زيارة قصيرة إلى "روتشيلد"/ إياد البرغوثي

مشينا من بداية جادة “روتشيلد”، عند تقاطعها مع شارع “اللنبي” المركزي، حتى وصلنا إلى زاوية شارع “هحشمونئيم” حيث خيمة “1948”، رافقني صديق من الناصرة يعمل مديرًا لموقع إنترنت صحيّ في اللّغة العربيّة ويسكن على هامش هذه الجادة

زيارة قصيرة إلى

مشينا من بداية جادة “روتشيلد”، عند تقاطعها مع شارع “اللنبي” المركزي، حتى وصلنا إلى زاوية شارع “هحشمونئيم” حيث خيمة “1948”، رافقني صديق من الناصرة يعمل مديرًا لموقع إنترنت صحيّ في اللّغة العربيّة ويسكن على هامش هذه الجادة التي تحوّلت من مركز الحياة البرجوازية في المدينة العبريّة إلى مخيم احتجاجي شهير هذا الصيف، “كان عليك أن تمشي هنا قبل أسبوعين، كان من الصعب أن تتحرك من كثر الناس، أما الآن انظر، يمكنك أن تجري سباق خيول هنا!”، “متى اختفت الجماهير؟” سألته، “بعد عملية إيلات”، أجابني ببساطة.
كانت الخيام الموزّعة على طرفي الجادة شبه خالية من المحتجين، مجموعات صغيرة تجلس هنا وهناك على كنبات عتيقة أخرجت ربما من بيوت المستأجرين الغاضبين على أسعار البيوت الباهظة، ترى بين الحين والآخر محروم بيت حقيقي ذي لحية شعثاء وبشرة مغبّرة ينام على كرتونة كبيرة بين خيمتين، مجموعات صغيرة تجلس بجانب خيم “القضايا” تتحاور، ومجموعات أخرى تعزف على الجيتارة وتغني بالعبرية، “إنه مهرجان بومبوميلا التل أبيبي وليس احتجاجًا غاضبًا” علّق مرافقي.
تأمّلت الشعارات التي علقت على الخيام تطالب بالعدالة الاجتماعية وحق المسكن وتستهزئ بإبداع من “بيبي”، كما تطالب بحقوق العاملين الاجتماعيين والمختصين بعلم النفس والأطباء والآباء المحرومين من أبنائهم، وحتى بالرفق بالحيوان، أعلام إسرائيل الصغيرة والكبيرة عُلّقت أيضًا على الخيام وطغى لونها الأبيض والأزرق على غالبية الشعارات.
وصلنا خيمة 1948، تجمهّر أمامها أكثر من عشرين شخصًا جلسوا تحت شعارٍ علّق على سلك في الهواء: “ثورة في الوعي”، كان أكبر تجمهّر على مسار الجادة كلها، كانت حلقة النقاش التي دعت إليها مجموعة “بلاد أهلها” قد بدأ، فهمت أنّ جهاز تكبير الصوت قد تعطّل فاضطروا أن يستخدموا “ميجافون” (مكبّر الصوت الخاص بالمظاهرات)، كان من الصعب سماع المتحدثين لرداءة الصوت وضجيج الحافلات والدراجات النارية المارة، لكن النقاش كان مثيرًا ويستحق الاقتراب والتركيز.
كانت المجموعة تناقش مع الجمهور مبادرتها لطرح وثيقة تطالب بحيّز سياسي مشترك للفلسطينيين واليهود على كلّ فلسطين التاريخية، وتحدّث المتداخلون عن فشل مشروع الدولتين وعدم إمكانية الفصل بين القوميتين وضرورة الاعتراف بالظلم التاريخي.
بعد دقائق قليلة من استلام محمد الجبالي، الناشط السياسي في يافا وأحد المبادرين الأوائل لهذه الخيمة، لمكبّر الصوت، وحديثه عن ضرورة تجاوز الفصل العنصري، وبينما كان يشرح رفضه للإيديولوجية الصهيونية صرخ شاب في منتصف الثلاثينيات من عمره “أ.ب يهوشوع قال إن الصهيونية ليست إيديولوجية، كفى تتحدثوا عن السياسة، إنكم تدمرون الاحتجاج، لقد قلنا لا نريد سياسة هنا، انظروا الناس ترحل، تترك الخيام، أنتم تبعدون الجمهور”، بدأ جمهور النقاش بالردّ عليه ومنهم من استغرب اقتباسه “النبوي” من يهوشوع، لكن شخصًا آخر أكبر منه سنًا يلبس فانيلا بيضاء وعقدًا ذهبيًا ثخينًا ونجمة داود “هذه الخيمة تؤذي الاحتجاج، أنتم تأتون هنا لتدميرنا، لا تبيتون معنا، تريدون فقط أن تبثوا دعايتكم للرأي العام!”.
لم تكن محاولة القمع هذه، برأي الناشط اليساري والكاتب القصصي أوري كينان، غريبة البتّة فهي تمثّل إصرار قيادات الاحتجاج المتنّفذة على فصل السياسي عن الاجتماعي وربط الاجتماعي بالاقتصادي فقط، متوهمين أنّ هذا الفصل يمكّنهم من إضفاء طابع “نظيف” على الاحتجاج، “فالسياسة في إسرائيل كلمة قذرة ومنفرة”، ويرى كينان أنّ هذا الناشط، وهو نشيط فعلا منذ بدء الاحتجاجات، يشعر بالضغط بسبب التراجع الواضح لمشاركة الجمهور وتضامنه مع الاحتجاج منذ عملية إيلات، ولا يريد أن يكون هو آخر “من يغلق البسطة”.
تحدّثت مع محمد الجبالي بعد نهاية النقاش، كان منهكًا ومستاءً بعض الشيء، قال “لقد غيّرت عملية إيلات كلّ شيء، كانت هنا تحركات جدية لم يتطرق لها الإعلام الإسرائيلي بتاتًا، كان الحراك متعدد البؤر ولم يقتصر على الوجوه التي أحبها الإعلام وقابلها على الدوام، هناك مجموعات يسارية راديكالية وهامشية اتخذّت دورًا قياديًا مركزيًا من وراء الكواليس خلال الاحتجاجات لكنها غيّبت إعلاميًا، لقد نشأت فجوة جدية بين هذه المجموعات وقيادة الاحتجاج التي تمأسست وأغلقت أبوابها، خصوصًا بعد إلغائها للمسيرة بعد عملية إيلات، فقامت المجموعات اليسارية بالأساس بمسيرة شارك فيها آلاف الناشطين تركّزت في رسائل ضد الحرب بالأساس، الإعلام يخفي الكثير من الوجوه والنشاطات ويختار ما يمثّل الإجماع الصهيوني فقط”.
بعد أن تنهّد، أضاف “السبت القادم هو ما سيقرّر مصير الخيام، إن نجحوا في تجنيد مئة ألف مشارك في المظاهرة سيتلقون دفعة مشجعة قد تعيد لهم الحياة والزخم ويعيد خطاب الحقوق الاجتماعية بعدما رماها خطاب الولاء الأمني بعيدًا، المهم بالنسبة لي أن تنجح مسيرة يافا لأنّ احتجاجنا الخاص كفلسطينيين يجب أن يقوى لأنّ لدينا الكثير على ما نحتج كأصحاب وطن مظلومين في كلّ مناحي الحياة، ولأنّ يافا حقًا تتعرّض لمخطط تهجير خطير”.

“دورنا ليس معهم أو ضدهم” يقول الجبالي، “فقد كنا بخيم الاعتصام ضد هدم البيوت وبالمظاهرات ضد مصادرة الأرض والتهويد قبل روتشيلد، وسنبقى نناضل بعد أن يعود آخر واحد منهم إلى بيته. يهمني جدًا أن أعرف ما سينتج من منتدى الحراك الشبابي الفلسطيني في اللد السبت القادم حول تحركات شبابية لتصعيد النضال فلسطيني في الداخل مع أو بدون علاقة بخيم روتشيلد”.
دان جولدنبلاط، أحد الناشطين المركزيين في مبادرة “بلاد أهلها” يشخّص هو الآخر تراجع مشاهد الاحتجاج، لكنه متفائل من مستقبلها، فالخيام برأيه لن تبقى للأبد، لكنها أيقظت برأيه قطاعات واسعة من سبات الخمول السياسي والخنوع للحكومة وفتحت عيون الناس على المظالم، وخلقت شبكات ناشطين حول قضايا عديدة ستستمر في نضالها بعد إزالة الخيام.
تركنا، أنا ومرافقي الخيمة، وعدنا أدراجنا نتحدث عن سذاجة التفاؤل وقسوة التشاؤم ونناقش معضلة المشاركة، تذكرت حينها أن أسأله لماذا لم يشارك في الاحتجاجات القريبة من بيته، “لأني لن أستطيع أن أعلّق علم فلسطين وحطة على الخيمة” أجابني.

 

التعليقات