الصهيونية؛ الترانسفير والأبرتهايد (5)/ د.محمود محارب

-

الصهيونية؛ الترانسفير والأبرتهايد (5)/ د.محمود محارب
تهدف هذه الدراسة متابعة وتحليل مواقف قادة الحركة الصهيونية ومفكريها منذ هرتسل وحتى شارون حول ما يعرف صهيونيا "بالمشكلة الديموغرافية" وفي هذا السياق ستتابع الدراسة الحلول التي طرحها قادة ومفكرو الصهيونية لهذه "المشكلة" والتي تمثلت في اتباع سياسة الترانسفير وتنفيذه على أرض الواقع. وستلج الدراسة إلى العوامل التي قادت شارون إلى تبني فرض نظام فصل عنصري في الأراضي الفلسطينية .وفي محاولته التغلّب على "المشكلة الديموغرافية" وحلّ المعضلة التي تواجهه والمتمثلة في نزعة التوسّع والضمّ وفرض السيادة اليهودية، من ناحية، والخشية من الكثافة السكانية الفلسطينية من ناحية اخرى، تبنّى الليكود برنامج الحكم الاداري الذاتي، الذي اقترحه زعيمه مناحيم بيغن، تلميذ جابوتينسكي، العام 1977، والذي يمنح الفلسطينيين في المناطق المحتلة حكماً ادارياً ذاتياً للسكان فقط، مع الاحتفاظ بالسيادة اليهودية على الارض. وضمن رؤيته هذه، قام الليكود وحلفاؤه من الاحزاب الصغيرة، منذ استلامهم السلطة العام 1977، بانشاء المستوطنات اليهودية في المناطق الفلسطينية المكتظة بالفلسطينيين بالذات، في محاولة لخلق وقائع جديدة على الارض تغيّر، تدريجياً، من ناحية، الميزان الديموغرافي في تلك المنطق المكتظة بالفلسطينيين لصالح اليهود تمهيداً لضمّها، وتسعى، من ناحية أخرى، الى عرقلة برنامج حزب العمل الذي يبدي استعداده للتنازل عن تلك المناطق المكتظة لصالح ملك الاردن، اذا ما تسلّم العمل دفّة الحكم، مرة أخرى.وفي الوقت الذي دار صراع بين الاحزاب الاسرائيلية الصهيونية حول افضل السبل لحل المعضلة التي تواجهها اسرائيل خلال اكثر من 20 عاماً، احتدم صراع متوازٍ بين المفكرين والكتاب والخبراء الاسرائيليين حول الموضوع ذاته. وخلال عقود من الاحتلال والمعضلة التي نشأت بسببه، كتبت المئات من المقالات والدراسات والكتب الاسرائيلية التي عالجت هذه المعضلة من جميع جوانبها وأثرت الفكر الصهيوني باتجاهات واقتراحات خطيرة للغاية، تذكّر بالحلول النهائية التي أقترحها ونفذها النازيون بحق اليهود انفسهم أبّان تفشّي اللاسامية في اوروبا. وتماماً كما كان مجرد وجود اليهود ومعيشتهم في المجتمعات الاوروبية يعتبر مشكلة المشاكل بالنسبة الى الجماعات والقوى اللاسامية في اوروبا، فان مجرد وجود الانسان العربي الفلسطيني في وطنه، مهما كانت اتجاهاته السياسية والاجتماعية، ومهما كانت مهنته، وسواء أكان طفلاً أو عجوزاً، رجلاً أو امرأة، هادئاً أو مقاوماً، فقيراً أو غنياً، يعتبر مشكلة خطيرة للمفكرين والمختصين الاسرائيليين ويعتقدون بأنها تهدد اسرائيل، ويدعون الى التخلص منها.

ويختلف هؤلاء على كيفية التخلص من هذه "المشكلة". ويمكن تقسيمه الى فئتين اساسيتين: الاولى تدعو الى الانسحاب، او "الهرب"، من أجزاء واسعة من المناطق الفلسطينية المحتلة العام 1967، أو من معظمها، والثانية تدعو الى الاحتفاظ بهذه المناطق المحتلة وتهجير الفلسطينيين، أو معظمهم، الى الخارج.

ونظراً الى الضعف العربي الذي بات يضع اي مفكر اسرائيلي جدي يحذّر من امكانية قيام قوة عربية او "جدار حديدي" عربي موازلـ "الجدار الحديدي" الاسرائيلي وقد يتفوق عليه في المستقبل لما تحمله الشعوب العربية من طاقات وامكانيات مختزنة، موضع الاستخفاف، فان الفكر الصهيوني الداعي الى طرد الفلسطينيين، او معظمهم، أخذ ينتعش ويتفشّى في اوساط اسرائيلية واسعة، ليمهّد الطريق لضمّ هذه المناطق المحتلة الى اسرائيل. وممّا لا شك فيه انه لو توفّر "جدار حديدي" عربي، لحوّل هذا النقاش الدائر في اسرائيل حول مسألة الطرد ليس الى ترف فكري محض فحسب، بل لما ظهرت المطالبة بالطرد أصلاً. ولكن لمّا كان الوضع على عكس ذلك تماما، فإن التيار الصهيوني الداعي الى الضمّ أصبح يعتبر الوجود الفلسطيني في الاراضي المحتلة العائق شبه الوحيد امام ضمّ هذه المناطق, واقامة "ملكوت إسرائيل" في "أرض- اسرائيل الغربية"، وبالتالي أخذ يضغط، بقوة، باتجاه الطرد، ويكسب موقعاً بعد آخر في المجتمع الاسرائيلي وأحزابه. فعقب حرب حزيران (يونيو) مباشرة، نشط غلاة المتطرفين وقادة العديد من الأحزاب الصهيونية ومن المفكرين واصحاب الاختصاص الصهونيين في مجابهة المعضلة مباشرة وقدّموا حلولاً تبدو بسيطة، تدعو الى عدم الانسحاب من أي شبر من الاراضي الفلسطينية المحتلة والعمل على التخلص من الفلسطينيين وطردهم الى الخارج. وقد نشروا افكارهم وبرامجهم في الصحف والمجلات الاسرائيلية الصادرة باللغة العبرية، التي تجاوبت، بدورها، مع الهوس وروح الغطرسة التي اصابت اسرائيل بعد حرب حزيران (يونيو).

ولا مجال، هنا، لمتابعة جميع الآراء التي طرحت حول المعضلة وطالبت بضمّ المناطق المحتلة، وانما سيتم الاكتفاء ببضعة نماذج عالجت الموضوع، وثابرت، أكثر من غيرها، على متابعته. وقد برز من أصحاب هذه الآراء موشي شامير(39) ويوفال نئمان(40) وتسفي شيلواح(41) واليعيزر ليفنه(42) ونتان الترمان(43) والحاخام تسفي يهودا كوك(44) والياهو عميكام(45) ويهودا دون(46) واهرون امير(47) واسحق طبنكين(48) وعزريا الون(49) وراحيل سبورائي(50) وموشي طبنكين(51) وزئيف فون فايزل(52) ومئير بارايلي(53) ويسرائيل الداد(54) وافرايم بن حاييم(55) وأهرون بن عامي(56) وأبراهام هلر(57) وغيرهم.

طالب تسفي شيلواح، الذي يوصف عادة بأنه "خبير" في الشؤون العربية، ربما لكونه شغل منصب الحاكم العسكري في الجليل بعيد اقامة اسرائيل، عبر العشرات من المقالات و "الدراسات" بضمّ المناطق الفلسطينية المحتلة وطرد الفلسطينيين منها. ففي مقالة كتبها بعد مرور شهر على احتلال الضفة والقطاع، حذّر شيلواح من أنه يوجد في "المناطق المحرّرة" مئات الالوف من العرب، وأن "احتواء هؤلاء السكان داخل حدود اسرائيل يعتبر قنبلة زمنية في قلب الدولة"؛ اذ أن إبقاءهم في هذه المناطق يعرّض اسرائيل للمخاطر ويشكل خطراً على طابعها "القومي اليهودي". واستخلص أن "الحل الوحيد هو تنظيم هجرتهم وتوطينهم في البلدان العربية كثيرة المياه والأرض، مثل سوريا والعراق"(58).

عشّشت فكرة طرد الفلسطينيين، وخاصة اللاجئين منهم، واستوطنت في مخيّلة عالم الذرة الاسرائيلي يوفال نئمان، الذي أصبح، فيما بعد، أحد أبرز قادة حركة "هتحياه"، حيث ما أنفك يبشر بها ويطالب بتحقيقها منذ عدة عقود.
مع اشتداد الحوار والنقاش حول أفضل السبل لحل "المعضلة"، بين التيار المطالب بحل اقليمي وسط والانسحاب من المناطق المكتظة بالسكان، وبين التيار المطالب بضمّ المناطق الفلسطينية المحتلة، أخذ المفكرون من المنتمين الى التيار الاخير يجرون الدراسات حول المشكلة الديموغرافية ومدى خطورتها، ويقدمون حلولاً تنسجم مع المصالح الصهيونية التوسّعية. وفي هذا الاطار، نشر أبراهام هلر، في العام 1970، فصلاً من كتابه "لمن الحقوق في هذه البلاد" تحت عنوان "الشيطان الديموغرافي" في مجلة "هؤماه" (الامة) التي أصبحت، بعد العام 1967، منبراً لدعاة الضمّ والطرد، حاول فيه التخفيف من حجم "الخطر الديموغرافي". استهل هلر دراسته بالرد على من وصفهم باصحاب الشعار الواهم "أرض مقابل سلام", الذين يستندون الى الخطر الديموغرافي لتسويق أفكارهم، وسأل: "هل كان وضعنا الديموغرافي في البلاد، في بداية عهد الانتداب، أفضل، عندما كان عددنا بين 60 الى 80 ألفاً، ونشكل أقل من عشرة بالمئة من مجموع سكان البلاد؟ علماً بأن الهجرة اليهودية كانت، في تلك الفترة، مرتبطة ومحدّدة بنوايا الادارة البريطانية".

وأضاف قائلاً: "لو أجرت قيادة الييشوف والحركة الصهيونية حسابات ديموغرافية العام 1947، فهل كان من المعقول الموافقة على قرار التقسيم واقامة الدولة اليهودية في الوقت الذي كان عدد العرب في تلك المنطقة المخصصة للدولة اليهودية أكثر من 40 بالمئة؟ ولو وافقوا، في تلك الفترة، على توسيع حدودنا بمناطق يقطنها العرب، أَلَم نكن نقبل ذلك بحماس؟". ثم أضاف: "لقد اتخذ الشعب وقيادته في تلك الفترة قرار تأسيس الدولة بحماس عظيم، لانهم أمنوا بالفكر الصهيوني وبإرادة الانقاذ التي تمثلت بالهجرة وبجمع الشتات، وأيمانهم لم يخيّب"(59).

وفي الوقت الذي تجاهل هلر قيام القيادة الصهيونية- التي امتدحها كثيراً- بطرد الفلسطينيين عشية، وبعد، قيام اسرائيل، للتخلّص من خطر تحوّلها الى دولة ثنائية القومية، فانه حرص على أظهار دور الهجرة اليهودية الى اسرائيل بُعيّد قيامها، والتي بلغت مئات الآلاف من المهاجرين، في مواجهة الخطر الديموغرافي، واستخلص من ذلك أن بامكان الهجرة اليهودية، وخاصة من الاتحاد السوفياتي التي توقع زيادتها، أن تلعب دوراً جوهرياً في حل المشكلة الديموغرافية التي تواجهها اسرائيل جرّاء احتلالها الضفة والقطاع، لصالح اليهود(60). ثم انطلق الى معالجة الفجوة ما بين التكاثر الطبيعي بين العرب واليهود ووصفها بأنها "حقيقة مقلقة". فالتكاثر الطبيعي لدى العرب في البلاد يبلغ ثلاثة أضعافه عند اليهود الاسرائيليين. وعلّق هلر على ذلك قائلاً، ان هذا الامر ليس "قانوناً ثابتاً"، وتوقّع أن يتناقص تكاثر العرب الطبيعي نتيجة العوامل الاقتصادية والاجتماعية؛ ثم اشار الى ان الهجرة العربية من الضفة والقطاع تحدّ من تكاثر العرب، وبالتالي تحسّن الميزان الديموغرافي لصالح اليهود؛ وراهن على أن النمط من الهجرة العربية الى الخارج سيستمر في المستقبل أيضاً(61).

في الوقت الذي ثابر دعاة الضمّ والطرد على التبشير لافكارهم وبثّها في الجمهور الاسرائيلي دون لبس أو غموض، مستندين، في دعواهم، الى القوة الاسرائيلية، أصاب الارتباك والتخبّط والتطرف قادة حزب العمل؛ ذلك أن نزعة التوسّع وشهيّة الضم والسعي الى التخلص من الفلسطينيين جذبتهم، في كثير من الاحيان، بعيداً حتى من برنامجهم السياسي الرسمي المعلّن، والذي يطالب بحل اقليمي وسط. ففي بداية العام 1973، أعلن أسحق رابين أن "مشكلة اللاجئين في قطاع غزة ينبغي ألأّ تحلّ في قطاع غزة، أو في العريش، بل في الضفة الشرقية". وأضاف أنه يسعى الى التخلص من اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الفلسطينية ويعمل على نقل السكان العرب، ليس باستخدام القوّة، وإنما بتوفير شروط تكفل تحركاً سكانياً طبيعياً الى الضفة الشرقية خلال العشرة الى العشرين سنة المقبلة"(62).

(38) هيوم، 6/12/1968.
(39) موشي شامير، "لا طريق للرجوع"، معاريف، 30/6/1967؛ كذلك "من الفلسطينية الى الجبل"، معاريف 14/7/1967
(40) يوفال نئمان، "كيف يمكننا الحفاظ على منجزات حرب الشجاعة"، معاريف، 18/6/1967.
(41) تسفي شيلواح، "المهم ما يفعله اليهود"، دافار، 2/7/1967؛ وأيضاً مقالته "حدود بدون توسّع والمدافعون عنها". دافار، 7/8/1967.
(42) اليعيزر لفنه، "دولة جديدة وآفاق جديدة"، معاريف، 22/6/1967؛ ومقالته "مشكلة اللاجئين العرب هي مشكلتنا"، هآرتس. 28/8/1967.
(43) نتان الترمان، "سلام كهدف وليس كبديل"، معاريف، 30/6/1967؛ ومقالته "الضفة الغربية بلاد تخفي أسمها". معاريف. 23/6/1967.
(44) الحاخام تسفي يهودا كوك، "تسعة عشر مزماراً لدولة اسرائيل". هتسوفيه، 23/6/1967.
(45) الياهو عميكام، "منطق نواقيس المخلّص"، يديعوت أحرنوت، 22/6/1967.
(46) يهودا دون، "بالامكان عدم الانسحاب من المناطق". هآرتس، 28/6/1967.
(47) اهرون امير، "اهمية الجدية"، يديعوت احرنوت. 7/7/1967؛ كذلك مقالته "الكل"، معاريف، 16/6/1967؛ وكذلك "كيف التحرّر من عقدة التقسيم"، يديعوت احرونوت. 4/8/1967.
(48) اسحق طبنكين، "فقط الاستيطان في كل المناطق يأتي بالسلام"، لمرحاف، 14/7/1967.

(49) عزريا الون، "حدود دائمة"، لمرحاف، 14/7/1967؛ كذلك مقالته "الحدود غير المقدسة"، لمرحاف، 7/7/1967.
(50) راحيل سبورائي، "الارض الكاملة". على همشمار. 23/6/1967.
(51) موشي طبنكين، "لا لاعادة مناطق، وانما الاستيطان بها"، دافار. 21/7/1967؛ كذلك "جراة قيد التحقيق"، دافار، 4/8/1967.
(52) زئيف فون فايزل، "شهران بعد الانتصاره، هيوم، 4/8/1967.
(53) مئير بار- ايلي، "تهويد ارض- اسرائيل"، دافار، 4/8/1967.
(54) يسرائيل الداد، "منطق الانتصار"، هحزيت، عدد آب (اغسطس) 1967.
(55) افرايم بن حاييم، "تغيير واحتمال"، لمرحاف، 11/8/1967.
(56) أهرون بن عامي، "حدود البيت الثالث"، مباط حداش، 15/6/1967؛ كذلك مقالته "العدوى الفلسطينية"، المصدر نفسه، 8/8/1967.
(57) ابراهام هلر، "الشبح الديموغرافي- هؤماه، العدد 29، كانون الثاني (يناير) 1970.
(58) شيلواح، مصدر سبق ذكره.
(59) هلر، مصدر سبق ذكره.
(60) المصدر نفسه.
(61) المصدر نفسه.
(62) معاريف، 16/2/1972.



يتبع

التعليقات