه باراك في كامب ديفيد هو أنه "بادر إلى هذه القمة بهدف إفشالها عن طريق العمد، وبذا يثبت أن الفلسطينيين هم الطرف الرافض". وهذا ما يفسّر، بكيفية ما، استمرار تباهيه بكونه "الذي كشف عن الوجه الحقيقي لعرفات". وتحيل المؤلفة قراء الكتاب إلى "سوابق باراك" في ممارسة الخديعة، وأبرزها سابقة المفاوضات مع سوريا التي حصلت قبل القمة في كامب ديفيد.

كما أنها، على صلة بذلك، تحشد سيلاً من البراهين لكي تثبت أن باراك هو الوجه الآخر لشارون وأن هذا الأمر هو تحصيل حاصل تاريخ التعاون الطويل بينهما، من جهة ومحصلة مفهومهما المشترك، من أخرى.

يقرأ الكتاب سياسة الاستيطان الإسرائيلية في مناطق 1967 في سياق النية البعيدة المدى لركل حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وتعتقد المؤلفة، في هذا الشأن، أن هناك مستويين للتعاطي مع حل مشكلة اللاجئين. الأول هو المستوى العملي والثاني المستوى الرمزي. ويتعلق الثاني ب"الناراتيف" الخاص بموضوع اللاجئين، حيث أن أي زعيم إسرائيلي يتطلع إلى المصالحة على المستوى الرمزي يتعين عليه بداية، من وجهة نظرها، الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن نشوء المشكلة. غير أن السلطة في إسرائيل لم تحظ حتى الآن بزعيم كان معنيًا حقًا بإنهاء النزاع. والأمر الأكيد أن باراك لم يكن كذلك. وفي سبيل التشديد على هذه المسألة تحديدًا فهي تعلن، منذ مقدمة الكتاب، دون تأتأة أو مواربة، أن الأرض التي أنشئت عليها دولة إسرائيل تم الحصول عليها بواسطة تطهيرها العرقي من سكانها الأصليين الفلسطينيين. وتتابع: لو أن إسرائيل توقفت عما اقترفته (من تطهير عرقي) في العام 1948 لكان الافتراض المعقول "أنني أستطيع العيش مع ذلك"، غير أن الأمر استمر وبلغ الذروة في 1967. وفي 1993 بدا أن الاحتلال من 1967 يقترب من نهايته. وآمن كثيرون بأن اتفاقات أوسلو، التي جرى التوقيع عليها في واشنطن في 13 أيلول من تلك السنة، ستؤدي إلى انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة وإقامة دولة فلسطينية. لكن الأمور لم تسر على هذا المنوال. ويتبين الآن أن القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي حولت روح أوسلو التصالحية إلى وسيلة جديدة أكثر إحكامًا لمواصلة الاحتلال. يضاف إلى ذلك أن قيادة إسرائيل العسكرية تعتبر الحرب الحالية ضد الفلسطينيين "النصف الثاني المكمل لحرب 1948". وقد استعمل المستوى العسكري الإسرائيلي هذا التوصيف فورًا بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، منذ تشرين الأول 2000. ولا شك الآن بأن قصدهم من هذه المقايسة هو أن مهمة التطهير العرقي نفذت في 1948 بنصفها الأول فقط. ولا يمكن تفسير سياسة إسرائيل المنهجية في إصابة الفلسطينيين كدفاع عن النفس أو كرد فعل تلقائي على الإرهاب. إن ذلك هو ممارسة من التطهير العرقي عملية يجري فيها طرد مجموعة إثنية من مناطق تتطلع مجموعة إثنية أخرى إلى السيطرة عليها. وفي مكان يحظى باهتمام عالمي كبير مثل إسرائيل/ فلسطين يستحيل اقتراف تطهير عرقي عبر عملية مفاجئة من الذبح المكثف وإخلاء الأراضي. ولذا تجري عملية مثابرة هدفها إجبار الناس، رويدًا رويدًا، على الموت أو الهرب لكي ينجوا بجلودهم.

وكما سلفت الإشارة توجه راينهارت نقدها الشديد إلى "اليسار الصهيوني" المتمسك بالاحتلال. وإذ تؤكد أن القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي صاحبة تجربة ومراس طويلين في تسيير وجهة معظم المعارضين للاحتلال نحو طريق الحفاظ على الوضع القائم، فإنها تلفت إلى أن هؤلاء الأشخاص هم أنفسهم الذين كرزوا في أثناء سنوات أوسلو إلى أن الاحتلال انتهى عمليًا وإن ما تبقى هو بضع سنوات من المفاوضات فقط. وهم خبراء في إقناع كل من هو مستعد للإنصات لهم بأن الملك ليس عاريًا وأن المشكلة كامنة فقط في عيوننا. وإذا لم تقف الأكثرية في إسرائيل بالمرصاد لهم فالاحتمال الأقوى هو أن ينجح هؤلاء الخبراء في مهمتهم مرة أخرى. مع ذلك فإنه للمرة الأولى منذ أوسلو نشأت حركة سلام إسرائيلية آخذة في التوسع وهي عصية على طوع القادة السياسيين لمعسكر السلام. والنواة الصلبة لهذه الحركة مؤلفة من مجموعات احتجاج محلية عديدة أصبحت فاعلة منذ بدء الانتفاضة. وتذكر منها حركات "يوجد حد" و"شجاعة الرفض" و"بروفيل جديد" و"ائتلاف النساء من أجل سلام عادل" و"تعايش" و"كتلة السلام" و"الغسيل الأسود". والمبدأ الأساسي الهادي لهذه المجموعات هو أن الكفاح من أجل السلام وضد الاحتلال هو كفاح إسرائيلي فلسطيني مشترك.
صدر، في شباط 2005، عن "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" تقرير استراتيجي يتضمن تقييمًا للمفاهيم السياسية والمنطلقات الأساسية، التي وجهت السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين خلال السنوات 2000-2004، مقايسة مع ما كان سائدًا قبل ذلك أيضًا.

يحمل التقرير عنوان "الانتقال من تسوية النزاع إلى إدارته" (3)، وهو يشكل خلاصة عمل "مجموعة تفكير" تبلورت تحت كنف المعهد المذكور ضمت باحثين وخبراء في مجالات مختلفة وعقدت عدة لقاءات، ابتداء من شهر تشرين الثاني 2003.
وقد شملت هذه المجموعة شخصيات رفيعة من مجال الاستخبارات مثل: إفرايم هليفي ورؤوبين مرحاف ويوسي بن آري (من الموساد) وافرايم لافي (من أمان شعبة الاستخبارات العسكرية) وكوبي ميخائيل (من وحدة التنسيق والارتباط)، وأكاديميين آخرين مثل: يعقوب بار سيمنطوف (رئيس الطاقم ورئيس المعهد) ودانيئيل بار طال وروت لبيدوت ودان زكاي وعزرا سدان وتمار هيرمان ويفراح زيلبرمان ويتسحاق رايتر. وأجرت المجموعة مقابلات مع رجال استخبارات ومستشرقين ومن بينهم ماتي شتاينبرغ، المستشار البارز لرئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) في الشؤون الفلسطينية.

ومع أن التقرير ينتهي عند اعتبار "خطة الانفصال" بمثابة "خيار تقصير"، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية، فإنه لا يغوص في أبعاد هذه الخطة. ويكتفي من هذه الأبعاد بما يحسبه جوهريًا (ثوريًا في قراءته) منها، ومؤداه أنه "للمرة الأولى في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بل وحتى في النزاع الإسرائيلي العربي، تتبنى إسرائيل استراتيجية إدارة (للنزاع) أحادية الجانب تستند إلى انصراف يشمل انسحابًا إقليميًا وإخلاء مستوطنات دون عملية سلام ودون أي مقابل من الطرف الثاني (الفلسطيني)".

وعطفًا على ما سبق يرى التقرير أن الانفصال، رغم ما يعنيه من "إدارة أحادية الجانب" للنزاع، جنبًا إلى جنب إقامة "جدار الفصل" المندرج في إطار معنى الإدارة ذاته، ربما يؤشران إلى عملية تغيير في مفهوم إسرائيل السياسي وفي منطلقاتها الأساسية حيال النزاع مع الفلسطينيين.

ويلفت إلى أن هذا التغيير يأتي على خلفية تغييرين بنيويين، من الماضي القريب:

الأول التغيير الذي أتاح عملية أوسلو.
والثاني التغيير الذي طرأ بعد انتخابات شباط 2001، التي جاءت بأرييل شارون إلى سدّة الحكم، والذي يتضاد مع الأول. وقد بدأت علائم التغيير الثاني الواضحة خلال فترة ولاية إيهود باراك في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (20011999).

غير أن أهمية هذا التقرير تبقى مستمدة من أحكامه بشأن اتزان أو معقولية عناصر المفهوم السياسي الإسرائيلي، وهي أحكام يمكن هيكلتها في نطاق جهود إماطة اللثام أو نزع الأقنعة عن المنطلقات الأساسية لذلك المفهوم.

ثمة الكثير من التفاصيل التي يكشف عنها التقرير بصورة مركّزة مستعينًا بالعديد من المراجع، وليس من المبالغة اعتبارها مفاصل جوهرية، إلى ناحية تسليط بؤرة الاهتمام نحو ما تتحمله إسرائيل من مسؤولية مباشرة عما آلت إليه الأوضاع السياسية والأمنية.

ومن هذه التفاصيل لا بدّ من الإشارة إلى ما يلي، على سبيل المثال:

(*) أولاً يحاول التقرير أن يجيب عن السؤال المفتوح: لماذا باءت مفاوضات كامب ديفيد حول التسوية الدائمة بالفشل الذريع؟ وفي سبيل ذلك يستعرض ما صدر عن طرفي المفاوضات من ادعاءات، لكنه يرجّح، في ما يشبه الاستحصال، بأن تكون الأزمة، التي انتهت إليها المفاوضات، وما تمخض عنها من انفجار عنيف "تعبيرًا ذا قوة عالية جدًا" عما يسميه "التصادم (الحتمي؟) بين الروايتين التاريخيتين القوميتين".

ويكتب في هذا الشأن: بنظرة ثانية يبدو الآن أن طلب إسرائيل الملحاح ب"نهائية النزاع"، ضمن الشروط التي وضعتها، تمَّ تفسيره لدى الفلسطينيين باعتباره محاولة لإخضاع الرواية التاريخية الفلسطينية أمام الرواية التاريخية الإسرائيلية.

"خنوع" كهذا، من ناحية الفلسطينيين، لم يكن خيارًا سياسيًا ممكنًا. زد على ذلك أن هذا الطلب الإسرائيلي نأى بالطرفين عن النقاش حول نتائج حرب 1967 إلى نقاش حول نتائج حرب 19491948.

ويتهم التقرير إيهود باراك بأنه سعى للوصول إلى نهاية النزاع ووضع حد للمطالب الفلسطينية مقابل تنازلات وإن بدا أنها بعيدة المدى إلا أنها تعكس فقط نتائج حرب الأيام الستة (حزيران 1967): إقامة دولة فلسطينية، التنازل عن معظم مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وقطاع غزة، بما في ذلك غور الأردن، اقتلاع مستوطنات وتقسيم القدس. لكن في كامب ديفيد، كما في استمرار المفاوضات بعد ذلك أيضًا، تعلم الطرف الإسرائيلي درسًا في معرفة الموقف الفلسطيني الحاسم بشأن عدم ممكنية تسوية النزاع بثمن حل نتائج حرب 1967 فقط.

(*) ثانيًا يعتبر التقرير ما يجوز تسميته ب"إرث باراك" واحدًا من الأعمدة الرئيسية في المفهوم السياسي إزاء النزاع الذي أدار ظهر المجن لمفهوم أوسلو، والذي تمت تبيئته في ما بعد أيضًا من قبل حكومة أرييل شارون واليمين المتطرف في طبعتها الأولى. فإن أقطاب هذه الحكومة، على ما جاء فيه، ورثوا تقييمات باراك بالنسبة لعدم نضوج الفلسطينيين لتسوية النزاع، وبالنسبة لمسؤوليتهم عن فشل العملية السياسية وعن غياب شريك فلسطيني لائق لهذه العملية.

(*) ثالثًا يستشف من التقرير، بصورة جليّة، أن عملية شطب الرئيس الراحل ياسر عرفات من معادلة الشراكة في "عملية السلام" تمت، في حقيقة الأمر، في منأى عن الأداء السياسي للرئيس الراحل، خصوصًا في خضم أحداث الانتفاضة، ما يفتح المجال على شسعه أمام الشك بأن هذه العملية كانت مدبّرة سلفًا، وأن كل ما جاء بعد ذلك كان مجيّرًا لخدمة غاياتها.

وإذ يشير إلى أنه عمليًا كانت هناك، خلال سنة 2001، عدة فرص حاول فيها عرفات أن يؤدي إلى التهدئة ونقل أوامر بوقف إطلاق النار إلى أجهزة الأمن وقيادة فتح، فهو يؤكد أن أصحاب القرار في إسرائيل ردوا بالتشكيك وعدم الثقة على إجراءاته كافة.

(*) رابعًا يوسع التقرير دائرة الضوء حول مسؤولية المستوى العسكري الإسرائيلي عن الأيلولة إلى التدهور الحاصل.
يقول مؤلفو التقرير: ثمة اعتقاد الآن، سواء في الجهاز السياسي أو في الجهاز الأمني، مفاده أنه من الجائز أن رد الفعل الزائد من جانب الجيش الإسرائيلي على تفجر الانتفاضة أسهم في تصعيد المواجهة العنيفة. والجيش، الذي استعد لإمكانية انفجار عنيف، بمشاركة فاعلة من قبل قوات الأمن الفلسطينية، أدار الحرب من خلال اعتبارات عسكرية خالصة دون تطرق كاف إلى الاعتبارات السياسية. وفي غمرة ذلك تخلى الجيش عن التشديد الكامل على تطبيق سياسة الاحتواء (التضمين) بروح توجيهات المستوى السياسي وأسهم في تصعيد النزاع العنيف. وإن غاية رد الفعل الزائد من جانب الجيش لم تكن احتواء المواجهة فقط وإنما إخضاع الفلسطينيين أيضًا. وتمثل الهدف في معاقبة الفلسطينيين على تدبير العنف وتعليمهم درسًا لا ينسى بأنه ليس في وسع العنف أن يدفع إلى الأمام أهدافهم السياسية وأن يقودهم إلى مفاوضات وهم ضعفاء ومستنزفون. وكانت النتيجة المركزية فشل سياسة الاحتواء. والتعبير البارز عن ذلك هو العدد الكبير لخسائر الفلسطينيين، الأمر الذي أسهم في تصعيد غير مرغوب للعنف بسبب رغبة المنظمات الفلسطينية في معادلة "ميزان الدماء".

غير أن الأمر الأشدّ خطورة في هذا المحور يكمن، وفقما يهجس التقرير، في صيرورة استلاب المستوى السياسي للمستوى العسكري. تجدر الإشارة يكتب معدو التقرير إلى أن المواجهة العسكرية بين إسرائيل والفلسطينيين هي بمثابة دائرة رعب، يؤثر كل طرف فيها على نشاط الطرف الثاني. فمن جهة أثرت العمليات الإرهابية على طريقة نشاط الأمن الإسرائيلي وقوته. لكن من جهة أخرى كان لهذا النشاط ذاته تأثير على النشاط الفلسطيني العنيف. هكذا، مثلاً، فإن تصفية رائد الكرمي وأبو علي مصطفى صاعدت مستوى الإرهاب لدى الفلسطينيين. مقابل ذلك فإن عملية الإرهاب الجماعية في فندق بارك في نتانيا كان لها تأثير على بداية عملية "السوار الواقي". بيد أن "عوارض دائرة الرعب" لا يتحمل المستوى العسكري الإسرائيلي وحده وزر الإتيان بها وإنما يمكن أن تعزى أيضًا، في حالات كثيرة، إلى تمحور المستوى السياسي في معالجة مشاكل الإرهاب الفورية وبالأساس العمليات الانتحارية بسبب نتائجها القاسية وتهربه من تخطيط سياسي استراتيجي بعيد المدى، يستوجب اتخاذ قرارات كثيرة.

"ونتيجة لذلك يؤكد التقرير اضطر المستوى العسكري في أحيان كثيرة إلى استكمال الفراغ التفكيري للمستوى السياسي في كل ما يتعلق بالتخطيط السياسي الاستراتيجي. وقد تفاقمت هذه الظاهرة بعد تفجر المواجهة العنيفة، وبالأساس بعد تصعيدها، عندما وصل المستوى العسكري إلى إقرار عام بأن المنظومة المصطلحية القائمة لا تنطوي على جواب لائق بشأن واقع من المواجهة المستمرة. ورأى هذا المستوى، إذًا، أن من واجبه لنفسه، قبل أي شيء، أن يطوّر منظومة مصطلحية بديلة للمنظومة المصطلحية القائمة وأكثر تحديثًا منها. وفي غياب توجيهات سياسية واضحة استأثر المستوى العسكري إلى حد كبير بوظيفة المستوى السياسي في صياغة وبلورة بيئة المواجهة، بما في ذلك مستوى العنف".

ويخلص معدو التقرير إلى القول: رغم أن دولة إسرائيل موجودة في خضم ضائقة شديدة، حيث يتضح لها أكثر فأكثر أنه ما من جواب مطلق على "التحدي الأمني" الماثل أمامها، فإن عليها الامتناع عن الوصول إلى وضع سبق أن وصفه المنظّر الاستراتيجي الإسرائيلي يهوشفاط هركابي ب"الانغلاق النفساني"، أي التمسك بمفهوم سياسي يستند إلى منطلقات أساسية لا تعكس بالضرورة التطورات السياسية والعسكرية. ومن شأن الامتناع عن عمليات الدراسة الضرورية أن يكرس الضائقة القائمة، بل وأن يزيدها تفاقمًا على تفاقم. ورغم أن عمليات الدراسة صعبة أحيانًا من الناحية العقلية والعاطفية، لأن فيها نوعًا من الاعتراف بالفشل، فمن شأن خطوة تأجيلها أن تكون حبلى بالكوارث.

(*) أخيرًا يُشكّك التقرير في مجرّد الاعتقاد بأن القبضة القوية والعقاب الجماعي وحدهما قادران على إخافة وردع شعب يكافح ضد الاحتلال. وهو يقر بأن إسرائيل لم تفلح في حسم المواجهة مع الفلسطينيين من الناحية العسكرية، إلى جهة وضع حد للعنف الفلسطيني. فضلاً عن ذلك فإنه على رغم الأثمان الباهظة التي يدفعها الفلسطينيون من ناحية الخسائر البشرية والاقتصادية فقد ظلوا يرفضون "الاستسلام". كما أن "إسرائيل لم تفلح في كيّ وعي الفلسطينيين"، بشأن "أن العنف لا يخدم أهدافهم ويعرقل تقدمها إلى الأمام"، أضف إلى كل ذلك أن هذه الوثيقة تقول إن شعور الفلسطينيين بأن "ليس لديهم ما يخسرونه" قد ازداد خلال سنوات الانتفاضة وازدادت معه الدافعية للتجنّد والانضمام إلى دائرة العنف.
يبقى السؤال: وماذا بعد؟

يقول رئيس الطاقم، في كلمات التوطئة لهذا التقرير، إن الشعور بأن هناك طريقًا مسدودًا وبفشل الجهود في إنهاء المواجهة أو التقليل من حدّتها، هو الذي أدى بباحثي "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية" إلى أن يتفحصوا من جديد طرق إدارة المواجهة من قبل إسرائيل في السنوات الأربع الأخيرة. والهدف الأبعد من وراء ذلك هو اقتراح إطار تفكيري يعرض بدائل أكثر انضباطًا لإدارة النزاع، تسهّل الانتقال من إدارته إلى تسويته. ويضيف أنه بعد الانتهاء من إعداد التقرير ساد شعور في أوساط باحثي المعهد بأن مفهوم إدارة النزاع والاستراتيجيات، التي تم انتهاجها في إدارته في السنوات الأربع الأخيرة، لا توفّر جوابًا ناجعًا لناحية معالجة المواجهة الحالية.

ومع أن هناك، حسبما أشير أعلاه، تعويلا مبطنًا على استراتيجية إدارة أحادية الجانب للنزاع تستند إلى انسحاب، فإن هذا التعويل لا يخلو من استئناف صريح على هذه الاستراتيجية، وذلك في سياق من التوكيد على كونها غير مرغوبة، إلا إذا كان في مستطاعها تشجيع الطرف الثاني (الفلسطيني) على العودة إلى صيغة مشتركة لإدارة النزاع، أي العودة إلى جهود متبادلة ومشتركة لتقليص العنف وحتى لتجديد العملية السياسية.
يندرج كتابا يورام ميتال "سلام مكسور" وتانيا راينهارت "أكاذيب عن السلام"، كما تقرير "معهد القدس للدراسات الإسرائيلية"، في عداد المنجز النقدي للسياسة الإسرائيلية حيال النزاع مع الفلسطينيين خصوصًا في ما يرتبط بمستجدات سنواته الأخيرة. وفضلاً عن تقديم هذه المنشورات مواد معرفية تنطوي على أهمية ما، فليس من المبالغة القول إنها تعيد الاعتبار ل"الحقيقة الجافة" التي تتواصل المحاولات لتغييبها وتسميمها في المناخات السياسية الإسرائيلية الرائجة.

وتبقى الإجابة مفتوحة عن السؤال حول قدرة مثل هذا المنحى على أن يوهن المعتقدات الشعبية الراسخة حول عقد من السنوات تميز أكثر شيء بالصراع على السلام الذي ظل خلال ذلك ولا يزال إلى الآن بعيد المنال.

(1) يورام ميتال: "سلام مكسور إسرائيل، الفلسطينيون والشرق الأوسط". إصدار: منشورات "كرمل" القدس، 2004.

(2) تانيا راينهارت: "أكاذيب عن السلام حرب باراك وشارون ضد الفلسطينيين". إصدار: منشورات "سفري تل أبيب" تل أبيب، 2005. الترجمة عن الانكليزية: غاليا وورغن.

(3) ظهرت ترجمته العربية في آذار 2005 ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية" التي يصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" رام الله.

التعليقات