الإعلام الإسرائيلي ابن مشروع السياسة/ حسن عبد الحليم

بعد عام 2000 وانهيار محادثات التسوية، واندلاع الانتفاضة الثانية (والهبة التي رافقتها داخل الخط الأخضر)، بدأت حالة من النزوح الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي من المركز واليسار نحو اليمين، وبدأ التطرف يجتاح المجتمع الإسرائيلي الذي نشهد ذروته اليوم. لم يقف الإعلام الإسرائيلي في وجه موجة التطرف العاتية بل انساق معها أو ربما ساهم في دفعها، لنشهد اليوم مجتمعاً متطرفاً وإعلاماً متطرفا يمعن في الإنكار لرواية الآخر وصل إلى توبيخ المسؤولين عن إذاعة الجيش لاستخدامهم في بعض الأحيان مصطلح "الضفة الغربية" وإجبارهم على استخدام مصطلح "يهودا والسامرة" (نهاية عام 2011 ).

الإعلام الإسرائيلي ابن مشروع السياسة/ حسن عبد الحليم

 

لا يمكن فصل الصحافة الإسرائيلية عن المزاج العام في الشارع الإسرائيلي، فهي تتأثر به وتؤثر فيه، وبالتالي تصبح المرآة للرأي العام.  وفي الوقت ذاته لا يمكن إغفال أن الصحافة الإسرائيلية هي صحافة ناقدة وحرة في الأيام العادية، ولكنها في الأزمات والحروب تتحول إلى ناطق عسكري وتصطبغ بلون واحد، وتبدأ في النفخ بأبواق الحرب وتكرس نفسها لخدمتها. ولكنها، وعند أولى بوادر للفشل، تنقلب على صنّاع الحرب وتكشف عن أنيابها، ولا تتورع عن توجيه انتقادات شديدة، لا للحرب أو أهدافها أو مدى شرعيتها، بل لكونها لم تنجز المطلوب منها كما حدث في العدوان على لبنان مثلا.
 
وكي لا نقع في خطأ المقارنة مع صحافة أية دولة أخرى، فإن إسرائيل ليست كأي دولة أخرى، فهي قامت على أنقاض شعب آخر وأقامت كيانا سياسيا احتلاليا- بل يمكن وصفه بالاستعماري الإحلالي، لهذا فنحن أمام حالة فريدة.  ويمكن القول إن أدق تشخيص ربما لحالة هذا الإعلام هو أنه إعلام  "قبلي" نحو الخارج (بما في ذلك حتى الفلسطينيين داخل الخط الأخضر)، وحر، ناقد، وجريء في الداخل (الإسرائيلي) بشكل يتناقض مع وصفه الأول بالقبلي. وقلما شهدنا اختلافات في التوجهات خلال الأزمات بين وسائل الإعلام المختلفة التي تتجند جميعها لخدمة الأمن القومي، وإن ظهرت اختلافات (الأزمة المفتعلة مع إيران مثلا) فهي تعكس اختلافا في الرؤية للمصلحة الصهيونية  وللأمن القومي، ولا يدخل الآخر أو معاناته في حساباتها.
 
بعد عام 2000  وانهيار محادثات التسوية، واندلاع الانتفاضة الثانية (والهبة التي رافقتها داخل الخط الأخضر)، بدأت حالة من النزوح الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي من المركز واليسار نحو اليمين،  وبدأ التطرف يجتاح المجتمع الإسرائيلي الذي نشهد ذروته اليوم. لم يقف الإعلام الإسرائيلي في وجه موجة التطرف العاتية بل انساق معها أو ربما ساهم في دفعها، لنشهد اليوم مجتمعاً متطرفاً وإعلاماً متطرفا يمعن في الإنكار لرواية الآخر وصل إلى توبيخ المسؤولين عن إذاعة الجيش لاستخدامهم  في بعض الأحيان مصطلح  "الضفة الغربية"  وإجبارهم على استخدام مصطلح "يهودا والسامرة" (نهاية عام 2011 ).
 
التصعيد  الأخير ضد قطاع غزة
إذا نظرنا لسلوك الإعلام الإسرائيلي في الأزمة الأخيرة، أعني العدوان الأخير على قطاع غزة (آذار 2012)، سنخرج باستنتاج أن عقلية الغطرسة والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني هي السمة الطاغية، وأن هذا الإعلام يتجند بالكامل في الأزمات لخدمة الآلة الحربية.
 
التصعيد في غزة كما هو معروف باغتيال الأمين العام للجان المقاومة الشعبية، الشيخ زهير القيسي وأحد رفاقه، وسائل الإعلام الإسرائيلية أوردت نبأ الاغتيال  كإنجاز للمؤسسة الأمنية. لم تَلقَ عملية الاغتيال أي نقد حتى لو كان خجولا، ولم  يحمل الإعلام الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عن التصعيد، بل لمن رد على العدوان أي للجانب الفلسطيني. وفي الساعات التي تلت الاغتيال أصبح كل قصف إسرائيلي، وكل عملية قتل هي رداً على قصف القذائف الصاروخية، وتبنى الإعلام بالكامل رواية الناطق العسكري. ويمكننا أن نرى في عناوين الصحف والمواقع الإسرائيلية عناوين كـ "تصفية مخرب"،  "قصف خلية إطلاق صواريخ"، "تصفية مخرب كان يعتزم إطلاق صاروخ"، "قصف مخزن للصواريخ"، أو العنوان الذي تكرر مرارا: "تتواصل الاعتداءات الفلسطينية على الأراضي الإسرائيلية بالقذائف الصاروخية!".
 
هذا التوجه الإعلامي يعني "شيطنة الآخر" وتجريده من إنسانيته، ووصفه بأنه "إرهابي مخرب" ، وبالتالي هو يستحق الموت دون أي وازع إنساني، لكن في المقابل، لا تتورع وسائل الإعلام تلك عن فتح صفحاتها وشاشاتها وأثيرها على مصراعيها لتغطية "أضرار" القذائف الصاروخية وحالة الرعب لدى الجمهور، وترسل طواقمها إلى المنطقة التي تعرضت للقصف، لإجراء مقابلات "إنسانية" مع السكان ونقل "معاناتهم"، وتمنح وقت بثٍ ثمينا لعائلة سقطت قذيفة صاروخية على بعد مئات الأمتار من منزلها، دون أن توقع ضحايا أو إصابات، وتركز على لوح زجاج مكسور في مستوطنة، ولا تعير أي انتباه لحجم الدمار الذي تزرعه آلة الحرب في الجهة المقابلة ولا لضحاياه.
 
  ولا يتورع كتاب الأعمدة، والمحللين السياسيين، عن توجيه النصح للآلة العسكرية لأداء المهمة بشكل أفضل، أو لتقديم أفكار حول استمرار أو تصعيد الحملة،  ووصل الأمر  بكبير المحللين السياسيين في صحيفة "معاريف" بن كاسبيت إلى مطالبة الحكومة باجتياح قطاع غزة، وتنفيذ وعدها الانتخابي بتقويض النظام السياسي في قطاع غزة.  وبعد انتهاء جولة التصعيد، انشغل المعلقون الإسرائيليون في الخوض في ميزان الربح والخسارة من العدوان.
 
العدوان على قطاع غزة 2008-2009
سنورد بشكل مفصل أداء الإعلامي الإسرائيلي خلال العدوان على قطاع غزة 2008-2009 مستعينا ببحث كنت قد أجريته في تلك الحقبة، وما يصح على تلك الحرب يصح أيضا على العدوان على لبنان عام 2006 وأيضا على موجات العدوان المتكررة على قطاع غزة بعد ذلك.
 
شهدت نهاية عام 2008 عدة عمليات قصف، وموجة اغتيالات طالت مقاومين فلسطينيين، وردت عليها فصائل المقاومة برشقات من القذائف الصاروخية، ولعب الإعلام  الإسرائيلي في تلك الفترة دوراً مركزياً في قرع طبول الحرب، والتمهيد لها والدفع باتجاهها، وطوال شهور سبقت العدوان، ركز بشكل مكثف على "خطر الصواريخ" من قطاع غزة، بل ووجه دعوات مباشرة للحكومة لوقفها.
 
 لقد تجاهلت الصحافة الإسرائيلية طوال الشهور التي سبقت الحرب على غزة، وجود إسرائيل كقوة احتلال، كما تجاهلت الحصار البري والبحري والجوي الذي تفرضه على غزة، وتجاهلت الاعتداءات الإسرائيلية. وكانت تركز على الصواريخ التي تنطلق من هناك، وتجري مقابلات مع السكان في المنطقة التي وقعت فيها الصواريخ، والمصابين والمتضررين، وتركز على لوح زجاج مكسور في مستوطنة إسرائيلية أكثر من موت عشرات المرضى الذين قضوا بسبب الحصار.
 
قبل الحرب
قبل اندلاع الحرب، انقسم كتاب الأعمدة في الصحف الثلاث الرئيسية ( هآرتس، يديعوت أحرونوت ومعاريف) بين من يؤيد تمديد التهدئة، ومن يدعو إلى استئصال حماس من قطاع غزة.  وبرزت حينذاك افتتاحيات صحيفة "هآرتس" في الأسابيع الأخيرة التي سبقت الحرب بدعواتها إلى تمديد التهدئة، إلا أنها انقلبت قبل أيام من اندلاع الحرب وبدأت تدفع باتجاهها (باتجاه الحرب).
 
ففي 25-12-2008 جاءت افتتاحية "هآرتس" تحت عنوان "لا يمكن الاستمرار هكذا". وجاء فيها: "لا توجد حكومة، حتى لو كان وزراؤها في أوج المعركة الانتخابية، يمكنها قبول هذا الوضع طويلا". في حين كانت عناوين صحيفتي "معاريف" و"يديعوت" في الأيام التي سبقتها تدفعان باتجاه الحرب.
 
وهنا أمثلة للعناوين الرئيسية لصحيفتي معاريف ويديعوت أحرونوت في الأيام التي سبقت الحرب:
21-12-2008
معاريف:" نهاية التهدئة- 43 صاروخ قسام وقذيفة هاون تسقط في نهاية الأسبوع
يديعوت أحرونوت: "فخ غزة - شن عملية عسكرية أم التحلي برباطة الجأش؟"
 
22-12-2008
معاريف: "حماس تستغل الشلل السياسي. لدى حماس قذائف صاروخية قادرة على الوصول إلى منطقة كيريات غات وأشدود وحتى إلى ضواحي بئر السبع."
 
يديعوت أحرونوت: "واحد من كل 8 إسرائيليين معرض لإطلاق الصواريخ والآن أصبح الأمر معروفا، فباستطاعة حماس ضرب أهداف في بئر السبع."
 
وكان كتاب الأعمدة والمعلقين في معاريف ويديعوت أحرونوت يضعون خطط الحرب ويحددون أهدافها، ويتباكون على قدرة الردع الإسرائيلية، ويبررون الحرب ويدفعون باتجاهها.
 
وسرعان ما بدأت الحرب على قطاع غزة، فرحبت الصحف الإسرائيلية وكتاب الأعمدة في الحرب وهللوا لها، وباستثناء قلائل من المعلقين المحسوبين على اليسار الإسرائيلي (وهم قلة، ذات تأثير محدود. من أشهرهم: غدعون ليفي، وعميرا هس في صحيفة هآرتس).
 
وقد استقبل كبار المعلقين الحرب على القطاع بالتأييد وتقديم النصائح لصناع القرار حول كيفية مواصلتها، وأبرزوا "معاناة" السكان في البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع متعاملين مع الشهداء الفلسطينيين كأرقام فقط، بل إنجازات للحرب.
 
وكتب كبير المعلقين في "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع أن العملية جاءت متأخرة بعض الشيء "لكن أن تتأخر أفضل من أن لا تأتي أبداً".  وأضاف: "إن هذه العملية كان يجب أن تحصل إزاء الضرر المتواصل لقدرات الردع الإسرائيلية؛ إذ إن دولة تخشى معالجة حماس لا يمكنها أن تردع إيران، أو تحافظ على مصالحها أمام سوريا ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية".
 
وكتب المعلق العسكري "اليكس فيشمان" أن أكثر ما سيؤثر على حجم العملية ونجاحها، هو طول النفَس للجبهة الداخلية (للسكان)، لا القدرات العالية للجيش، ولا الضغط الدولي أو الأخطاء التي ستحصل خلال العملية.
 
وأضاف أن عملية "الرصاص المصبوب" هي امتحان للقدرة على القيادة، وللقدرة على تلقي الضربات وامتصاصها، وقدرة المجتمع الإسرائيلي وقيادته على المثابرة.
 
وكتب يوسي فارتر في "هآرتس" : إن بداية العملية تحمل بصمات باراك المتحايلة والمضللة، هذا الرجل الأكثر تقلدا للأوسمة العسكرية. هذا لا يعني أنه الأنسب ليكون رئيس الحكومة لكن من شأن ذلك (العملية) أن ينقذه وينقذ حزبه من التحطم المهين الذي تتوقعه استطلاعات الرأي.  ربما أيضاً ظهور باراك في البرنامج التلفزيوني الساخر كان جزءاً من حملة تضليل حماس التي اعتقدت أنه إذا كان لدى وزير الأمن الإسرائيلي وقت للسخافات فإن الهجوم ليس وشيكاً.
 
من جهته كتب "عوفر شيلح" في "معاريف" أنه من حيث الحجم وقوته الكاسحة يلتقي الهجوم على القطاع مع رد الفعل في لبنان على الهجوم في صيف العام 2006.  ليوضح "عقيدة الدفاع الجديدة لإسرائيل": أمام أعداء يتبعون إستراتيجية استنزاف وإطلاق نار عن بعد، تبدو إسرائيل كـ"دولة مجنونة" ترد بعملية عسكرية كبيرة ووحشية، من دون أن تتناسب مع عدد المصابين في صفوفها.  كان هذا محصورا في الماضي في الدول العظمى، لكن في عالم تدعم فيه القوة الأعظم كل خطوة إسرائيلية (على الأقل طالما لم تتبدل الإدارة) فيما سائر الدول العظمى لم تبلور موقفا لها، فإن العمليات الإسرائيلية تسير بلا تشويش.  الهجوم أمس كان مبرراً وسجل نجاحاً عملانياً. وسيكون الاختبار الحقيقي في كيفية استغلال هذا النجاح في الأيام القريبة، سواء لمواصلة القتال الناجع أو لتثبيت وضع مناسب لإنهائه.
 
 
خلال الحرب
تجاهل الإعلام الإسرائيلي خلال أيام الحرب الأولى الموت في الجانب الآخر، وتعامل مع الشهداء على أنهم جزء من إنجازات الحرب.
 
ولم تعرض محطات التلفزة، ولم تنقل الصحف صور الأطفال والنساء الذين طالهم القصف الإسرائيلي وكذلك صور الدم والدمار في قطاع غزة. ولم تفرد حيزا لمعاناة الآخر.
 
القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي، الأكثر مشاهدة في أوساط الجمهور الإسرائيلي، كانت تركز على القصف الصاروخي على البلدات الإسرائيلية وآثاره، وتتجاهل المجازر في الجانب الآخر. وانشغلت بإجراء لقاءات مع من أصيبوا بحالات الهلع في الجانب الإسرائيلي، متجاهلة المجازر وقصف المدنيين في قطاع غزة.  وكان هذا نهج محطات التلفزة الأخرى والصحف.
 
وذهب المعلق في صحيفة «يديعوت أحرونوت» إيتان هابر (مدير مكتب رئيس الوزراء السابق إسحق رابين ) أبعد من ذلك معتبرا أن الحرب هي "حرب وجود".
 
فضلا عن ذلك، فرضت الرقابة الإسرائيلية تعتيما كاملا على مجريات العمليات العسكرية في قطاع غزة، ومنعت الصحفيين الأجانب من الدخول لتغطية الأحداث في قطاع غزة.  ولم تتوانَ عن اعتقال مصور فضائية العالم لأنه صور مشهداً دون إذن من الرقابة، كما لم تتوانَ الشرطة عن الاعتداء على مصور صحيفة «يديعوت أحرونوت» ومراسلها حينما حاولا دخول مستشفى "سوروكا" الذي يستقبل مصابي الجيش الإسرائيلي. 
 
وكانت الرقابة تدأب على عدم إظهار حقيقة ما يجري في ميدان المعركة كي تضمن استمرار دعم وتأييد الرأي العام المؤيد للحرب.
 
وكان الإعلام متفهما. وفي اليوم الثاني للمرحلة البرية بدأت مرحلة  تحول في تعاطي الصحافة الإسرائيلية، هي مرحلة طرح التساؤلات.  وبدأ كبير المعلقين في صحيفة يديعوت أحرونوت بطرح الأسئلة الصعبة.  وقال إن التوقعات من الحرب محدودة والمخاوف كبيرة.  وحذا حذوه باقي كتاب الأعمدة وبدؤوا يبحثون عن مخرج من الحرب.
 
 عدوان عام 2006 على لبنان
لم يختلف أداء الاعلام الإسرائيلي خلال عدوان تموز 2006 على لبنان، عن أدائه خلال العدوان على غزة، لكن الفرق هو  أن الإعلام لم يروج للحرب بسبب ظروف اندلاعها المفاجئة، لكنه طالما تحدث عن "الخطر في الشمال"، والفرق بين العدوان على لبنان والعدوان على قطاع غزة هو أن الصحافة دفعت باتجاه الحرب الأخيرة طوال الشهور التي سبقتها، إذ إن حرب لبنان لم يسبقها أي اهتمام إعلامي بسبب طبيعة اندلاعها، وكانت التقارير الإسرائيلية في السنوات التي سبقتها تركز على تعاظم قوة حزب الله والتهديد الذي يشكله.
 
دعم الإعلام الإسرائيلي الحرب، ونفخ في أبواقها، وبرر كل محطاتها، تماماً كما ورد في التقرير عن العدوان على غزة غير أن الفرق هو أنها بعد نهاية المعركة تحولت إلى صحافة ناقدة ذات أنياب حادة، وبدأت تبحث عن أسباب الفشل والمسؤولين عنه. 

التعليقات