سيّاح «الهاغناه»: حين تنكر المخبرون

كان يدخلون إلى القرى الفلسطينيّة متنكّرين بزيّ سيّاح ويحملون كاميرات تبدو كأنّها تبحث عن صورٍ تذكاريّة، وكانوا يدّعون أنّ رحلاتهم الجويّة هي مفاجأة „شهر العسل” أو اضطرارٌ طبيّ، لكنهم كانوا يجمعون كلّ المعلومات الممكنة عن القرى الفلسطينيّة استعدادًا لاحتلالها وتهجيرها

سيّاح «الهاغناه»: حين تنكر المخبرون

قرية القباب المهجرة قضاء الرملة من "ملفات القرى"

قرية القباب المهجرة قضاء الرملة من "ملفات القرى"


كان يدخلون إلى القرى الفلسطينيّة متنكّرين بزيّ سيّاح ويحملون كاميرات تبدو كأنّها تبحث عن صورٍ تذكاريّة، وكانوا يدّعون أنّ رحلاتهم الجويّة هي مفاجأة „شهر العسل” أو اضطرارٌ طبيّ، لكنهم كانوا يجمعون كلّ المعلومات الممكنة عن القرى الفلسطينيّة استعدادًا لاحتلالها وتهجيرها


عرب48 وفصل المقال
حسن عبد الحليم


ما كان يخطر على بال آبائنا وأجدادنا أنّ مجموعات السياح التي كانت تزور القرى الفلسطينية، وتتصرف بشكل يبدو عاديَا، ما هي إلا مجموعات مخبرين مهمتها جمع المعلومات عن القرى تمهيدا لإزالتها عن الوجود.

هذا ما كشفه تقرير إسرائيلي، نشر مؤخرًا، حول وحدات استخبارية لجمع المعلومات، كانت تنشط قبل النكبة، وتزور القرى الفلسطينية متنكرة لمجموعة سياح، ومهمتها الموكلة إليها جمع المعلومات عن القرى، والتقاط الصور، ورسم خريطة لكل قرية تشمل كافة المعلومات اللازمة لتخطيط حملة عسكرية عليها.

يشير تقرير نشرته صحيفة „هآرتس” إلى أنّ المعلومات التي كانت تجمعها تلك الوحدات، كونت ما سمي في أروقة استخبارات „الهاغاناه” بـ”ملفات القرى”، وشملت معلومات حول طبيعة القرية الطوبوغرافية، شوارعها وطرقاتها وأحيائها ومداخلها ومبانيها وآبار المياه فيها. وانضمت إليها في وقت لاحق وحدة تصوير جويّ نفّذت مهام تصوير القرى والمواقع الهامة تحت غطاء طلعات جوية تابعة لنادي طيران، وفي بعض الأحيان حازت على ترخيص من قوات الانتداب البريطاني على أنها طلعات جوية ذات طابع رومانسي، وفي حالات أخرى على أنها لأهداف طبية.

البداية: جولات مدرسيّة وفتيات التمويه ومخبرون عرب

بدأت فكرة إنشاء هذه الوحدات عام 1942، بمبادرات شخصية، ومن ثم أخذت طابعا رسميًا وأشرف عليها قسم التخطيط في القيادة العامة للـ „هاغاناه”، وبادر إلى تنظيم دورات تأهيل وتدريب للمجموعات. وبعد تعريف المهمة بشكل وتحديد المعطيات المطلوبة لإعداد ملف لكل قرية انطلقت المجموعات للقرى والتجمعات الفلسطينية.

نظمت الكثير من جولات عناصر الاستخبارات في القرى تحت غطاء جولات مدرسية لاكتشاف معالم البلاد. وضمت المجموعات في الكثير من الأحيان، إلى جانب المخبرين، سياح حقيقيين لا يعرفون شيئا عن طبيعة المهمة، وفي حالات أخرى ضمت فتيات يهوديات متطوعات لزيادة متانة التغطية وتمويه الأهداف الحقيقية. إلى جانب هذه المجموعات، وبالتوازي، عمل „جهاز المعلومات” („شاي”) التابع للـ”هاغاناة” على جمع معلومات استخبارية عن القرى بمساعدة مستعربين، ومخبرين عرب.

نظمت دورات لتأهيل وإعداد المخبرين. وبدأ العمل باستخدام مجندين في سلاح البرية، وكانت مهماتهم الأولى في منطقة بيسان قادها زربابيل وارمل (أربيل)، وهو من مستوطنة „معوز حاييم”، ومن المبادرين لإقامة المشروع الاستخباري في القرى العربية.
ويقول وارمل (أربيل): تساءلت، إذا ما وقعت الحرب، وكنا بحاجة لاحتلال هذه القرى، هل نعرف عنها شيئا؟ واضح أن الجواب لا”.

ويصف الجنرال موشي غرانتسكي (غورن)، من خريجي دورة التأهيل الأولى، كيف جلسوا ساعات طويلة على تلة تشرف على قرية الفريديس، وهي كما يشير، واحدة من أربعة قرى اختيرت كنموذج للقرى العربية، استخدمها المرشدون لتعريف طبيعة المهمات، والمعلومات المطلوبة عن كل قرية وكيفية الحصول عليها.

البحث عن التفاصيل

أعدت ملفات القرى لأهداف عملانية، وشمل ملف كل قرية، معلومات طوبوغرافية، وجغرافية، وتخطيطية، ومعلومات حول المباني المركزية في القرية، طرق الوصول، ومصادر المياه. وفي عام 1944 بدأ المخبرون بالتقاط صور فوتوغرافية للقرى وأحيائها ومحيطها.

جمع مخبرو هذا الجهاز معلومات تاريخية واجتماعية واقتصادية وديمغرافية وتعليمية وزراعية وعسكرية، وحول طبيعة كل قرية وتخطيطها وتركيبتها السكانية، وحمائلها وعائلاتها، ومعلومات عن مختار القرية وتوجهاته، وعن تماهي أهالي القرية مع الثورة، وعن أنواع الأسلحة الموجودة بيد سكان القرية وأعدادها، ومخابئ القرية وأماكنها، وإذا ما كان فيها مواقع أثرية تاريخية. واستخدمت هذه المعلومات لرسم صورة متكاملة لكل قرية وبلدة عربية، وخلال سنوات تجمعت لدى „الهاغاناه” معلومات واسعة حول جميع قرى ومدن وبلدات فلسطين.

كاميرا عادية!

ويقول أحد الضباط المشاركين: بما أن المجموعات كانت تدخل متنكرة كمجموعة سيّاح فإن استخدام آلة التصوير كان يبدو أمرًا عاديًا، حيث يعتبر حمل الكاميرا خلال الرحلة أمرًا طبيعيًا.
ويؤكد أن المخبرين كانت لديهم تعليمات بالامتناع عن التقاط صور لهم أو لزملائهم، وإذا ما كان يحصل ذلك لظروف ما طلب منهم، طمس معالم المخبر في الصورة.

„السطح”

كانت „ملفات القرى” تصل إلى مقر سري في مدينة تل أبيب، وهو مكتب تابع للهغاناة، يقع في طابق أرضي في إحدى بنايات شارع „مافو” في تل أبيب، وهناك تصنف وتؤرشف وترسل نسخ عنها إلى قيادات المناطق العسكرية. وللتمويه كتب على لافتة المكتب „مكتب المهندس مئير رابينوفيتش”، وكان المقر يعرف في الأوساط الاستخبارية الصهيونية بـالاسم السري „السطح”.

شهر عسل مخابراتي

في نهاية عام 1945 بدأت تلك الوحدات باستخدام التصوير الجوي للقرى والبلدات العربية، ولمواقع ذات أهمية إستراتيجية أو عملانية. وتم استصدار تراخيص للطلعات الجوية من سلطة الانتداب على أنها نشاط لنادي طيران تابع للوكالة اليهودية، وعرضت تلك الطلعات في طلب الترخيص على أنها معدة للأزواج، وتحمل طابعًا رومانسيًا. ويشير التقرير إلى أنّ مخبر ومخبرة كانا يعتليان الطائرة، بملابس أنيقة وفاخرة، توحي بأنهما في شهر عسل، وبعد أن تنطلق الطائرة، يبدآن بالتقاط الصور، كما استصدرت الوكالة تراخيص لطلعات جوية ذات طابع علاجي لمن يعانون من مرض الربو، وأرفق الطلب بتوصية من طبيب.

استخدمت هذه الوحدات الطائرات لتصوير القرى، وللالتفاف على قرار حظر الطيران الذي فرضه الانتداب البريطاني، استصدرت تراخيص لتحليق الطائرات تحت غطاء نادي طيران ورحلات جوية رومانسية، وابتكرت وسائل لإخفاء كاميرات التصوير في الطائرات، وكان للنساء أدوار مركزية في تنفيذ المهمات.

ملفات المدن

يشار إلى انه إلى جانب ملفات القرى، أعدت ملفات للأحياء العربية في المدن المختلطة، وملفات لأقسام الشرطة، وأخرى لمعسكرات الجيش البريطاني. واستخدمت هذه الملفات لتخطيط العمليات العسكرية، ولاحتلال قرى عربية قبل دخول متطوعي جيش الإنقاذ.

وكانت العمليات العسكرية التي شنت على القرى تهدف أحيانًا إلى الردع وأحيانا أخرى لمعاقبة القرية، ولكن في معظم الحالات كانت تهدف إلى احتلال القرية واقتلاع وتهجير أهلها. لكن قيمة هذه الملفات تلاشت في النصف الأول من عام 1948 حيث تطور أداء الجيش الإسرائيلي، وتطورت إمكاناته العسكرية، وأصبح بإمكانه توفير صور جوية لكافة المناطق.

أين الملفات؟
تحمل تلك الملفات أهمية تاريخية، وخاصة للقرى المهجرة، إلا أن ملف قرية رنتية هو من الملفات القليلة جدا التي تبقت. يتضح من التقرير أنّ قسما من ملفات القرى، فقد أثرها خلال حرب 1948، لكن الكثير منها أتلف في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. ويقول الضابط „حيليك ليبل” الذي عمل ضابطا في الاستخبارات في سنوات الخمسين، وكان مسؤولا عن تلك الملفات: „بعد قيام الدولة، واصلنا إعداد الملفات لقرى ومدن الضفة الغربية، ولكن باستخدام آليات أكثر تطورًا، لم ندرك قيمة الملفات القديمة التاريخية فأبدناها من خلال إضرام النار فيها”.

المصور المستعرب
ترد في سياق التقرير، قصة عميل لقسم المعلومات „شاي” ، تنكر لمصور صحفي عربي، وقضى ستة شهور مع الثوار الفلسطينيين، ووثق بآلة التصوير بآلة التصوير نشاطاتهم وتحركاتهم، وأسلحتهم وتدريباتهم.

وحسب التقرير، كان العميل يسرائيل نتاح، المصور المستعرب الأول. ترعرع في دمشق، والتحق بعصابات الهاغناة عام 1935، وأرسل عام 1947 إلى مناطق الثوار متنكرا لمصور صحفي عربي.
وينقل معد التقرير عن نتاح الذي التقاه قبل وفاته عام 2008 قوله: „جمعنا معلومات عن الأسلحة التي بحوزتهم وعن خططهم العسكرية”، ويوضح أنّه قدم نفسه للثوار على أنه مصور لصحيفتي „فلسطين” و”اليوم”، وقضى معهم خمسة شهور، التقط خلالها صورا للثورا وأسلحتهم، وانتشارهم خلال المعارك، واستعداداتهم.

وكان نتاح يرسل الصور لقسم المعلومات في الهاجاناة، الذي كان يغطي عليه بإرسال قسم من الصور لنشرها في صحف عربية.
ويدعي نتاح أنه التقط آخر صورة للشهيد لعبد القادر الحسيني، ومعارك القسطل، كذلك صورًا للشهيد حسن سلامة.
ملــف قـــريـــة
قرية رنتية (قضاء يافا)
يورد التقرير بعض المعلومات من ملف قرية رنتية المهجرة (قضاء يافا)، وحسب الملف، تأسست القرية قبل 600 عام، وتبعد كيلومترًا واحدا عن طريق اللد- بيتاح تكفا (الملبسة)، وتبعد كيلومترا واحدًا غرب سكة القطار. في القرية بئر واحد، تنتشل نساء القرية الماء منه عن طريق مضخة وضعتها الحكومة البريطانية.
بيوت القرية ثلاثة أنواع: بيوت من الأسمنت والحديد المسلح، بيوت من حجارة وخشب وقرميد، ومن حجارة وطين (وهي قليلة جدًا).

تمتلك القرية 4500 دنم أراضي زراعية، منها 550 دونمًا مزروعة بالحمضيات، و100 دونمٍ مزروعة بكروم العنب والزيتون، وباقي الأراضي بمزروعات مختلفة.
المنتوج الزراعي جيد بشكل عام، عدد السكان 650 من بينهم حوالي 140 ملاكًا. „الأفندية” (الإقطاعيون) ليس لهم ممتلكات بالقرية. تتألف القرية من حمولتين، والعلاقات بينهما جيدة. في القرية بقالة واحدة بسيطة ولا يوجد مقهى، وفيها مسجد واحد وضعه جيد ونظيف جدًا، ومدرسة يعلم فيها معلم واحد.

عدد الطلاب في المدرسة حوالي 50 طالبًا من كافة الأجيال. يوجد في القرية 150 عاملا ولا يوجد موظفين في مؤسسات الحكم البريطانية، في أحداث 1936-1939 توقفت بعض أعمال الزراعة كالخضروات، وقتل شخص واحد من القرية في طريق راس العين.

التعليقات