الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (6) د.محمود محارب

=

الصهيونية: الترانسفير والأبارتهايد (6) د.محمود محارب
تهدف هذه الدراسة متابعة وتحليل مواقف قادة الحركة الصهيونية ومفكريها منذ هرتسل وحتى شارون حول ما يعرف صهيونيا "بالمشكلة الديموغرافية" وفي هذا السياق ستتابع الدراسة الحلول التي طرحها قادة ومفكرو الصهيونية لهذه "المشكلة" والتي تمثلت في اتباع سياسة الترانسفير وتنفيذه على أرض الواقع. وستلج الدراسة إلى العوامل التي قادت شارون إلى تبني فرض نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية .


من المرجّح ان تصريحات رابين، الذي أخذ يلبس جلد الأسد، منذ حرب العام 1967، بعد أن اصيب بانهيار عصبي عشية تلك الحرب، تلك التصريحات التي كان هدفها خدمة المشروع الصهيوني، من ناحية، وتعزيز مكانة حزبه في أوساط الجمهور الاسرائيلي، من ناحية أخرى، لم تقدم خدمات كثيرة الى حزبه بقدر ما اثارت البلبلة حول مواقف الحزب الحقيقية تجاه المسألة الديمغرافية. فتارة يدعو الى حل اقليمي وسط، للتخلص من الازمة الديمغرافية، وطوراً يعلن عن عزمه على نقل اللاجئين، والفلسطينيين عموماً، الى الاردن.

قادت المواقف المتناقضة هذه الناخب الاسرائيلي الى التساؤل: اذا كان حزب العمل يسعى الى نقل الفلسطينيين الى الاردن، فما الحاجة، اذاً، الى حل اقليمي وسط والتنازل عن أجزاء من "أرض- اسَرائيل" بعد طرد العرب منها؟ ماذا يريد حزب العمل حقاً؟ هل يريد التنازل عن المناطق المكتظة بالسكان، أم طرد الفلسطينيين من المناطق المكتظة، وغير المكتظة، بالسكان؟

على أرضية فشل القيادة الاسرائيلية في ايجاد حل للمعضلة التي واجهتها اسرائيل منذ احتلال الضفة والقطاع، وفي ضوء تكاثر الفلسطينيين ومواصلة الرسميين الاسرائيليين الاعلان عن سعيهم، بين الفينة والاخرى، تلميحاً أو تصريحاً، الى طرد الفلسطينيين، ظهرت في اسرائيل، في بداية السبعينات، حركة يهودية- صهيونية لم تشغل فكرها كثيراً في ابداع نظرية تعالج المعضلة، وانما استوردتها جاهزة من أواسط اوروبا. وكان جلّ ما فعلته أنها غيرت اسم الضحية من "يهودي" الى "فلسطيني".

وعلى الرغم من ان حركة كاخ، هكذا، لم تتبدع نظرية، فانها ملأت اسرائيل والدنيا صراخاً تحذّر من خطر مجرّد ميلاً – طفل فلسطيني، وخطر مجرّد وجود العرب الفلسطينيين، الذين يعيشون في وطنهم وتحت الاحتلال والحكم الاسرائيلي، على اسرائيل، تماماً كما كانت تفعل الجماعات والقوى اللاسامية ضد اليهود، وطالبت علانية، ورسمياً، بوضع "حل نهائي" لهذه المشكلة، وطرد جميع العرب الفلسطينيين من فلسطين. وتكمن المفارقة في أن كهاناً واقرانه من دعاة الطرد يتبنّون النظريات الاكثر انحطاطاً وعدواناً ضد الانسانية في التاريخ البشري.
ادّى ظهور حركة كاخ على الخارطة السياسية الاسرائيلية، وخاصة بعد حصول كهانا على مقعد في الكنيست و "كفاحه" المستمر للتخلص من الفلسطينيين، وكذلك ازدياد القوى الصهيونية المطالبة، رسمياً، بطرد الفلسطينيين، كحركات هتحياه وتسومت وموليدت وقوى لها وزنها داخل الاحزاب الدينية الصهيونية وداخل الليكود، الى زيادة المعضلة التي تواجهها اسرائيل حدة وتعميق الاستقطاب في المجتمع الاسرائيلي حول كيفية حل هذه المعضلة. على أرضية هذا الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي وحول حله الذي يقترحه للمعضلة التي تواجه اسرائيل منذ عشرين عاماً، ثمة كتابان حول ذلك، الأول وعنوانه "الدولة اليهودية والمشكلة العربية" للدكتور مردخاي نيسان، الأستاذ المحاضر في الجامعة العبرية في القدس، والثاني ألفه البروفيسور يهوشفاط هركابي، المحاضر في الجامعة العبرية في القدس، وعنوانه "قرارات مصيرية".

ونظراً الى اهمية وجهتي نظرهما في معالجة المعضلة ومحاولتهما معالجتها بصورة شاملة، ولكونهما يمثلان، في نهاية المطاف، تيّارين أساسيين في المجتمع الاسرائيلي، فأنه ينبغي التوقّف عند كيفية رؤية كل منهما الى حل المعضلة.

ينطلق نيسان من فرضية أن "أرض- اسرائيل" هي ملك الشعب اليهودي وحده. علاوة على ذلك، فان "ما انتجه وبناه الاغيار في ارض- اسرائيل، يعود كله الى شعب اسرائيل، لسبب بسيط هو ان ارض- اسرائيل تابعة لشعب اسرائيل بصورة مطلقة". وتشمل ملكية اليهود كل ما تنتجه " ارض- اسرائيل" من كل نوع وكل ما وجد فيها عبر العصور(63). وبعبارة أخرى، يقول نيسان ان كل ما يملكه العرب الفلسطينيون من اراض مسجلة في "الطابو"، وبيوت، ومؤسسات، وكل ما يأكلونه ويلبسونه ويشربونه، ليس ملكاً لهم، وانما هو ملك لليهود.
لدى تطرّقه الى مسألة طرد العرب، في الفصل الخامس من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "خط العزل؛ فكرة نقل العرب من ارض- اسرائيل الغربية"، استهّل نيسان بـ: "ان هناك اموراً تجري في اماكن معينّة يمنع حتى الحديث عنها في اماكن اخرى"، وهو يحاول ان يبحث ويثير قضايا جوهرية لعرضها على الرأي العام الاسرائيلي، بعد ان كانت مثل هذه القضايا لا تطرح علانية، على حدّ رأيه.

يعتقد نيسان بأن "المشكلة العربية" تطارد الصهيونية منذ مئة عام، وأنها تشكل تهديداً لاحتمال عيش المجموعتين العرقيتين في بلد صغير. وأضاف ان كثيرين من الاسرائيليين، اليوم وأكثر من اي وقت مضى، يسألون: "اذا كان اليهود والعرب لا يستطيعون العيش معاً، فما العمل؟". وقبل ان يقترح الحل الذي يرتأيه، أكد نيسان انه ما من حل سياسي يستطيع الغاء خطر وجود العرب في وطنهم الى جانب اليهود، وانه لا يمكن التوصّل الى اي حل سياسي، خاصة اذا كان الحديث يدور عن حل دائم، واضاف أنه كلما ازدادت صعوبة التعايش اليهودي- العربي، ازداد احتمال طرح حل واضح ومتطرف لوجود العرب في البلاد. واشار الى الحل الذي يتمنّاه، ويسعى الى تحقيقه، بقوله ان فكرة اخراج العرب من "ارض- اسرائيل الغربية" تشعّ بالأمل وتثير الاهتمام، مقابل التقصير والعجز اللذين ابدتهما حكومات اسرائيل في الفترة الاخيرة.

وذكر ثلاث "ايجابيات" اساسيّة لتهجير العرب الفلسطينيين من وطنهم: "1- انتهاء الخطر الامني الداخلي، ووضع حدّ لعذاب وقلق اليهود؛ 2- يستطيع الشعب اليهودي أن يتمتع بسيادته الوحيدة على "الوطن" دون أن يحتج احد؛ 3- انتهاء خطر الاندماج والزواج المختلط وخطر التشويش على كون اسرائيل دولة يهودية نقية(64). ثم أكد نيسان أن "ايجابيات" الطرد، على المستويات الامنية والسياسية والثقافية، تعزّز اسرائيل وتجعلها مكاناً أكثر راحة وأكثر أماناً وأكثر هدوءاً وأكثر يهودية. فطرد العرب من البلاد "مغر"، فعلاً، في بساطته، وفي غنائم نتائجه المرتقبة. فهو يبدو كخطوة ايجابية وعملية تقدم حلاً ابدياً للصراع المرّ؛ وبذلك، توفر حياة جيدة لشعب اسرائيل الذي تطلع دهراً طويلاً الى ايجاد زاوية هادئة في العالم. هل هو سر ان هذا الحل يعتمل في سرائر عدد كبير جداً من الاسرائيليين؟ ان كل مطلع على الحياة في اسرائيل، وعلى مشاكلها واحلامها، يعرف ذلك من مصدر أولي"(65).

بعد ان ساق نيسان كل الحجج والذرائع المنادية بطرد العرب، وبروح مؤيدة للطرد، دون ان يقولها بلغة قانونية، وكأنه متّهم يدخر لنفسه دفاعاً قانونياً في محكمة ما، انتقل إلى انتقاد الحركة الصهيونية، واتهمها بالتقصير، وبأنها احسنت للعرب في البلاد ومنحتهم حقوقاً على الرغم من كراهيتهم للصهيونية. ومع انه ذكّر، لاحقاً، في الكتاب، بتمسك معظم القادة الصهيونيين بحل الطرد منذ بداية القرن، فأنه اختار أن يتهم الصهيونية بأن "خط المصالحة وضبط النفس والتنازل والمبادرة الحسنة مغروس، بعمق، في روحها، منذ بداية طريقها...".

واستخلص أنه "في ضوء ذلك، أُُبعدت فكرة اخراج العرب من البلاد من اضواء العقل الواعي" الصهيوني. وفي محاولة منه انقاذ الصهيونية من "انسانيتها المفرطة" و "تقاعسها" في طرد العرب، فانه استعان بجمل جاءت في الكتب المقدسة لدى اليهود، مثل "حياتك أولاً، ومن يأتي ليقتلك، فباشر بقتله" ليبرر للحركة الصهيونية طرد العرب الفلسطينيين، دون ان يكون هناك تأنيب ضمير.

والى ان يتّم "التخلُص" من العرب الفلسطينيين، وطردهم، اقترح نيسان معاملة الفلسطينيين، الذين يعيشون على "ارض- اسرائيل"، وفق الشريعة اليهودية، وبالذات حسب تفسيره هو لهذه الشريعة. ادعى نيسان بأن نقطة انطلاق الشريعة اليهودية بخصوص تنظيم العلاقات بين اليهود وغير اليهود تتمحور في تعزيز قوة شعب اسرائيل، في "ارض- اسرائيل". فالبلاد "منحت هدية من السماء لابراهيم ونسله". لذلك، فإن "ارض- اسرائيل ملك لشعب اسرائيل فقط". أمّا "ابن الجارية، فليس تابعاً لقوم ابراهيم"(66). واضاف ان غير اليهود يستثنون من النشاط السياسي- الاجتماعي. فالشعب اليهودي فقط هو الذي يقرّر النظم والأسس للحياة القومية في "ارض- اسرائيل".

وأكد نيسان ان الشريعة اليهودية لا تمنح حقوقاًَ متساوية لغير اليهود. وحاول ان يعزّز ذلك باستناده الى سوابق تاريخية. حين طبقت الشريعة اليهودية في مملكة اسرائيل في العصور القديمة على سكان غير يهود. ففي فترة الملك سليمان، فرضت ضريبة خاصة، بل فرضت العبودية على غير اليهود من الشعوب السبعة التي بقيت وعاشت داخل مملكة سليمان. ثم نحى باللائمة على الحركة الصهيونية، وخاصّة التّيار الديني فيها، لعدم تهيؤها لمعاملة الاغيار وفق الشريعة اليهودية، قولاً وفعلاً، ولعدم استفادتها من السابقة التاريخية.



علاوة على تبوِّئة قمّة الباحثين الاسرائيليين المختصين بالصراع العربي- الاسرائيلي والقضية الفلسطينية، شغل يهوشوفاط هركابي مناصب رسمية عالية عدة في اسرائيل. ففي العام 1949، كان عضواً في الوفد الاسرائيلي في مفاوضات رودس بين اسرائيل والملك عبد الله. وفي الخمسينيات شغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية. وفي اواسط السبعينيات عيّن مستشاراً لرئيس الحكومة الاسرائيلية.

ركّز هركابي، في كتبه العديدة وابحاثه الكثيرة التي نشرها حتى منتصف السبعينات، على رفض الدول العربية التوصّل الى سلام مع اسرائيل، علماً بأن الحقيقة كانت مغيرة لذلك تماماً. فدول الطوق العربية، وبالتحديد مصر والاردن وسوريا ولبنان، لم تكن فقط على استعداد لتوقيع اتفاق هدنة بينها وبين اسرائيل، وانما طالبت، كل على حدة، في السنتين الاخيرتين من الاربعينات، بعقد اتفاقية سلام مع اسرائيل؛ إلاّ ان اسرائيل؛ بقيادة بن- غوريون، رفضت ذلك.

ومن المرجّح ان هركابي كان على اطلاع على محاولات الحكومات العربية التوصّل الى سلام مع اسرائيل، بحكم قربه من صانعي القرار الاسرائيلي، ولكونه باحثاً لامعاً مختصاً بالصراع العربي- الاسرائيلي. غير انه اختار، طوال اكثر من ربع قرن، قلب الحقيقة وجيّر ابحاثه لصالح الدعاية الاسرائيلية التي جعلت من اسرائيل حملاً وديعاً يطالب بالسلام محاصراً بذئاب شرسة ترفض السلام وتوشك ان تنقّض عليه وتقطعه ارباً. وقد راجت ابحاثه في اوساط كثيرة، خاصة بين غلاة المتطرفين الاسرائيليين الذين لا يزالون يعتمدون علهيا في رفضهم التوصّل الى سلام مع العرب.

وفي النصف الثاني من السبعينيات، أخذت مواقف هركابي ودراساته تتحوّل، وتتغير. وقد توّج هذا التغّير في كتاب "قرارات مصيرية" الذي نشر العام 1986.

وفي السطور التالية، سنوجز آراء هركابي من المسألة الديمغرافية، كما وردت في كتابه "قرارات مصيرية"، محاولين الحفاظ على روح النص.

أكد هركابي ان المشكلة الرئيسة التي يدور حولها النقاش "القومي" في اسرائيل هي السياسة التي يتوجّب على اسرائيل اتباعها تجاه المناطق المحتلة. وقد تمخّض عن هذا النقاش توجّهان أساسيان: الضمّ او الانسحاب. الخيار بينهما ليس بين الجيد والسيئ وانما بين السيئ والاسوأ.

(63) مردخاي نيسان، الدولة اليهودية والعربية"، (عبري)، تل- ابيب: هدار، 1986، ص 360.
(64) المصدر نفسه، ص 108.
(65) المصدر نفسه.
(66) المصدر نفسه، ص 109.
.

يتبع





التعليقات