البروفيسور يهودا شنهاف: "اليسار الحقيقي مجبر على مواجهة آثار حرب 1948"

لقاء مع البروفيسور يهودا شنهاف، حول اليسار في إسرائيل والحلول السياسية المستقبلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي

البروفيسور يهودا شنهاف:

"لا يجب أن يقتصر الطموح السياسي على أن يكون عرب ال48 مواطنين متساويي الحقوق، يجب النظر إليهم كشريك في المفاوضات على تأسيس نظام سياسي عادل"

"التناقض هنا هو في أنّ "اليمين" يفهم أكثر من "اليسار" أن مسألة 1948 هي القصة الحقيقية"

"مفهوم السيادة يفسّر كسيطرة على منطقة جغرافية وتشكيل هوية قومية واحدة داخلها، هذه معادلة غير فعّالة ولا تجلب إلا العنف، إنه نموذج سيادي من القرن السابع عشر، هذا لم يعد يعمل بعد. المساحة بين البحر ونهر الأردن لن تنتج كيانين سياسيين وجغرافيين منفصلين، بدل ذلك يجب أن تكون هناك سيادات متداخلة ومتقاطعة ومشتركة".

عرب ٤٨ وفصل المقال

أجرى الحوار: إياد برغوثي 


لا يكتفي البروفيسور يهودا شنهاف، عالم الاجتماع البارز، العراقي الأصل، بالتغريد خارج السرب الأكاديمي الإسرائيلي، ولا بتوجيه أسهم نقده الفكريّ والسياسيّ للنخب المهيّمنة على الواقع اليهودي الإسرائيلي وتفكيك خطابه الكولونيالي، بل يبحث عن آفاق حلول بديلة ومبدعة للصراع تحرّر الفلسطينيّين واليهود من "مصيدة الخطّ الأخطر" بحسب تعبيره، لا يريد الفصل بين الشعبين ويتمسّك بالحق في صياغة الهوية القومية والثقافية لكل مجموعة، فشنهاف غير مقتنع بجدوى التقسيم الأفقي للسيادة السياسية على الأرض التي يعيش عليها الشعبان، وهو يرفض أصلاً اعتبار عام 1967 لحظة الصفر للصراع بل يعود إلى "لحظة التطهير العرقي وفرض السيادة اليهودية الحصرية على البلاد"، إلى العام 1948 الذي يعتبره جذر الصراع وأساس الحلّ. 

حول رؤيته للحلّ، وحول فهمه الخاص لحال اليسار في إسرائيل، تحاورنا.  

دعنا نبدأ بالتعريفات، كيف تعرّف اليسار في إسرائيل؟ 

هذا سؤال تتغيّر الإجابة عليه دومًا، حيث لا يوجد تعريف واحد لليسار، هناك طبعًا اليسار الصهيوني الذي يكذب على نفسه لأنه لا يستطيع تطبيق مبادئ العدالة السياسية في الدولة اليهودية، لكننا نتفق جميعًا أنّه يسار يدعي اليسارية. فمثلاً، عندما تطالب "ميرتس" بالمساواة وتصرّ في الوقت ذاته على الدولة اليهودية تكون مضطرة للاستغناء عن المساواة التامة.

لكن لا بدّ أنّك تستطيع تصنيف الأحزاب أو الحركات والشخصيات على محور اليسار واليمين، بناءً على معايير معينة، كيف تميّز انت؟       

في السياق السياسي (بخلاف الاقتصادي-السياسي) أميّز اليمين واليسار على أساس الموقف من مسألة 1948، من كونها مسألة محسومة أو مفتوحة. كل من يعتقد أنّها مسألة محسومة لا يمكن أن يكون يساريًا في إسرائيل، من لا يملك الاستعداد للعودة لمسألة 1948، والتعاطي مع الظلم الذي أحدثته هذه الحرب، بما في ذلك التطهير العرقي، لا يمكن أن يعرّف كيساري. اليسار الحقيقي مجبر على مواجهة آثار حرب 1948؛ هدم القرى ومصادرة الأرض والممتلكات، واللاجئين طبعًا.  كل من يرفض الاعتراف بكلّ هذا يخفي هيكلاً قومجيًا في الخزانة!

لهذا السبب أعتقد أن اليسار يمتحن من خلال موقفه من عرب ال48، بشكل عام يُعتقد أنّ كل من يريد دولتين لشعبين هو يساري، رأيي مخالفٌ لهذا الرأي، كل من يريد دولتين يطلب عمليًا من عرب ال48 التنازل عن حقوقهم القومية في دولة يهودية، كما يطلب في الوقت ذاته إخفاء مسألة 1948.

لا يجب أن يقتصر الطموح السياسي على أن يكون عرب ال48 مواطنين متساويي الحقوق، يجب النظر إليهم كشريك في المفاوضات على تأسيس نظام سياسي عادل، ولهذا يجب تعريفهم كمجموعة قومية. بالنسبة لي، هذا يشمل أيضًا حق العودة، رغم أنني أعتقد أنه لا يجب تصحيح غبن من خلال غبنٍ جديد، أي أن العودة لا يمكن أن تكون إلى الأماكن الأصلية في حال كونها مأهولة الآن، بل إلى أماكن بديلة مناسبة، هذه مسألة معقّدة ولا يمكننا هنا التوسّع فيها والنقاش حولها بالتفاصيل، لكن هناك تنظيمات بما ذلك تنظيمات يهودية مهتمة في هذا الشأن (حركة "زوخروت" مثلا).

التميّيز بين اليسار واليمين، عمومًا، يشمل معايير مثل الموقف من دور الدولة في الاقتصاد، وهناك من يدعي أنّ حركة "العمل" الصهيونية تحسب على اليسار كونها حملت فكرًا اشتراكيًا وأمّمت الاقتصاد عندما أسّست الدولة؟ 

اليسار الصهيوني لم يكن يومًا يسارًا مستقيمًا، الخطاب الاشتراكي للحركات اليهودية كانت غطاء للمفاهيم القومية، وقد أظهر العديد من الباحثين أنّ حركات العمل تاريخيًا كانت أكثر قومية منها إشتراكية، فعمليًا الاشتراكية كانت "اشتراكية من أجل بناء دولة يهودية"، حركة "هشومير هتسعير" التابعة  لـ"مبام" والتي اعتبرت حزبًا اشتراكيًا متطرفًا ابتلعت أراضٍ فلسطينية شاسعة، هذا لم يثنهم عن إقامة الكيبوتسات على أنقاض القرى الفلسطينية المهدّمة، هذا لم يعتبر تناقضًا في أوساط يساريي "مبام"، لم تشعر أغلبيتهم أن هناك مشكلة في هذا الموضوع (طالبتي في الدكتوراة أريج صباغ خوري تبحث في هذه الأيام موضوعة كيبوتسات "هشومير هتسعير" وتظهر هذا الجانب بشكل جلي). بهذا المعنى لا يمكن تعريف هذه الحركات كيسار، كان عليهم أن ينكروا مظالم حرب 1948 من أجل أن يعيشوا من أنفسهم بسلام. 

لقد حلّت حرب 1967 لقسم من اليسار الصهيوني هذه المشكلة، لأنها نقلت جذر الصراع من حرب 1948 إلى حرب 1967، الرواية المركزية لهذا "اليسار" (الذي يضمّ أكاديميين وحركات سياسية هامة مثل "جوش شالوم") هو أنّه في هذه الحرب انتهت الديمقراطية الإسرائيلية، كأنه كان هناك ديمقراطية حتى ذلك الحين وبعد الحرب تشوّهت. 

نحن نعرف جيدًا أنّه حتى عام 1967 لم تنعم إسرائيل بالديمقراطية، وأنّ عرب ال48 عاشوا تحت الحكم العسكري، والحقيقة أنّ الديمقراطية في إسرائيل قائمة ضمن قوانين الطوارئ إلى اليوم. لذا فإن "إنهاء الاحتلال" حسب منظومة 1967 لن يأتي بأي حلّ، يجب الاعتراف بمنظومة 1948 كمنظومة تفكير مركزي. التناقض هنا هو في أنّ اليمين يفهم أكثر من اليسار أن مسألة 1948 هي القصة الحقيقية. 

على فكرة، أن أعود إلى عام 48 كلحظة الصفر، رغم أنه بإمكاني أن أعود إلى الوراء أكثر، إلى وعد بلفور مثلاً، لكن عام 48 مهم لأنه في تلك اللحظة التاريخية أعلن عن سيادة يهودية حصرية بناء على نتائج هذه الحرب.

من الجدير بنا أن نتذكّر أمرًا آخر، نحن نستخدم شعار "دولتين لشعبين"، ربما كانت هذه المعادلة جيدة في عام 1947 لكنها فقدت معناها اليوم على أثر النسبة الجغرافية بين الدولتين المتوقعتين، لهذا أنا لا أؤيد حلّ الدولتين.

لكن أنت تعرف أنّ حلّ "دولتين لشعبين" هو الحلّ الذي ارتكزت عليه البرامج السياسية لليسار الإسرائيلي غير الصهيوني أيضًا؟ هل تعتقد أن هذا الحل لم يعد ذي صلة؟

هنا تكمن المشكلة، الأمر الأهمّ هو فهم أن حلّ الدولتين هو حلّ يسعى في أساسه لطمس مسألة 1948، إذا قامت دولتان على أساس إيجاد حل للظلم الذي أحدثته هذه الحرب فهذا شيء مبارك، لكني لا أعتقد أنّه بالإمكان "تربيع الدائرة"، يجب أن نفهم أن هذا الحلّ لم يعد ذي صلة وأنّ أغلب المجموعات المركزية في الصراع لا تقبله؛ لاجئو 1048 لن يقبلوه، عرب ال48 سيجدوا أنفسهم بسببه في دولة دون أن يكون لهم صوتًا قوميًا، ومن الجانب الآخر لا أرى أن هناك شخصًا يستطيع إخلاء نصف مليون مستوطن، أو ثلاثة مئة ألف مستوطن، أو حتى مئة ألف. دولة إسرائيل غير قادرة على فعل هذا، ولذا كل من يقول إن برنامجه السياسي يشمل إخلاء المستوطنات لا يعرف عن ماذا يتحدث. 

لكن طبعًا المشكلة المركزية في هذا الحلّ هو أنّه لن يحقّق العدالة السياسية، خصوصًا إذا نظرنا مجددًا على الموقف من عرب ال48 كمعيار لتصنيف الموقف السياسي، إن فكر الفصل عنصري بامتياز وغير فعّال لأن اليهود والفلسطينيين مختلطين ببعضهم البعض بشكل كبير.

لماذا، رغم انسداد الأفق السياسي واستمرار الصراع وتوسع الفجوات الاجتماعية، لا توجد حركة احتجاج اجتماعية حقيقية في إسرائيل؟ ما الذي أدى لأنّ يكون المجتمع الإسرائيلي المدني مجنّدًا بشكل شبه مطلق للنخبة الحاكمة العسكرية والاقتصادية والسياسية؟ 

هذا السؤال هام ومرتبط بما حاولت أن أقوله من قبل، ففي حين احتفل العالم في الستينيات ب"أولاد الورود" احتفلوا هنا بعربدات الجنرالات، العسكرانية في إسرائيل لا تقتصر على قوة الجيش، بل تشمل الإدراك الثقافي العام. لقد تحوّل الجيش إلى محطّ إعجاب حقيقي، لهذا لا توجد حاجة لقمع أي حركة احتجاج اجتماعي، لأنها مخصية مسبقًا. وعندما تقوم حركة احتجاج اجتماعي تعمل على تأكيد المبنى الاجتماعي ولا تعمل ضده.

مثلاً، انشغلت حركة الاحتجاج بعد حرب لبنان بسؤال "لماذا فشلنا؟"، وليس بسؤال "لماذا قمنا أصلا بهذه الحرب؟"، نفس الحالة في الاحتجاج من أجل إطلاق سراح جلعاد شليط، كلّ الخطاب هو عسكري بالمطلق ويؤكّد المنطلقات العسكرانية الأساسية. لا أحد يقترح إطلاق سراح أسرى إداريين بسبب الظلم الذي تعرّضوا بعدم محاكمتهم، بل يتمحوّر الحوار كلّه حول قدرة الدولة على محاربة الإرهاب. 

مسألة الشرقيين في إسرائيل أيضًا لم تتحوّل إلى حركة احتجاجية لأنّ الصهيونية هي أداة التضامن الاجتماعي الأساسية، والكثير من الشرقيين يفخرون فيها رغم كونها سبب الفروق الطبقية بينهم وبين الإشكناز. من الصعب أن تدفع حراك احتجاجي اجتماعي وسياسي حقيقي في ظلّ الإيدولوجية الصهيونية التي يرضعها اليهود في إسرائيل مع حليب الأم.

ماذا مع حركات التضامن السياسية مثل تلك الناشطة في الشيخ جرّاح والفوضويون ضد الجدار، إنها حركات احتجاج حتى وإن كانت محدودة شعبيًا؟

  أولاً، كل الاحترام لهذه الحركات، فهي هامة وتضمّ قيادات شابة كريزماتية ومدعاة للفخر، لكن يجب توسيع نشاطها لتتحوّل فعلاً إلى حركات احتجاج اجتماعي وسياسي واقتصادي لا تخضع لأولويات اليهود بالنسبة للعرب كما تفعل حركات اليسار الصهيوني.

يجب الانتباه إلى ظاهرة أخرى، المجموعات اليسارية غير الصهيونية أو ما بعد الصهيونية التي تناهض الاحتلال، في بلعين مثلاً، تقوم بعمل سياسي هام، لكن يجب أن ننتبه أنهم من خلال مواجهتها للاحتلال في مناطق الضفة الغربية وللمستوطنات إنما تتبنى منظومة 1967، فالمستوطنات في داخل الخط الأخضر، مثل نتيسرت عيليت أو المطلات في الجليل الموصدة أبوابها أمام العرب ليست أقلّ عنفًا.  

في كتابك الأخير "في مصيدة الخطّ الأخضر"، تحدّثت عن ضرورة الفكر السياسي الإبداعي الذي يفكّك خطاب زمن الخطّ الأخضر، ويقترح حلولاً على أساس زمن 1948، وهذا يطرح أسئلة حول واقعية الحلول المتعلقة بكلّ فلسطين التاريخية وإنشاء حيّز سياسي لليهود والفلسطينيين في ظلّ اندفاع جميع الأطراف المؤثّرة نحو الفصل؟ 

أعتقد أنّ الخطاب السياسيّ ملغوم، والألغام ما هي إلا مفاهيم سياسية أكل الدهر عليها وشرب، خذ مفهوم السيادة مثلاُ الذي يفسّر كسيطرة على منطقة جغرافية وتشكيل هوية قومية واحدة داخلها، هذه معادلة غير فعّالة ولا تجلب إلا العنف، هذا نموذج سيادي من القرن السابع عشر جاء في اتفاقيات صلح وستفاليا، هذا لم يعد يعمل بعد.

يجب التفكير في موديل سيادي ما بعد وستفالي، يطمح لتوزيع المناطق الجغرافية بشكل غير أفقي ودون تشكيل هوية وحدوية متخيلة. يمكن للفلسطينيين داخل الخطّ الأخضر تشكيل هويتهم القومية دون أن يعرّض هذا الأمر وجود اليهود للخطر. المساحة بين البحر ونهر الأردن لن تنتج كيانين سياسيين وجغرافيين منفصلين، بدل ذلك يجب أن تكون هناك سيادات متداخلة ومتقاطعة ومشتركة. 

أعتقد أنّ من يعارض هذا الحلّ هم النخب البيضاء الإشكنازية في إسرائيل، والتي تدير نظام الأراضي في الدولة، وتدعمه، يمكنك أن تجد بين هذه النخب ليس فقط عسكر ورجال دولة، بل صحفيين ومحامين وأكاديميين لا يجرؤون على التفكير في نظرية سياسية أخرى تجبرهم على الاستغناء عن أفضلياتهم. لذا من المثير تعقّب موقف المجموعتين الأساسيتين اللتين تتحداهم، وهم عرب ال48 والمستوطنين، قد يبدو الأمر غريبًا، لكن لهاتين المجموعتين مصلحة مشتركة في منع تقسيم البلاد وإيجاد حلول إبداعية، أنا شخصيًا غير مرعوب من فكرة عدم إخلاء أغلبية المستوطنات، في حال استعاد الفلسطينيون أرضهم لتحقيق العودة داخل الخطّ الأخضر، بشكل عادل، عندها يمكننا التفكير في إبقاء القسم الأكبر من المستوطنات مما سيتطلب إسكانًا مكثّفٌا للفلسطينيين وإقامة مدن جديدة.   

التفكير في هذا الحلّ يحتاج إلى جرأة فكرية وسياسية وإبداع فعليّ، يجب تغيير منظومة الأفكار السائدة لتغيير الواقع. 

التعليقات