عن بعض خلفيات التطورات الأخيرة/ أنطوان شلحت

عن بعض خلفيات التطورات الأخيرة/ أنطوان شلحت
لعلّ وجود شبه إجماع في إسرائيل، غداة التوصّل إلى اتفاق يقضي بـ"الهدنة المتبادلة" في جبهة قطاع غزة، على التشكيك في "مقدرة هذا الاتفاق" على "ثني الفلسطينيين عن طريق الإرهاب"، حسبما عكس ذلك المقال الافتتاحي لصحيفة "هآرتس" المتباهية بليبراليتها مثلاً، يحيل إلى السؤال حول الخلفيات الحقيقية التي جعلت إسرائيل تقبل بالاتفاق، أو بالأحرى لا تستجيب لأصوات القعقعة بالسلاح التي تعالت مؤخرًا من كل حدب وصوب.

ولا شكّ في أن هذه الخلفيات ترتبط بعدة سياقات إقليمية ودولية.

ومنها، بطبيعة الحال، السياق الأميركي الذي يخضع لتأثير نتائج الانتخابات النصفية، وما أعقبته من بحث عن "إستراتيجيات جديدة" تبدأ في العراق ولا تنتهي عنده.

كما أن السياق الإقليمي، المرتبط بما يجري على أرض العراق وبنتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان وبالملف الإيراني النووي، وارد بقوّة في الحسبان. بل تكاد الأنباء حول كل ما ذكر توحي بأنّ مصطلحات من قبيل "الهدنة" و"التهدئة" و"المحادثات" و"المفاوضات" توشك أن تطبع هذه المرحلة بميسمها، لا على مستوى النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني فحسب.

غير أنّ السياق الإسرائيلي نفسه ليس أقل اعتبارًا أو أهمية. ولدى التصدّي لرسم ملامحه من الصعب أن نفصل ذلك عن التداعيات التي استجرّها الفشل العسكري الذريع في لبنان.

ويبدو أن المعلق العسكري لصحيفة "معاريف"، عمير راببورت، هو الأكثر وضوحًا في الإنباء بجوهر هذه الملامح، حين كتب يوم الاثنين 27 تشرين الثاني 2006 قائلاً إن إسرائيل قد خسرت عمليًا مرّة أخرى، هذا إذا ما قررنا تسمية المولود باسمه الحقيقي، في حين اختار غيره تلطيف هذه الخسارة بواسطة اعتبارها "فشلاً" حسبما انعكس ذلك في تعليقي المراسل السياسي لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، شمعون شيفر والمعلق العسكري لصحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، اللذين ظهرا اليوم الثلاثاء 28 تشرين الثاني.

وسبق لراببورت نفسه أن كتب، في 17 تشرين الثاني 2006، ما ترجمته الحرفية ما يلي:

"انتهت مرحلة الأوهام. الكمد بدا واضحًا أمس (16/11/2006) في أثناء المداولات الأمنية. عناصر في جهاز الأمن تعترف بملء الفم: "ليس لدينا حلّ لإطلاق صواريخ القسّام". ويتعيّن على سكان سديروت والنقب الغربي التسليم بهذا الوضع. أمس عاد وزير الدفاع، عمير بيرتس، وكرّر طلبه من الجيش الإسرائيلي أن "يعرض أفكارًا إبداعية" لمشكلة صواريخ القسّام. لكن كل ما صدر عن الجيش لم يتعد اقتراح المزيد من القصف العديم الجدوى لمبنى آخر في شمال قطاع غزة...
"بيرتس وقادة الجيش الإسرائيلي يعرفون أنه ليس هناك أي حلّ سياسيّ ولا أي حلّ عسكريّ مطروح على الأجندة، على الأقل ليس في مدى الأشهر القليلة المقبلة... ما بقي على الأجندة ولم يُجرّب هو فقط عملية كبيرة للجيش الإسرائيلي على شاكلة عملية السور الواقي، تهدف إلى احتلال أجزاء واسعة في القطاع والسيطرة من جديد على محور فيلادلفي. لكن هذه العملية أيضًا هي أبعد ما تكون عن الحلّ السحري.
"في غياب حلول إبداعية لإيقاف إطلاق صواريخ القسّام فقد تركّزت مداولات كبار مسؤولي جهاز الأمن مع عمير بيرتس في إيجاد حلول تحصين إضافية للمباني العامة، وبالأساس للمؤسسات التربوية في البلدات التي تتعرّض للقصف، وليس في العمليات الهجومية. وما من إثبات أشدّ سطوعًا من هذا على أن الجيش الإسرائيلي قد فشل عمليًا".

ومثل راببورت المعلق العسكري الواسع الإطلاع لصحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، الذي سبق أن كتب في 23 تشرين الثاني يقول:

"أهدرت إسرائيل سنوات عديدة في مداولات عقيمة حول إيجاد حلّ تكنولوجي لمشكلة صواريخ القسّام التي تسقط على سديروت وعلى النقب الغربي... ويفضل عدم إيهام سكان إسرائيل بوعود فارغة. حتى لو وقعت معجزة واتخذ قرار بشأن الحل التكنولوجي اللائق فالحديث يدور عن سنتين- ثلاث سنوات حتى تظهر براعمه الأولى.
"هناك مماطلة خطيرة أخرى في كل موضوع التحصين أمام صواريخ القسّام... إنجازات الجيش الإسرائيلي هي جزئية. ونتيجة لهذه الإخفاقات والمماطلة انحشر الجيش الإسرائيلي في الزاوية العملانية... بعد أن تركت إسرائيل محور فيلادلفي فقد اتسع نطاق تهريب السلاح إلى قطاع غزة. هذا التهريب يتيح لحماس إمكانيات عملانية إضافية، ولذا فإن اتساع مدى الصواريخ إلى الشمال من أشكلون هو مسألة وقت فقط".

أمّا الجنرال في الاحتياط والرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي (أمان)، شلومو غازيت، فقد كتب بدوره في "معاريف": "ما الذي ينبغي أن يحصل في قطاع غزة كي نتوصل إلى الاستنتاج الأليم بأننا استنفدنا حتى النهاية محاولات استخدام القوة لحل الـمشكلة والسماح بانفصال حقيقي بين إسرائيل وبين مليون ونصف الـمليون فلسطيني من سكان القطاع؟ وليس في هذا أي شيء ذي صلة بحملة فك الارتباط التي استكملت قبل أكثر من سنة. وسواء أيّدنا الحملة أم عارضناها أم تحفظنا عليها، فلا يوجد أحد يقترح العودة وإنشاء مستوطنات إسرائيلية جديدة. فما جرى لن يعود. علينا أن نقدّم حلا للـمشكلة القائمة وللـميول الأمنية الـمتوقعة في الـمستقبل الـمنظور".

وأوصى غازيت كلاً من رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان العامة للجيش بأن يتم على الفور تشكيل فريق تفكير، وربما أكثر من فريق واحد، وأن يكلّف بفحص وعرض السياسة الـمناسبة في قطاع غزة. ومثل هذا الفحص ينبغي، في رأيه، أن يكون فحصا على الـمستوى السياسي- الإستراتيجي الأعلى، فحص لا يقيّد نفسه بالتكتيك الـمتبع في نطاق القطاع بل بجملة علاقاتنا مع الفلسطينيين، مع مصر، مع العالـم العربي، مع الساحة الدولية، وكذا بالطبع، النظر في الـمواقف السياسية والاجتماعية داخل إسرائيل، وذلك بعد أن أصبح الخيار الـمقترح على الـمجلس الوزاري المقلّص للشؤون السياسية والأمنية يتراوح أخيرًا بين الـمصادقة على توصيات جهاز الأمن وبين عدم فعل شيء، لا أكثر.

ويمكن بالطبع إيراد العديد من مثل هذه الشواهد، التي تقدّم ببريق أخّاذ بعض الخلفيات الواقفة خلف موافقة إسرائيل على اتفاق الهدنة.

في ضوء ذلك ليس من المبالغة القول إنّ الهدوء الظاهر سيبقى، في حالة صموده، مترافقًا مع الشكّ الباطن.

وبربط ذلك مع شبه الإجماع، الذي أشرنا إليه فيما سبق، والذي عبّرت عنه "هآرتس" في مقالها الافتتاحي يوم 27/11 بالقول "من ناحية إسرائيل ثمة خطر معيّن في الاتفاق، الذي تحت حمايته ستحظى حماس ومنظمات إرهابية أخرى باستراحة من الضغط الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي، ويكون في مقدورها بالتالي أن تعزّز قوتها بالسلاح المهرّب"، فإنّ احتمال أن تستغلّ إسرائيل هذا الهدوء للاستعداد للجولة المقبلة يظلّ الأقوى من بين سائر الاحتمالات، إذا ما وضعنا في الاعتبار أيضًا أنّ هذا الاستعداد هو أحد مستحقات النتائج الكئيبة للحرب على لبنان، والتي منذ أن وضعت أوزارها ثمة انهماك غير مسبوق بالبحث عن أجوبة وبدائل عسكرية تترك مجالاً كبيرًا للانطباع بأنّ هذا "الهدوء" قد يكون من ذلك الصنف الذي يسبق... الاشتعال القادم.

التعليقات