حول التداعيات السياسية للحرب على لبنان (4- 5)/ أنطوان شلحت

حول التداعيات السياسية للحرب على لبنان (4- 5)/ أنطوان شلحت
شكلت النتائج العسكرية للحرب متكأ لدى البعض للوصول إلى خلاصة سياسية بعيدة المدى طال أوان استحقاقها، وهي الاستفاقة من وهم القوة العسكرية.

في هذا الخصوص يشير الخبير الإستراتيجي الجامعي، رؤوبين بدهتسور، مثلاً، إلى أن حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973) لا تزال محفورة في الذاكرة (الإسرائيلية الجماعية) باعتبارها حدثًا انعطافيًا "تصدعت في أعقابه ثقة الجمهور بالجيش الإسرائيلي". لكن "ما زال من السابق لأوانه أن نُقدّر فيما إذا كانت حرب لبنان الثانية ستُستذكر كخط انكسار يصحو الجمهور في أعقابه من وهم القوة العسكرية الإسرائيلية غير المحدودة" (صحيفة "هآرتس"، 16 آب 2006).

ومع ذلك وكتعويل على استبطان مثل هذه الخلاصة الأخيرة يبني البعض الآخر عدة رؤى سياسية.

نذكر من هؤلاء عوزي بنزيمان، الذي رأى أن الحرب أثبتت حدود القوة العسكرية لإسرائيل وقوة الاستفزاز الكامنة في تأبيد مطالب الفلسطينيين والسوريين حيال إسرائيل (صحيفة "هآرتس"، 23 آب 2006).

على النسق ذاته يرى شلومو بن عامي، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، أن البشرى السارّة هي أن الحرب الأخيرة ربما تخلق احتمالاً لتسوية سياسية. "فقد أضحى واضحًا أن الانتصارات الإسرائيلية الساحقة لم تؤد إلى تسويات سياسية، بينما كانت أوضاع التعادل في المعركة أو انكشاف هشاشة الجبهة الداخلية الإسرائيلية بمثابة مقدمة لعمليات سياسية واعدة. هذا ما كان عقب حرب يوم الغفران التي أدت إلى سلام مع مصر وعقب الانتفاضة الأولى وصواريخ السكود في حرب الخليج التي قادت إلى مؤتمر مدريد" (صحيفة "هآرتس"، 22 آب 2006).

أما معلق الشؤون الاستخباراتية يوسي ميلمان فيرى أن "حتى لو لم يكن هناك حسم ساحق فقد بلورت الحرب فرصة لترميم العملية السياسية" ("هآرتس"، 29 آب 2006). وأضاف "انتصارات إسرائيل العسكرية على العرب في السابق لم تترجم دائما إلى إنجازات سياسية لا بل أدّت إلى الجمود. أما حرب مثل حرب يوم الغفران، التي استمرت طويلاً وانتهت من دون حسم عسكري واضح، فقد أدت إلى تحريك عمليات سياسية أثمرت عن تسويات مع مصر وسوريا. حرب لبنان الثانية قادرة أن تؤدي إلى تسوية مع لبنان واستئناف المفاوضات مع سوريا. والرئيس بشار الاسد أوضح في عدة مناسبات أنه مستعد لذلك. ويجب أن نأمل بأن تعرف الحكومة كيف تستغل هذه الفرصة الجديدة".

ودعا المعلق السياسي دانيئيل بن سيمون ("هآرتس"، 15 آب 2006) إلى أن تخرج إسرائيل من شرنقة الأحادية وأن تلتفت إلى محيطها الإقليمي.

ومما كتبه في هذا الصدد:
في السنوات الأخيرة تعززت نزعتنا القسرية للتحادث مع أنفسنا حول التسوية مع العرب، كما لو أن النزاع الحقيقي في الشرق الأوسط هو بين اليمين واليسار (في إسرائيل).
منذ ست سنوات توقفت السياسة الإسرائيلية عن التقدّم ولو خطوة واحدة إلى أمام. ومنذ أن دفع إيهود باراك ياسر عرفات إلى داخل الكوخ في كامب ديفيد في تموز 2000 لم يحصل أي تماس جدي بين زعيم إسرائيلي وبين زعيم عربي نخوض نزاعًا معه. النتيجة كانت مروّعة. فلقد أقفلت إسرائيل الأبواب أمام جيرانها وعقدت العزم على الوصول إلى تسويات سياسية وفقًا لما تفكر به وبسجال مع ذاتها عبر التغاضي عن جيرانها.
ربما يكمن مصدر العدوانية تجاهنا في طبيعتنا الأنانية وفي عدم تعاملنا مع جيراننا، في عدم استعدادنا لرؤيتهم عن بعد متر واحد... كما لو أن العرب هوام لا يليق التحادث معهم.
بدل الحديث مع أعدائنا نتحدث فقط مع أصدقائنا حتى لا نقول الأوصياء علينا، الأميركان... تبنينا الإنجليزية كلغة أم ونتعامل مع اللغة العربية كما لو أنها خطر وجودي. حتى الآن لم يثبت استعباد حياتنا وقيمنا ومستقبلنا لأميركا نفسه. ولم نكن البتة عديمي الأمان كما نحن الآن. وكجزء من يأسنا فإننا نحيط أنفسنا بسور ونحوّل شعار الانبعاث القومي إلى غيتو محض ومحكم الإغلاق من كل ناحية.
إذا تفشى اليأس من الجيران والسلام، فمن شأن الإسرائيليين تسليم مقود الدولة لأيدي مهووسين خطرين مثل أفيغدور ليبرمان. "من أجل أوضاع جنونية يتوجب أن يكون في الحكم أشخاص مجانين"، هذا ما قاله أحد سكان كريات شمونه، وعكس بذلك المزاج العام الجديد وذكر ليبرمان كوصفة سحرية.
إذا لم يعد أولمرت الأمل عاجلاً وإذا لم يفاوض السوريين والفلسطينيين واللبنانيين فمن شأن اليأس من الوضع أن يدفع الإسرائيليين نحو حلول متطرفة.

أما البروفيسور يارون إزراحي فيدعو ("هآرتس"، 22 آب 2006) إلى اجتراح "منعطف حاسم في إستراتيجية إسرائيل السياسية والثقافية".
وهو يقول: بوصفها الدولة غير المسلمة الوحيدة في الشرق الأوسط ليس في مقدور إسرائيل الاستمرار في الوجود في المنطقة طويلاً إذا ما واصلت تؤدي في نظرها وفي نظر جيرانها دور رأس الحربة للكفاح الغربي ضد الإسلام.
لقد نجحت إسرائيل في أن تقدّم الوقود للدعم المشهدي المتدحرج لصورة الشيطان التي تخلعها عليها وسائل الإعلام الإسلامية. بالذات الآن حان الوقت لمنعطف حاد في الوعي والسياسة الإسرائيلية حيال العالم الإسلامي.
يجب الوقوف الآن إلى جانب الإسلام المعتدل والظهور كمدافع عن الحضارة الإسلامية المتصلة مع اليهودية بتيارات تحت أرضية تاريخية عميقة... والمقصود الوقوف في وجه الهجوم الثقافي، الديني، الأخلاقي والإعلامي على الإسلام، الذي يعرض نمط الحياة الإسلامي كما لو أنه عنيف وبدائي بصورة جوهرية.
مع تواتر الحديث عن جولة مقبلة فإن المطلوب هو خيال سياسي غير مألوف وشجاعة كبيرة من أجل إيجاد جولة مقبلة تكون بمثابة منعطف حاسم في إستراتيجية إسرائيل السياسية والثقافية. المطلوب الآن هو تحوّل بمقدار 180 درجة عبر التخلي عن الطريق السياسية التقليدية التي لم تجلب لنا إلا الثمار الفاسدة.
لم تعد حكومة إيهود أولمرت، منذ انتهاء الحرب على لبنان، تمتلك أجندة سياسية معلنة، في ضوء إعلان رئيسها عن تجميد "خطة التجميع" (الانطواء) حتى إشعار آخر (دون أن تفيد هذه الملاحظة بأي موقف إيجابي من الخطة إياها). ووفقًا لما يقوله المراسل السياسي في صحيفة "معاريف"، بن كسبيت، فقد توصلوا في وزارة الخارجية الإسرائيلية أخيرًا إلى نتيجة مفادها أن "المسار الفلسطيني وصل إلى طريق مسدود مميت". وقد جرى التعبير عن هذا الموقف خلال مداولات عديدة في الوزارة، فضلاً عن أن كبار الموظفين يتمسكون به. ومردّ ذلك أن عملية التجميع لفظت أنفاسها الأخيرة، والأحادية حيال الفلسطينيين ماتت، ولا شريك في الطرف الثاني لأية مفاوضات وليس هناك ضوء في آخر النفق، باستثناء الأنفاق التي يواصل عبرها الفلسطينيون تهريب كميات هائلة من السلاح والمتفجرات (الفاتح من أيلول 2006).

وفي رأي المراسل السياسي لصحيفة "هآرتس"، ألوف بن، فإن إسقاط خطة التجميع عن جدول الأعمال يسلب الحكومة و(حزب) كديما سبب وجودهما (24 آب 2006). ويضيف: إذا كانت الحكومة ضعيفة حتى في سبيل إطلاق مبادرة سياسية جديدة تستبدل الانسحاب الأحادي الجانب من الضفة، فمن الأفضل أن تنهي دورتها في أقرب فرصة. وإذا لم يقترح حزب كديما بسرعة أملاً جديدًا ومقنعًا فسيذكر كظاهرة سياسية عارضة سوية مع قادته.

ويستطرد بن: لا يعتقد إيهود أولمرت أن ناخبي (حزب) كديما والشعب عمومًا بحاجة إلى تفسير منمّق من طرفه لانهيار المدماك المركزي في سياسة حكومته (خطة التجميع). فهو يقدّر بأن الإسرائيليين قد استبطنوا ضرورة تغيير الاتجاه في ظل ضربات الكاتيوشا من لبنان. لكن إلغاء التجميع يثير سؤالين رئيسين: ماذا يحدث في هذه الأثناء في المناطق (الفلسطينية) وما جدوى استمرار سلطة (حكومة) أولمرت؟. واضح أن المواجهة مع الفلسطينيين أقصيت عن جدول الأعمال. فالعالم مشغول بإرسال قوة دولية إلى لبنان، وإسرائيل مهمومة بحساب النفس وبالقلق على المخطوفين. المشكلة هي أن الفراغ يستدعي مصائب. وقد حذر معهد الأبحاث "ريئوت" من انفجار انتفاضة جديدة أو من حلّ السلطة الفلسطينية، كما حذر رئيس جهاز الأمن (شاباك) الحكومة من أن غزة قد تصبح لبنان. هذا الفراغ ينسحب أيضًا على المستوطنين. فالبؤر العشوائية ستبقى في أماكنها طالما أن الجيش مشغول في لبنان. ولا يوجد جواب لدى أولمرت حول ماذا ستفعل الحكومة بهذه البؤر وبالمستوطنات عمومًا. والبعض بات يطرح السؤال: ما هو الفرق بين أولمرت وبين (زعيم الليكود) بنيامين نتنياهو؟ فكلاهما يدعو الآن للحفاظ على الوضع القائم في المناطق وترميم الشمال ومواجهة إيران.

أما عوزي بنزيمان فيرى أن إسرائيل بحاجة إلى أجندة قومية جديدة، إلى تحدّ جديد... والغاية اللائقة لذلك هي إحلال علاقات جديدة مع العالم العربي... الحرب الثانية على لبنان تلقي على كاهل الحكومة، مهما تكن تركيبتها، مسؤولية قيادة الجمهور نحو لحظة الانفصال عن الجولان والضفة (صحيفة "هآرتس"، 23 آب 2006).
وفي رأي بنزيمان فإن من شأن هذه المهمة أن تطرح مجدّدًا على جدول الأعمال تهديد الجنود المتدينين برفض الخدمة العسكرية.
ولتوضيح مقصده فإنه يعيد إلى الأذهان أنه في حمأة الحرب وتحت وطأة الضائقة التي فرضتها على الدولة لم يتطرّق أحد إلى خطورة الدعوة التي صدرت عن الجنود المتدينين بشأن رفض الخدمة العسكرية في الجيش إذا كان هدف الحرب هو دفع خطة التجميع إلى الأمام، بحسب ما صرح به إيهود أولمرت، رئيس الحكومة، في اليوم العاشر للحرب (وسرعان ما تراجع عنه). وعمليًا فإن هؤلاء وضعوا أمام الدولة، برأيه، شرطًا لاستعدادهم للتضحية بأرواحهم دفاعًا عنها، هو أن تسقط من أجندتها خطة التجميع للانسحاب من غالبية أراضي الضفة الغربية. وبذا فتح هؤلاء بوابة لرفض جماعي عملي غير مسبوق. وهذه السابقة، التي لا حدود لخطورتها وأبعادها، لم يتم شملها في الخطاب الشعبي المتطوّر منذ انتهاء الحرب، فجلّ الاهتمام منصرف نحو النتائج الملموسة للمعركة ونحو أصدائها السياسية. كما أنّ التغاضي عن هذه الدعوة تلقى دعمًا من حسم رئيس الحكومة السياسي، لناحية وضع خطة التجميع على الرفّ. لكن من المعروف أن خطة التجميع تقف في رأس اهتمامات الحكومة الحالية، وفقًا لخطاب عرضها على الكنيست. وإذا سقطت هذه الخطة فما هو مبرّر بقاء الحكومة؟.

أما بالنسبة لأجندة الحكومة المتعلقة بسوريا فقد كشف عكيفا إلدار (صحيفة "هآرتس"، 20 آب 2006) أنه قبل حوالي أسبوع، من التاريخ أعلاه الذي بين قوسين، عينت تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية، يعقوب ديان، الذي كان رئيس الطاقم السياسي في مكتب وزير الخارجية، في وظيفة "محرّك مشاريع" (Projector) خاص لموضوع مفاوضات السلام مع سوريا. وقد طلب إلى ديان أن يعرض أمام ليفني وإدارة الوزارة وثيقة شاملة تطرح احتمالات تجديد العملية السياسية مع سوريا في ضوء مواقف الأطراف حيال المواضيع الرئيسة مثل الحدود، الأمن والتطبيع، في المراحل المختلفة من المفاوضات.
وقد أكد مستشار الإعلام لدى ليفني هذا النبأ، لكنه أشار إلى ضرورة عدم الاستنتاج من ذلك أن الوزيرة ليفني "تقترح البدء الآن بمفاوضات مع سوريا".
وينوه إلدار بأن المصادر المطلعة في إسرائيل مختلفة فيما بينها حول تقدير نوايا الرئيس بشار الأسد. وبينما يشددون في شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) على تهديداته الحربية، فإن مسؤولي وزارة الخارجية يعزون أهمية لدعوته إسرائيل إلى تجديد مفاوضات السلام. وفي النقاشات التي أجرتها عناصر تقدير مختلفة تم التشديد على الخشية من وجهة تعزيز أواصر العلاقة بين إيران وسوريا وزيادة تأييدهما لحماس الخارج، التي تحاول تقويض جهود وقف إطلاق النار في غزة. وقد جاء إعلان وزير الدفاع، عمير بيرتس، حول خلق الظروف لمفاوضة سوريا في أعقاب سلسلة أحاديث مع خبراء في شؤون سوريا.
مقربو بيرتس قالوا إنه يرى في الأسد عنصرًا مركزيًا في جهود منع انفجار متجدّد في حدود الشمال وفي فرض إمبارغو (حظر) السلاح على لبنان. لكن رئيس الحكومة ايهود أولمرت يعارض أي انحراف عن سياسة الحظر ضد سوريا، طالما أن الولايات المتحدة لا تسقطها من قائمة الدول المؤيدة للإرهاب.

أما البروفيسور إيال زيسر، رئيس قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، فيؤكد (صحيفة "معاريف"، 22 آب 2006) أن سوريا ليست جزءًا من المشكلة في الحدود الشمالية فقط وإنما هي أيضًا جزء من الحل. وفي خطابه (بعد انتهاء الحرب) لم يشدّد (الرئيس السوري بشّار) الأسد فقط على ما هو مشترك بينه وبين حزب الله وإيران، وإنما شدّد أيضًا على ما هو الفارق... وفعلاً فقد أعلن أن سوريا، خلافًا لحزب الله وإيران، معنية بتجديد العملية السياسية في منطقتنا وأن هدفها النهائي ليس إبادة إسرائيل وإنما توقيع اتفاق سلام معها.
وأضاف: قلائل يمكن أن يختلفوا مع حقيقة أن السلام مع سوريا هو مصلحة إسرائيلية. وهناك أهمية خاصة لذلك الآن جراء الخوف من أن إيران يمكنها أن تحصل خلال السنوات القريبة على سلاح نووي. لكن من هذه النقطة إلى أن نحقق اتفاق سلام مع سوريا لا تزال الطريق طويلة. والأسد لا يفكر بخطوات بناء ثقة تسهّل على القيادة الإسرائيلية تجنيد دعم بين الجمهور الإسرائيلي لعملية سلام مع سوريا. وحكومة إسرائيل غير معنية الآن ببحث وحسم قضية الجولان. وأخيرًا فإن الرئيس جورج بوش، الشريك الحيوي لأي حوار إسرائيلي- سوري في المستقبل، ما زال يرى في سوريا جزءًا من محور الشر ينبغي محاربته لا مفاوضته.

(يتبع- حلقة خامسة وأخيرة)

[ينشر بالتعاون مع مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية المتخصصة الصادرة عن مركز "مدار"- رام الله]

التعليقات