حول التداعيات السياسية للحرب على لبنان (3- 5)/ أنطوان شلحت

حول التداعيات السياسية للحرب على لبنان (3- 5)/ أنطوان شلحت
لا يضنّ المعلقون السياسيون أيضًا بالنقد حيال رئيس الحكومة إيهود أولمرت وحيال أدائه خلال الحرب وبعدها.

في رأي عوزي بنزيمان (صحيفة "هآرتس"، 30 آب 2006) فإن أولمرت لا يقصد ما يقول عندما يعلن أنه المسؤول الأعلى عن قرار شنّ الحرب وعن نتائجها. فلا معنى لأقواله إذا لم ترافق بنتيجة عملية. ومن ناحية الجمهور فإن من جلب على البلاد خرائب تموز- آب ينبغي أن يدفع الثمن (إخلاء الكرسي).

أما المعلق السياسي والاقتصادي نحاميا شترسلر فإنه يشير (صحيفة "هآرتس"، 29 آب 2006) إلى أنه لو خصّص ايهود أولمرت، في ذلك اليوم المرّ والمتسرع في 12 تموز، يومين أو ثلاثة أيام لتفحص خطط الجيش وإسقاطاتها ولتحليل التطورات المحتملة- كما فعل قبيل إعلان قراره بشأن لجنة التحقيق- لربما ما كان بحاجة الآن إلى لجنة تحقيق.
ويضيف: أولمرت اليوم مختلف جدًّا عمّا كان في 11 تموز. آنذاك كانت لديه أجندة سياسية شملت عملية انطواء (تجميع) شجاعة في الضفة الغربية. أما الآن فلديه فقط أجندة شخصية هي... البقاء. آنذاك كانت لديه أجندة اقتصادية مسؤولة بالحفاظ على عجز منخفض. أما الآن فهو يقول في اجتماعات مغلقة بأنه لا بدّ من اختراق إطار الميزانية العامة وزيادة العجز بأكثر من 3 بالمائة. والجيش، الذي يشعر بضعف رئيس الحكومة، يحاول أن يلقي بكل المسؤولية من جراء الفشل العسكري على عاتق الميزانية... وبدل أن يواجه أولمرت ابتزاز الجيش فإنه ينوي الخنوع له، حتى لا يفتح (قائده) دان حالوتس جبهة إضافية ضده.

من ناحيته يؤكد ناحوم برنياع، المعلق السياسي الرئيسي في صحيفة "يديعوت أحرونوت" (29 آب 2006) أن اللجنة التي عينها أولمرت تسمى لدى المشرّع: لجنة استيضاح. فلا يفترض فيها أن تحقق ولا أن تفحص ولا أن تطيح بأحد. وقد بحث مقربو أولمرت عن قاض متقاعد يوافق على رئاسة اللجنة، لكن كل من توجهوا إليه رفض ذلك. كما رفض أمنون روبنشطاين أن يترأس اللجنة.
مع ذلك فهذه اللجنة أفضل من لجنة تحقيق رسمية، برأي بارنياع. وعندما يحذر أولمرت من أن لجنة تحقيق كهذه يمكن أن تشلّ الجهاز العسكري والمدني لفترة طويلة فإنه على حقّ. النقد يجب أن يوجه إلى أولمرت ليس بسبب تهرّبه من تعيين لجنة تحقيق رسمية، وإنما بسبب تهرّبه من اتخاذ قرارات سياسية كان يتعين عليه اتخاذها في أعقاب دروس الحرب. لقد أخطأ أولمرت عندما عيّن وزراء بحسب راحته السياسية المؤقتة. عمير بيرتس لم يكن الوزير الصحيح للدفاع وأبراهام هيرشزون لم يكن الوزير الصحيح للمالية. وثمة وفرة من الوزراء في الحكومة لكن لا يوجد وزير للرفاه الاجتماعي. فلا عجب أن فشلت الحكومة فشلاً ذريعًا في الاعتناء بالجبهة الداخلية. وإذا لم يكن أولمرت قادرًا على إنعاش حكومته فكيف سيستطيع إصلاح القصورات التي تكشفت في الحرب؟. إنه يحسن صنعًا بكونه يطير كل يوم (بعد انتهاء الحرب) إلى الشمال، لكن مشكلة زعامته تبدأ في القدس.

أما رافي جينات، رئيس تحرير صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فيرى (18 آب 2006) أن تعيين عمير بيرتس وزيرًا للدفاع نمّ عن صفقة. وهذه الصفقة تحولت إلى ورطة.
ويضيف: بيرتس وإيهود أولمرت شريكان كاملان ويتحملان المسؤولية عن هذه الصفقة مثل توأمين سياميين. أولمرت لأنه اخترعها وبيرتس لأنه خلدها. أولمرت متهم لأنه سلّم الإشراف على الجيش إلى جهة غير مجربة، غير مهنية وغير لائقة. وبيرتس متهم لأنه قال نعم بسبب دوافع شخصية، سياسية تتعلق بسيرته الحزبية. لقد وافق رغم علمه بأن هذا المنصب ليس له، وأنه الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، وأن هناك مجالات أخرى يتميز فيها ويمكن أن يسهم فيها كثيرًا. كلاهما أخطأ في انعدام المسؤولية القومية وكلاهما مذنب بالقدر نفسه. صحيح أن أولمرت وبيرتس يبدوان (منذ انتهاء الحرب) منضفرين ببعضهما البعض ويكيلان المديح الواحد للآخر ويثمنان التعاون المدهش فيما بينهما ويعرضان انسجامًا تامًا... لكن في الغرف المغلقة يصب أحدهما جام غضبه ونقمته على الآخر. لكن لا خيار أمامهما سوى إظهار ودهما لأن كلا منهما يمكن أن يسقط الثاني، وتبادل الاتهامات فيما بينهما يمكن أن يطيح بكليهما معًا.

غير أنّ المعلق السياسي يوئيل ماركوس يعتقد (صحيفة "هآرتس"، 25/8/2006) أن الانتقاد الشعبي يسيء إلى حد ما للذين قادوا هذه الحرب، أولمرت وبيرتس وحالوتس. فهؤلاء، برأيه، أخيار ولامعون. لكن ما حصل معهم هو نوبة من التدهور، التي ما كانت ستحصل مع سابقيهم في الوظائف المماثلة. فإسحق رابين كان جزعًا بطبعه. وعندما كانوا يقترحون عليه عملية عسكرية كان وجهه يتكدّر وكان بالإمكان التخمين فورًا ماذا يمرّ في رأسه. وإسحق شامير كان من المستحيل جرّه إلى أية مغامرة عسكرية. فهو لم يسمح لوزير الدفاع، موشيه آرنس ورئيس هيئة الأركان العامة، إيهود باراك، بقصف العراق عندما سقطت هنا صواريخ السكود إبان حرب الخليج الأولى.
ويتابع ماركوس: الثلاثية الأمنية الحاكمة خافت في حالة عدم ردها على اختطاف الجنديين أن تفقد إسرائيل الشرعية الدولية. شرعية ماذا؟ أن نخسر في الحرب ونخيّب أمل بوش ودول عربية بنت على قدرتنا بأن نكبح جماح الإرهاب الإسلامي الأصولي الذي هددها أيضًا؟ لكن اتخاذ القرار كان متسرعًا جدًا. ورغم الغضب الجماهيري ورغم المطالبة بتطيير "الثلاثة الكبار" يجوز أن يكون سقوط الحكومة أو تعيين لجنة تحقيق رسمية خطأ كبيرا. فليس لدينا لاعبو احتياط أفضل في هذا الوقت. وليس لدينا وقت للجنة يمكن أن تبدأ تحقيقها منذ أيار 2000 وتنهيه بعد سنة، في حين أن التحديات التي تواجهنا كبيرة جدًا. من الأفضل أن ندع الحكومة تتعلم من أخطائها وان تصحح نفسها بسرعة في كل المجالات. بقطع الأعناق لن نبني أنفسنا من جديد.

وعلى نفس النسق يعتقد المعلق الصحافي إيتان هابر، مدير مكتب رئيس الحكومة الأسبق إسحق رابين (صحيفة "يديعوت أحرونوت"، 16 آب 2006)، أن الأزمة الكبيرة التي تجد إسرائيل نفسها في مواجهتها الآن هي أزمة القيادة. فلقد نفد القادة في إسرائيل. وإذا ما تبدّل المبتدئون أولمرت وبيرتس وتسيبي ليفني، فبمن سيتم استبدالهم؟. ذات مرة كان هناك على الرفّ منتخب من الشخصيات الجيدة أو الأقل جودة التي لم يعترض أحد على قيادتها، غولدا (مئير) وبنحاس سابير، موشيه ديان ويغئال ألون، مناحيم بيغن واسحق شامير. أما اليوم فليس ثمة ولو شخص واحد من الأشخاص السياسيين أو من الجيش والأكاديمية ممن يحلم به مواطنو إسرائيل ويشتاقون لزعامته.

بدوره يتساءل البروفيسور أفنيري: هل يمكن أن تكون هناك سياسة أخرى في إسرائيل؟ واضح أن الطريق التي يصل عبرها ساسة إلى القمة تدفع إلى أمام نوعًا معينًا من الناس. لكن ثمة طريقًا أخرى وثمة مرشحين آخرين أيضًا. وينبغي بنا أن نرى أنه حتى في الحزبين الرئيسين اللذين يشكلان الائتلاف الحكومي الحالي يوجد أشخاص يدمجون التجربة مع الاستقامة. لكن هؤلاء الأشخاص دفعوا إلى الهامش. وهذا هو أوان دفعهم نحو المركز.
ويكتفي الكاتب بذكر نموذجين: على هامش قائمة "كديما" ثمة شخصية توقع كثيرون أن يسند لها أولمرت حقيبة وزير أو سفير في الولايات المتحدة. وأقصد دان مريدور، صاحب التجربة الغنية في السياسة ومواضيع الخارجية والأمن. ومن الجهة الثانية فإن حزب "العمل" لم يجد الطريق الصحيحة لدمج (الجنرال في الاحتياط) عوزي ديان في صفوفه. وهو أيضًا شخصية ذو تجربة أمنية غنية. الأزمة التي نمر بها الآن هي فرصة ليس فقط لتغييرات شخصية، وإنما أيضًا لإدخال أشخاص من صنف آخر في السياسة الإسرائيلية. وكما قلت ثمة الكثير الكثير عدا الذين ذكرت.علاوة على ما تقدّم فإن وزير الدفاع، عمير بيرتس، لا يواجه فقط حملة شعواء على أدائه كوزير للدفاع يفتقر إلى أية تجربة عسكرية أو أمنية حاول التغطية عليها بالتماهي مع نزعة قيادة الجيش بأن ما ليس في الإمكان تحقيقه بالقوة يمكن بلوغه بمزيد من القوة، وإنما على أدائه أيضًا كرئيس لحزب "العمل"، الذي خاض الانتخابات الأخيرة على أساس أجندة اقتصادية- اجتماعية لم يتبق منها سوى الشعارات. وبالتالي فقد تركزت هذه الحملة أيضًا في استكناه أداء "اليسار الإسرائيلي" ودلالاته.

ويلفت المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس"، عكيفا إلدار (17 آب 2006)، إلى أن محاولة بيرتس "تجاوز الضربة القاضية التي سددت له في الحرب بواسطة إحياء العملية السياسية" مع الفلسطينيين (وأيضًا مع سوريا ولبنان) هي محاولة تعترضها عقبات كثيرة ليس أبسطها ما خلفته آلة الجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، وتحديدًا في قطاع غزة، من قتل ودمار في "أثناء انهماكه والحكومة كافة في مجريات الحرب على لبنان".

وفي مقال تحت عنوان "انهيار الأيديولوجيات" يؤكد البروفيسور باروخ كيمرلينغ، أستاذ علم الاجتماع، أن الزلزال السياسي الذي مرّت به إسرائيل في أعقاب حرب العام 1973 سيكون لا شيء بالمقارنة مع الزلزال السياسي الذي سيحصل في أعقاب حرب 2006. ومن الممكن الافتراض أن مصطلحات "يمين" و"يسار" و"مركز" (وسط) ستفقد دلالاتها الحالية، والتي ثبت من الناحية الأيديولوجية أنها لم تعد ذات صلة بالإضافة إلى غياب الفوارق بينها حتى قبل أن تبدأ الحرب. كما من الممكن الافتراض بأن تنهار غالبية الأحزاب الحالية. ولا يمكن التنبؤ سلفاً كيف سيبدو الجهاز السياسي والحزبي بعد هذه الحرب، لكن يمكن الافتراض بأن الجمهور سيمنح الأفضلية لهيئات قادرة على الإقناع بقدرتها ونيتها في إعادة بناء الدولة من الدمار المادي والمعنوي (موقع "واينت" الإلكتروني، 13 تموز 2006).

ويتابع: تمت إعادة بناء ألمانيا (الغربية) واليابان من ناحية مادية وأخلاقية بسرعة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، بمساعدة الولايات المتحدة، إلا أن ذلك تطلب شرطاً مسبقاً ملزماً، هو التخلي عن العسكرة. وفي هذا السياق فإن إسرائيل بحاجة إلى حل فوري للصراع بينها وبين الفلسطينيين والسوريين، بحيث يمكن لجميع الأطراف العيش معه. وإن الحرب مع حماس والفلسطينيين تكمل الحرب مع حزب الله وتساهم في الدمار المادي والثقافي والأخلاقي للدولة، وحتى هذه الجبهة لا يمكن الانتصار فيها عن طريق القوة.

يرى يوسي سريد (صحيفة "هآرتس"، 15 آب 2006)، وهو زعيم "ميرتس" السابق وأحد أقطاب "اليسار الصهيوني"، أن "اليسار الإسرائيلي" هو أحد أبرز المدفونين في "القبر الجماعي" الذي حفرته هذه الحرب لمجموعة من ساسة إسرائيل وعسكرها وإعلامييها. ذلك أن هذا اليسار لم يفعل ما كان يتعيّن عليه أن يفعله (وهو معارضة الحرب، بصريح العبارة) وبقي يمارس "الرقص على حبلين"، بين المعارضة وبين التأييد للحرب، بمسوّغ أنها "عادلة" و"مبرّرة". وكان يتوجب على هذا اليسار أن يفهم باكرًا- في قراءة سريد- أن انضمامه إلى الإجماع حتى لو كان متحفظًا وعابسًا من شأنه فقط أن يؤجّج مسيرة أولمرت وبيرتس وحالوتس نحو عمق لبنان. وتساءل: إذا لم ينهض هذا اليسار في وقت الامتحان فمتى كان في نيته أن ينهض على قدميه؟ مع يسار كهذا لا نحتاج إلى وسط ولا إلى يمين.

أما عكيفا إلدار فرأى أن الحرب على لبنان دقّت المسمار الأكبر في نعش معسكر السلام الإسرائيلي (مجلة "آفاق جديدة" الإلكترونية، عدد 22 آب 2006). وأضاف أن استطلاعات الرأي وكذا تصريحات أشخاص يساريين بارزين، مثل الكاتب المسرحي يهوشواع سوبول، تدل على أن "هجوم الصواريخ على شمال البلاد، الذي ترافق مع قصف سلاح الجو في بيروت وجنوب لبنان، أفلح في تقويض إيمان الجمهور الإسرائيلي بوجود شريك عربي للسلام. يكفي سماع كلمات الندم الصادرة عن اليساري سوبول وقراءة مقال يوسي بيلين في "معاريف" الذي اقترح فيه مهاجمة سوريا أو قراءة صرخات الحرب في ملحق "هآرتس" الصادرة عن مؤسسات منظمة "أربع أمهات" لكي نفهم ذلك".

ويعتقد إلدار أن الحديث لا يدور عن "ردود فعل عاطفية عابرة، تعدّ نتيجة مطلوبة ومفهومة لمشاعر الغضب والإحباط والخوف" وإنما يدور عن "مرحلة إضافية في سيرورة عميقة ومتصلة من فقدان البوصلة واللهاث وراء حلول انعزالية وأحادية الجانب، نهايتها الطريق المسدود وتأبيد النزاع".
ويقول إلدار إن السهولة التي هضم فيها معسكر السلام هذا ذرائع ايهود باراك بشأن إخفاقه في مسار المفاوضات السوري- اللبناني والمسار الفلسطيني، كانت شهادة أخرى على هشاشة هذا المعسكر.
وما يتضح الآن هو أن غالبية الإسرائيليين الذين يتفاخرون بلقب "يسار" هم "حمائم تغرّد داخل السرب" لا "حمائم ذات قيم" (تتجاوز الإطار المحليّ الضيق). وهؤلاء يؤيدون عملية السلام من منطلق اعتبارات برغماتية تحيل فقط إلى ما يندرج في إطار صالح الشعب اليهودي، الميزان الديمغرافي، ضمان أمن إسرائيل و/ أو دفع ازدهارها الاقتصادي. أما الصنف الذي يؤيد السلام بدوافع أخلاقية عالمية فقد بات صنفًا نادرًا- هذا الصنف هو الذي لا يبحث عن ملاذ في حضن الوطنية العمياء والإجماع العابر.

وقال ناشط اليسار وسكرتير حركة "يوجد حد"، التي تدعو إلى رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي لأسباب ضميرية، الدكتور يشاي مينوحين، لـ"المشهد الإسرائيلي" (الملحق، 22 آب 2006)، إنه "أثناء الحرب التي يصاب فيها مواطنون يتعلق الناس أكثر فأكثر بمشاعرهم الوطنية من تلك الشمولية. لذلك فإنه في كل حرب وفي كل انتفاضة رأينا أن قسما كبيرا من اليسار يواجه صعوبة في التجنّد للنضال ضد الحرب والاحتلال ويستغرق وقتا أطول للتجند لهذا النضال. وحرب لبنان الثانية ليست مختلفة من هذه الناحية عن الحروب السابقة أو عن الاحتلال والانتفاضتين. والمنظمات (الإسرائيلية) التي وضعت نصب أعينها قيما عالمية شمولية بصورة أوضح، مثل تعايش وكتلة السلام ويوجد حد واللجنة ضد هدم البيوت ومركز المعلومات البديلة، تجندت على الفور للنضال ضد الحرب، لأن الحرب بدت لهم منذ البداية غير مبررة وخاطئة من الناحية الأخلاقية وتتناقض مع القيم التي يؤمنون بها. لكن منظمات يسارية أكثر رخاوة مثل سلام الآن ومثل أحزاب اليسار الصهيوني وبينها ميرتس استغرقها وقت أطول للانضمام للنضال ضد الحرب انطلاقا من مقولة إنه عندما تطلق المدافع النار على الناس أن تسكت. ومرّ على الحرب شهر كامل قبل أن يخرجوا للتظاهر ضد الحرب".

وأشار مينوحين إلى أنه "في فترة حرب لبنان الأولى (1982) مرّ شهر أو حتى أكثر قبل أن يبدأ اليسار الرخوي بالاحتجاج عليها، ومرت شهور قبل أن ينضم قسم من حزب العمل الذي كان في حينه في المعارضة إلى حملة الاحتجاج. وعموما هذا ما يميز أداء هذا اليسار بما في ذلك النضال ضد القمع العنيف للشعب الفلسطيني خلال الانتفاضتين".

يذكر أنه في اليوم الثاني عشر للحرب، اجتمعت الأمانة العامة لحركة "سلام الآن" اليسارية، التي قادت في الماضي تظاهرات ضخمة احتجاجاً على ممارسات الجيش الإسرائيلي سواء في لبنان أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، لتبحث في الموقف المطلوب اتخاذه حيال الحرب الدائرة. لكن الاجتماع شهد انقساماً وخلافات في الرأي أدت إلى عدم اتخاذ أي قرار "تفادياً لكسر الإجماع الإسرائيلي". وكان لافتاً موقف الأمين العام للحركة، ياريف أوبنهايمر، الناشط الأبرز ضد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة. قال أوبنهايمر إنه "ليس منطقياً أن نتظاهر الآن. هذا يمس بالدولة. نحن مهاجمون وكل من يتظاهر الآن إنما يدعم حزب الله".
ونقلت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (25 تموز 2006) عن أوبنهايمر أن "غريزة أي يساري تقوده إلى اتخاذ موقف معارض عندما يرى طائرة حربية في الجو. لا أحد منا يريد أن نعاود الدخول إلى لبنان، لذا يجدر بنا الانتظار. في هذه المرحلة، وبألم شديد كان القرار أن نجلس جانباً ولا نقوم بأي شيء".
وتشير الصحيفة إلى أن بعض جنرالات الاحتياط والسياسيين المحسوبين على معسكر اليسار، ينتقد في صوت خافت الحكومة والجيش، لكن أحداً لا يجرؤ على إسماع صوته عالياً أو حتى توجيه السؤال إلى الحكومة وقادة الجيش: "إلى أين تقودوننا؟ وما الهدف من الحرب ومن سيدفع ثمنها في نهاية المطاف؟". ويبرر هؤلاء عجزهم بالادعاء بأن أسئلة من هذا القبيل لا يمكن أن توجه طالما أن الحرب دائرة وفقاً لشعار "الآن يجب السكوت. هدوء... يطلقون النار... هدوء يُقتلون".
وتلفت الصحيفة إلى صمت رئيس الحكومة الأسبق، إيهود باراك، الذي يعتبره الإسرائيليون أكبر جنرال عرفته الدولة العبرية في تاريخها، والى اختفائه عن شاشات التلفزيون المحلية "فيما يقول لشبكات التلفزيون الأجنبية نقيض ما يؤمن به، مدافعاً عن الحرب". وتضيف أن باراك يرى أن قرار رئيس الحكومة كسر سياسة ضبط النفس التي تحلى بها أريئيل شارون تجاه حزب الله، كان خاطئاً، بل كان الأجدر أن لا ترد إسرائيل أبداً على خطف الجنديين.

يكمن مرض هذا اليسار، في جانب ما، في إدارة ظهره للقيم العالمية.

ومن المثير، في هذا السياق، أن نلتفت إلى ما تقوله المؤرخة الإسرائيلية د. فانيا عوز، في عمق بحث جديد أنجزته بالمشاركة حول المحكمة الإسرائيلية العليا وحرية التعبير، في هذا الخصوص بشأن إتباع رئاسة القاضي أهارون باراك المنتهية ولايته أخيرًا لهذه المحكمة، التي تشكّل مدعاة لافتخار إسرائيليين كثيرين بمن فيهم أشخاص محسوبون على التيارات اليسارية والليبرالية، نهج إدارة ظهرها كاملاً لقيمة "كرامة الإنسان"، التي ميّزت بكيفية ما بعض من سبقوه في هذا المنصب "الرفيع المستوى"، وتمثلها (أي رئاسة باراك) النموذج القضائي الأميركي الذي لا يضع تلك القيمة في اعتباره ويستعيض عنها بقيمة حرية التعبير، مع فارق جوهري كبير، هو امتلاك المجتمع الأميركي تقاليد وثقافة حرية التعبير بما يجعله حريزًا أمام تغلغل ظواهر العنصرية، في حين يفتقر المجتمع الإسرائيلي إلى إدراك البعد العالمي لقيمة التعددية ويتمسك بقبلية هذه القيمة، التي تنهل من ثقافة التلمود والغيتو اليهودية (عوز، 2006).

كما سبق للناشطة اليسارية د. تسفيا غرينفيلد أن أكدّت أن هناك حلقة معينة في النقاش العام في إسرائيل تعاني من إهمال تام، وهي الحلقة التي يفترض أن تربط بين الهوية الثقافية اليهودية وبين الهوية العالمية والليبرالية. و"لقد نشأ وضع غير صحي وغير سليم يقرر أو يختار الناس بموجبه أن يكونوا يهودا أو أن يكونوا ليبراليين. مع أن هناك إمكانية للربط بين الهويات".
وتابعت: "أود أن أرى هذه المواضيع، وفي مقدمتها الطريقة الملائمة للربط والجسر بين الهوية اليهودية والهوية العالمية، وقد أصبحت مطروحة وتحظى باهتمام في جهاز التعليم الرسمي أيضا. وأود التوضيح هنا أنني وعندما أتحدث عن الربط بين الهوية الثقافية اليهودية وبين الليبرالية العالمية، فإنني اشمل بحديثي أيضا مواطني الدولة غير اليهود. بمعنى أنهم يواجهون أيضا تحدي ربط هويتهم الثقافية بالفهم الليبرالي العالمي" (مقابلة مع د. تسفيا غرينفيلد، المصدر: شبكة الانترنت).

(يتبع- حلقة رابعة وقبل الأخيرة)

[ينشر بالتعاون مع مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية المتخصصة الصادرة عن مركز "مدار"- رام الله]

التعليقات