"دولة الرفاه" الإسرائيلية نحو مزيد من الأفول/ أنطوان شلحت

-

يشتمل العدد رقم 37 من “أوراق إسرائيلية” (*) على وثيقتين أعدّهما “مركز أدفا- معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل”: الأولى حول صورة الوضع الاجتماعي في إسرائيل العام 2006، والثانية حول الموازنة الإسرائيلية في العام 2007، والتي تضمنت تغطية تكاليف الحرب على لبنان في صيف 2006.

والنتيجة التي يتوصل إليها هذا المركز، في وثيقته الثانية، الوثيقة الصلة بالأولى، هي أنّ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الحالي بات من شبه المؤكد أن يرتسم بكونه عقدًا اجتماعيًا مفقودًا من ناحية إسرائيل. فالتقليصات المقرّرة العام 2007 في الخدمات الاجتماعية وفي شبكة الضمان الاجتماعي، بحجة تغطية تكاليف الحرب، وتلك المتوقعة العام 2008، تضاف إلى تقليصات عميقة في الموازنة تمّ تنفيذها في الأعوام 2001- 2004. وإذا ما تمّ ربط كل هذه التقليصات فإنّ الخلاصة المطلوبة هي أنّ العقد الحالي سيكون عقدًا كاملاً من الانكفاء الاجتماعي في مجالات التعليم، التعليم العالي، الصحة، السكن والرفاه والضمان الاجتماعي، على ما تؤكد الوثيقة في هذا الشأن، خصوصًا وأنّ النية متجهة نحو المزيد من صرف الأموال على الاستعداد للجولة الحربية المقبلة، التي تترسّخ في الوعي الإسرائيلي باعتبارها شبه حتمية.

لعلّ الكلمة المفتاحية في الوثيقة الأولى هي اللامساواة أو انعدام المساواة في توزيع الموارد، وأساسًا في تقاسم ثمار النموّ الاقتصادي. ويؤكد كاتبا الوثيقة أنّه مع كون النمو في إسرائيل مطروحًا من قيادتها السياسية “كهدف مركزي لسياستها في المجال الاقتصادي، إلا أنّ المعطيات الواردة في الوثيقة تبيّن أنَّ النمو في حدّ ذاته، وحين لا يكون مصحوبًا بسياسة عامة ملائمة، يمكن أن يظهر كهدف منقوص وجزئي. ففي العقود الأخيرة شهدت إسرائيل سنوات من النموّ الاقتصادي الكبير، بل وانضمت إلى مجموعة الدول الغنية في العالم، وذلك بمصطلحات الناتج للفرد. ولكن إلقاء نظرة تتجاوز المعطيات الكميّة لمعدلات النمو، سرعان ما تكشف أنّ النمو اقتصر، فقط، على أجزاء من المجتمع والاقتصاد الإسرائيلييْن، في حين لم يُقيّض لأجزاء كثيرة أخرى أن تحظى بشيء يُذكر من هذا النمو”.

وثمة أشكال عديدة لانعدام المساواة، منها ما هو على أساس قومي وطائفي، ومنها ما هو على أساس جندريّ أو على أساس التوزيعة الجغرافية، وما شابه ذلك. يُضاف إلى هذا أنّ انعدام المساواة ينسحب على كل مجالات الحياة، وهناك تركيز خاص على التعليم والتعليم العالي والخدمات الصحية وكذلك على نظام التقاعد. وإنّ الأرقام والفجوات التي تقدمها الوثيقة تعرض حال الوضع الاجتماعي في إسرائيل ببريق ساطع.

وليس من المجازفة القول إنّ ما يستكنهه “مركز أدفا” هو أشبه بتحصيل حاصل السياسة الاقتصادية- الاجتماعية المنتهجة منذ عدة سنوات، والتي دقّت المسمار تلو الآخر في نعش دولة الرفاه الإسرائيلية، كما سنتوسع في قراءة بعض مداليلها في إطار السطور التالية.

رأى العديد من الخبراء وأساتذة الجامعات، في معرض تعقيبهم على نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل للكنيست السابع عشر (جرت في 28 آذار 2006)، وحتى قبل أن تندلع الحرب على لبنان في الصيف المنصرم، أنّ الوضع الاجتماعي سيزداد تفاقمًا، وذلك نظرًا لأنّ دولة الرفاه الإسرائيلية أخذت تقترب من الأفول أو الزوال.

وذهب بعضهم إلى أنّ هناك، أولاً وقبل أيّ شيء، ضرورة لفهم وتذويت حقيقة أنّ “مشكلة الرفاه في إسرائيل” لا تقتصر على المواضيع التي خاض فيها زعماء الأحزاب عشيّة تلك الانتخابات، فقط، وهذه المواضيع هي: تقليص البطالة (وهو موضوع لم يعد مطروحًا بقوّة على جدول الأعمال)؛ رفع أجر الحد الأدنى المتدني؛ إضافات إلى سلة الأدوية الهزيلة وفرض رقابة على أسعار الأدوية المرتفعة؛ إجراء تغييرات في نسب ضريبة الدخل ومخصصات التأمين الوطني للمُسنّين والمُعوّقين والمتقاعدين وإلغاء أو تقليص شركات القوى البشرية. فإنّ أية مناقشة جادّة في موضوع الرفاه لا بد وأن تتناول أيضًا أجهزة الثقافة والصحة والتعليم والعمل والمساواة لجميع المواطنين في إسرائيل، علمًا بأنّ هذه المجالات كافة تعاني من تدهور خطير جدًا، وفقًا لكل المقاييس العالمية الموثوقة. وتحتل إسرائيل مكانة متدنية للغاية في سلم الدول المتطورة والديمقراطية. وإزاء ذلك فإن أيًّا من الأحزاب الإسرائيلية (بما في ذلك “حزب المتقاعدين”) لا يطرح حلولاً حقيقية للوضع المتدهور الذي يقبع فيه جهاز الرفاه بأكمله.

وطبقًا لبرنامج وتصريحات المتحدثين باسم “كديما”، فإن هذا الحزب الحاكم متمسّك بالسياسة “الريغنية” و”التاتشرية” التي يتبناها (زعيم الليكود الحالي) بنيامين نتنياهو. والمغزى العملي لهذا التوجه هو مزيد من التدهور في وضع الرفاه في إسرائيل، وذلك من جرّاء التعاظم المستمر لأصحاب رؤوس الأموال، الذين أصبحوا الآن أصحاب السلطة أيضًا (على سبيل المثال فإن الذين تولوا إجراء المفاوضات لتشكيل الائتلاف الحكومي الحالي هم بالأساس محامون يمثلون أثرياء الدولة، أو أنهم أنفسهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة).

وليس عبثًا أن إيهود أولمرت، رئيس الحكومة، قد امتدح في خطاب فوز حزبه في الانتخابات، بنيامين نتنياهو. وفي هذا السياق لا حاجة لإضافة الكثير فيما يتعلق بموقف وخطة “الليكود”، طالما كان نتنياهو يقف على رأس هذا الحزب. وعلى الرغم من تصريحات نتنياهو وبعض زملائه بشأن التغييرات التي قالوا إنهم يعتزمون إجراءها في سياسة الرفاه، فإن من الواضح أن هذا الحزب أيضًا سيواصل التمسّك بالتوجه الذي اتسم به عندما كان يتولى مقاليد الحكم.

كذلك، ورغم تصريحات رئيس حزب “العمل”، عمير بيرتس، بشأن تجديد أو استعادة الطابع الاشتراكي- الديمقراطي لحزب “العمل”، فإن البرنامج الاجتماعي لهذا الحزب بعيد بعد السماء عن الأرض عن كل ما يُذكِّرُ حتى بالاشتراكية الديمقراطية.

ومطالب واقتراحات التغيير التي ينادي بها رؤساء حزب “العمل” تعتبر هزيلة وأقل من القليل، وهي بالأساس لا تتحدث عن منع حدوث مزيد من التدهور في سياسة الرفاه.

وفي الإجمال فإن زعماء حزب “العمل” يتبنون وجهة النظر الليبرالية الجديدة، التي ينادي بها حزبا “كديما” و”الليكود”، وبالتالي لا توجد من ناحية عملية فوارق كثيرة بين برنامج هذه الأحزاب (الرئيسة الثلاثة) الموجودة ظاهريًا فحسب في معسكرين منفصلين.

هذه الأمور تنسحب أيضاً على يوسي بيلين وحزب “ميرتس” (اليساري؟) بزعامته... أولم يعلن بيلين منذ وقت بعيد- كمعلمه شمعون بيريس- تخليه عن الطريق الاشتراكي- الديمقراطي، هذا إذا كان قد آمن به أصلاً!

وعلى الرغم من التصريحات الاجتماعية لجميع الأحزاب الفئوية أو القطاعية، مثل “شاس” والأحزاب الدينية الحريدية وحزب أفيغدور ليبرمان “يسرائيل بيتينو” (روس) وحتى “حزب المتقاعدين”، فإن من يعرف جيدًا مواقفها يدرك أن المصلحة الأساس لكل واحد منها لا تتمثل في دفع قضية الرفاه عمومًا، وإنما في دفع رفاهية القطاع أو الفئة التي تمثلها هذه الأحزاب.

لكل هذه الأسباب فإن التوقع بشأن إمكانية التغيير في مجال الرفاه هو توقع قاتم جدًا.

وعمليًا فإن جميع الأحزاب المذكورة تعود وتؤكد على الحاجة إلى “الرأفة” التي تعني تقديم “صدقات” لمحتاجين مختلفين، وبالتالي فإنها (أي الأحزاب) لا تعتزم تحسين وضع نظام الرفاه الإسرائيلي برمته.

قبل أن تصبح عضوًا في الكنيست من قبل حزب “العمل” رأت الصحافية الإسرائيلية البارزة شيلي يحيموفيتش (عملت آنذاك في القناة الإسرائيلية التلفزيونية الثانية) أن إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من أن تكون “دولة تسيطر عليها الميزتان الأبرز لجمهورية الموز”، وهما المستوى المتردي لنزاهة الحكم، والفجوات الهائلة بين الفقراء والأغنياء.

وجاءت هذه الـ “نبوءة” في سياق “مونولوج فصحي” (نسبة إلى عيد “الفصح العبري”) كان عبارة عن شكوى حادّة، صافية وصريحة، أساسًا من أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية التي باتت تتماشى، إلى حدّ التماهي أحيانًا، مع أصحاب الرساميل في تأييد السياسة الاقتصادية- الاجتماعية التي تنتهجها الحكومة لصالحهم، وتنذر بأن تقضي قضاء مبرمًا على “دولة الرفاه”، حتى إلى ناحية تجاهل معاناة ضحايا هذه السياسة من السكان اليهود أنفسهم. وإنّ أداء وسائل الإعلام هذه في ميدان التماثل، حتى لا نقول الامتثال، مع سياسة الحكومة العامة أصبح هو أيضًا من “الأسرار المفضوحة” بما لا نحتاج معه إلى عناء التكرار.

وبصدد مسألة “نزاهة الحكم” في إسرائيل نشير إلى أنه سبق أن جرى تخصيص العدد رقم 28 من سلسلة “أوراق إسرائيلية” لهذا الأمر، وفيه عرض الخبير القضائي الإسرائيلي موشيه نغبي ما اعتبر أنه “فشل ذريع لمنظومة أجهزة سيادة القانون (الإسرائيلية) في حماية الديمقراطية من الذين يحاولون تدميرها وتقويضها من الداخل” لغاياتهم المخصوصة، التي ليس أبسطها التغطية على الفساد المستشري في القمة. وقد احتوى هذا العدد على مقالتين مأخوذتين من كتاب لهذا الخبير صدر قبل فترة وجيزة- خريف 2004- مشتملاً على العرض ذاته، إنما بصورة أكثر سعة وشمولية. وجاء الكتاب تحت عنوان “أصبحنا مثل سدوم: في المنزلق من دولة قانون إلى جمهورية موز”.

النتيجة التي يخلص إليها نغبي في الكتاب عمومًا مفادها أنه “لا نهضة ترجّى لدولة تخاف سلطاتها من أعداء القانون والديمقراطية، بدل أن يكون سلوكها نقيض ذلك جملة وتفصيلا”.

وقد كتب في تظهير هذا الكتاب، الذي فينا أن نعتبره غير مسبوق في “المكتبة الإسرائيلية”، ما يلي:

“عصابات الإجرام المنظّم تزرع العنف في شوارع إسرائيل. وأذرعها تتغلغل في سلطات النظام الحاكم وتهدّد بأن تمسّ بالديمقراطية من الداخل. قتلة، مغتصبون، أزواج عنيفون وتجار نساء يتجولون بيننا طلقاء بسبب حدب المحاكم. أماكن لوائح المرشحين للكنيست تباع في وضح النهار عدًّا ونقدًا أو بما يوازي النقود، والساسة الذين يشترونها هم الذين يشرّعون قوانيننا... مواطنون عاديون يسامون مرّ العذاب في غياهب السجون والمعتقلات دونما ذنب اقترفوه، بينما يواصل مسؤولون كبار، استغلوا مناصبهم لتحسين وضعيتهم ووضعية المقربين منهم، جريهم نحو القمة دون حسيب أو رقيب. القضاء العسكري يمنح حصانة للقادة الذين أهدروا بإهمالهم الإجرامي حياة جنودهم أو استغلوا جنسيًا جندياتهم، وأيضاً للقادة الذين ينكلون بالفلسطينيين. الإعلام الباحث عن الحقيقة، اللاسع، يفقد نيوبه ويأخذ مكانه إعلام امتثالي وفاسق. وأفظع من كل هذا أن سلطات القانون مشلولة تمامًا حيال التحريض والعنف الديني- القومي، اللذين سبق لهما أن أديا هنا إلى اغتيال رئيس للحكومة” (إسحق رابين في 1995).

أما فيما يختص بالفجوات الضخمة بين الفقراء والأغنياء، وهي الميزة الأبرز الثانية لـ”جمهورية الموز” على ما قالت يحيموفيتش، فيمكن استعادة ما سبق أن قاله عالم الاجتماع الإسرائيلي شلومو سبيرسكي، وهو كاتب مشارك للوثيقة حول صورة الوضع الاجتماعي، من كون ذلك أشبه بصيرورة “ثقافة تطوّر” أو “ثقافة تنمية” اقتصادية- اجتماعية انطلقت من “مبدأ” تكريس هذه الفجوات، بداية بين أبناء الطوائف اليهودية المختلفة (إشكناز وشرقيين) وبينهم وبين العرب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، ثم اتسع تطبيق هذا “المبدأ” لاحقًا ليشمل، بعد العام 1967، الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ومن ثمّ غيرهم على مرّ السنوات الماضية وصولاً إلى الأيام الراهنة.

وبطبيعة الحال كانت هناك، قبل قيام إسرائيل بفترة طويلة، أجهزة اقتصادية- سياسية غير متساوية (تمييزية) تابعة لقيادة “الييشوف”. وقسم من هذه الأجهزة ساعد أيضًا في تحديد نزعات “التطوّر” الجديدة بعد إنشاء الدولة. لكن الفارق المبدئي بعد ذلك كمن في أن من قاد النزعات الجديدة هو جهاز دولاني مستقل وعظيم النفوذ، نسبيًا، وإلى جواره “طبقة وسطى صنيعة الدولة” سرعان ما استأثرت لنفسها بقدر كبير من “الأوتونوميا”، بتغطية دائمة من جهاز الدولة.

لعل ما يعنينا من هذه الحوصلة، على رغم ما تنطوي عليه من مؤدى مثير، هو أن “ثقافة التنمية” هذه ترتبت ولا تنفك تترتب عليها مفاهيم اجتماعية عنصرية، قلبًا وقالبًا، تجاه الداخل الإسرائيلي وتجاه الخارج أيضًا. وفيما يتعلق بالفلسطينيين تحديدًا يشير الباحث إلى أنه بما أنه لن يكون هناك في المدى المنظور والبعيد جيش احتلال في مقدرته أن يفرض على الفلسطينيين جوهر التشغيل وشروطه وظروفه فإنه ستتطور، بشكل علنيّ أكثر فأكثر، أيديولوجيا تسوّغ وتبرّر الفوارق الطبقية الناشئة بين اليهود والفلسطينيين بمفاهيم ثقافية عنصرية أو قومية- تماماً مثلما أن الأيديولوجيا حول “الاستضعاف الثقافي” تطورت في الخمسينيات والستينيات كتسويغ ومبرّر للفوارق الطبقية التي نشأت بين الإشكنازيين والشرقيين. ومن الجائز جدًا أن تعرض هذه الأيديولوجيا ذاتها اليهود بوصفهم “شعب الأسياد” و/ أو “شعب المجتمع التكنولوجي المتطور” (الـ”هاي تيك”)، الذي يُسمح بل ويحقّ له تشغيل “المستضعفين في الأرض” ضمن شروط استغلال.

في واقع الأمر لا تقتصر المفاهيم الاجتماعية العنصرية في الممارسة والتفكير الإسرائيليين على جانب التطوّر الاقتصادي فحسب، وإنما تنسحب أيضًا على المواقف السياسية من الحلول المرتجاة للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. وهذا ما سبق أن تطرّق إليه، ضمن أساتذة جامعيين آخرين، المحاضر في جامعة حيفا، د. إيلان بابه، في مقاربة “عن العودة والعنصرية” نشرها في أواخر نيسان/ أبريل 2005.

يؤكد الكاتب، مثلاً، أن قضية اللاجئين الفلسطينيين هي، في العمق، أكثر من سؤال حول حلّ صحيح أو غير صحيح للتطهير العرقي الذي اقترفته إسرائيل العام 1948. فهذه القضية هي الأساس لفهم المشروع الصهيوني كافة، في لبوسه الحالي، وربما هي الأساس أيضًا للبديل الوحيد لوجوده. ويضيف: التسويغ الإسرائيلي الأكثر أساسية، الإجماعي، ضد عودة اللاجئين يتمثل في الخوف من فقدان الأكثرية الديمغرافية اليهودية لدولة إسرائيل. وهذا الخوف يبدو أقوى حتى من الرغبة في إنكار النكبة أو من السعي للتهرّب من المسؤولية عن ارتكاب الجريمة في 1948. والموقف الإسرائيلي الأخلاقي وكذلك الدولي تآكل جدًا، إلى حد لم يعد معه خوف إسرائيلي من الإدانة ولا رغبة يهودية في التكفير عن الذنب.

ويتابع: ثمّة في صلب هذا الموقف المأزق الذي أرّق الصليبيين حين اكتشفوا أنهم أنشأوا دولة ليس في أوروبا وإنما في لبّ العالم الإسلامي، وأرّق الكولونياليين البيض الذين سعوا إلى إقامة دولة قبلية خاصة بهم في أفريقيا ولم يقدروا على القارة السوداء، لكنه لم يؤرّق بالمقدار نفسه الكولونياليين في الأمريكتين الذين أبادوا على نطاق واسع البيئة غير البيضاء بمجرّد أن وطئت أقدامهم هناك.

وعلى ما يبدو فإنّ هذا المأزق لا يؤرّق الصهاينة الذين يمضون قدمًا في الحفاظ على ما أسماه الكاتب “الجيب الأبيض” في قلب العالم العربي الذي استوطنوا فيه.

الشيء المهم أن مساعي الحفاظ على هذا “الجيب الأبيض” هي التي تحكمت في مبررات البرامج الإسرائيلية الأخيرة المطروحة للتسوية السياسية، وفي طليعتها خطة أريئيل شارون للانفصال عن غزة وشمال الضفة الغربية وخطة إيهود أولمرت المعروفة باسم “خطة التجميع” أو “خطة الانطواء”. وعلى ما يبدو فإنها ستتحكم بما قد يأتي، إذا ما أتى، في مرحلة لاحقة. ومن غير المستبعد قطّ أن تلد مخططات أكثر جهنمية!

على صلة بكلّ المارّ ذكره لا بدّ من ملاحظة أنّه منذ إقامة إسرائيل، تدأب حكوماتها المتعاقبة على تكريس مسلمة صنمية مؤداها أن هناك “رايتين” لإسرائيل لا تستطيع في الظاهر- وما زالت لا تستطيع حتى الآن- رفعهما معًا في آنٍ واحد. الراية الأولى هي “راية الأمن” والمرتبطة في شكل أساسي باستمرار أو حل النزاع الإسرائيلي- العربي- الفلسطيني؛ أما الراية الثانية فهي “راية الرفاه الاجتماعي والاقتصادي”.

ولغاية هذا اليوم ما انفك الأمن هو القضية المركزية (بل وحتى الوحيدة) التي تقف على رأس أجندة سلطات الدولة، وبتأثير هذه السلطات الحاسم، ما انفك الأمن على رأس أجندة مواطني الدولة أيضًا.

وقد كان واضحًا، في كل مرة يتمّ فيها بحث تخصيص الموارد، أن المؤسسة الأمنية والعسكرية ستحصل على الميزانية التي تطلبها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أية جهة- بمن في ذلك ذوو اليد الطولى من كبار موظفي وزارة المالية- لا تستطيع تفحص تفاصيل طلب الميزانية العسكرية-الأمنية أو مراقبة إنفاق الأموال.

وقد نجم تفضيل الجيش وأجهزة الأمن على باقي أجهزة الدولة (وخاصة جهاز الرفاه)، بالدرجة الأولى، عن قدرة رجالات المؤسسة الأمنية على إقناع المواطنين الإسرائيليين بأن الدولة تواجه تهديدات وجودية، وأن المؤسسة الأمنية هي مؤسسة ناجعة ورادعة وقادرة على أن تتصدى بنجاح لهذه التهديدات. ورغم ما أظهرته الحرب على لبنان من عجز مؤسسة الأمن الإسرائيلية عن توفير الردع الذي تتحدث عنه، فإن معظم مواطني إسرائيل ما انفكوا يكنون التأييد والتقدير للجيش وللمؤسسة الأمنية.

هذه الحقيقة، إضافة إلى السيطرة المطلقة للمؤسسة الأمنية على التفكير والتخطيط العسكريين، يتيحان لهذه المؤسسة مواصلة التمتع من تخصيص الموارد وفقًا لرغباتها، وليس بموجب الاحتياجات الواقعية. وهو أحد العوامل الذي يزيد تدهور الأوضاع الاجتماعية، كما أشير سابقًا.

___________

(*) "صورة الوضع الاجتماعي في إسرائيل العام 2006" *تأليف: د. شلومو سبيرسكي وإيتي كونور- أتياس * إصدار: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، شباط 2007.

التعليقات