المحاضرة الجامعية تمار إل- أور: السؤال الآن هو متى سينتهي الاحتلال؟

*مقابلة خاصة مع الخبيرة في شؤون المجتمع الحريدي والمحاضرة في الجامعة العبرية- القدس تؤكد في سياقها أيضاً: *لا أتوقع نشوء دولة دينية هنا من جرّاء أن الحريديم قد يشكلون أغلبية في المستقبل* لا يبدو لي أن موضوع أن يكون هذا المكان يهوديا فقط ولا مكان للآخر فيه حقيقي*

المحاضرة الجامعية تمار إل- أور: السؤال الآن هو متى سينتهي الاحتلال؟

*مقابلة خاصة مع الخبيرة في شؤون المجتمع الحريدي والمحاضرة في الجامعة العبرية- القدس تؤكد في سياقها أيضاً: *لا أتوقع نشوء دولة دينية هنا من جرّاء أن الحريديم قد يشكلون أغلبية في المستقبل* لا يبدو لي أن موضوع أن يكون هذا المكان يهوديا فقط ولا مكان للآخر فيه حقيقي*

أجرى المقابلة:
أنطوان شلحت وبلال ضـاهـر

تعريف:
ضم العدد الأخير من مجلة "قضايا إسرائيلية" الفصلية المتخصصة الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار (عدد خريف 2013) مقابلة خاصة أجراها أنطوان شلحت وبلال ضاهر مع البروفسور تمار إل- أور، المحاضرة في الجامعة العبرية في القدس والمتخصصة في علم الأنثروبولوجيا (الإناسة)، واحدة من كبار الباحثين الإسرائيليين المتخصصين في شؤون المجتمع اليهودي الحريدي (المتشدّد دينياً). وقد ركزّت المقابلة على عالم الحريديم وتحولاته، كما طُرحت عليها أسئلة تتعلق بالوضع السياسي الراهن وما يحيل إليه.

وفيما يلي نصها الكامل:

تعتبر البروفسور تمار إل- أور، المحاضرة في الجامعة العبرية في القدس والمتخصصة في علم الأنثروبولوجيا (الإناسة)، واحدة من كبار الباحثين الإسرائيليين المتخصصين في شؤون المجتمع اليهودي الحريدي (المتشدّد دينياً).

وقد أصدرت في إطار بحثها في هذا الشأن ثلاثة كتب كانت بمثابة ثلاثية غطت المجتمع اليهودي المتدين والمجتمعين الحريديين الأشكنازي والسفارادي في إسرائيل ولا سيما في كل ما يتعلق بالنساء والمعرفة والديانة.

وهي تؤكد في هذه الأبحاث، كما في المقابلة الخاصة التالية التي أجريت معها وركز معظمها على عالم الحريديم وتحولاته، أن العالم الحريدي متنوّع جداً، بعد أن كبر هذا العالم ونجح في تكريس نفسه. ومنذ خمسينيات القرن العشرين الفائت وحتى الآن فإنه يشهد انقسامات وسجالات في داخله. وأغلبية العالم الحريدي بدأت تتطلع إلى حياة طبيعية أكثر، مثل أن يذهب الرجال إلى العمل وأن تبقى العائلة كبيرة، ربما ليس 12 ولدا ولكن 6 أو 7 أو 8 أولاد، وتحسين ظروف السكن، والخروج مرة في كل عام إلى إجازة، والذهاب إلى مطعم مرة كل ثلاثة شهور، ومنح الأولاد تعليما أفضل، والتوجه إلى متخصصين لتحسين مستوى تعليم أولادهم. ولذا- كما تقول- "يزداد توجه الحريديم إلى سلطات الدولة، وبتنا نرى عملية تأهيل متخصصين من داخل المجتمع الحريدي تبادر إليها الدولة، لكن الجهات المتطرفة داخل هذا المجتمع الحريدي لا تنظر إلى هذا التطور على نحو إيجابي". وفي الوقت نفسه تلفت إل- أور إلى أن هذه الجهات المتطرفة ضئيلة للغاية وبالكاد تشكل نسبتها ثلاثة أو أربعة بالمئة من المجتمع الحريدي.

كما تم التطرّق إلى الحملة الرامية إلى انخراط الشبان اليهود الحريديم في صفوف الخدمة العسكرية تحت شعار "المساواة في تحمّل أعباء خدمة الدولة"، والتي يعود أحد أهم أسبابها برأي إل- أور إلى أن الجميع في إسرائيل باتوا يريدون قرارا قاطعا وحاسما يلزم الحريديم بالذهاب إلى الجيش والعمل. رغم ذلك ثمة ترتيب معين (بأن يذهب العلمانيون إلى العمل والجيش بينما يستمر الحريديم في دراسة التوراة والحصول على مخصصات لمعيشتهم) حرصت على تطبيقه كل الحكومات الإسرائيلية من الناحية الاقتصادية. والآن أصبح واضحا للجميع أنه لا يمكن الاستمرار في هذا الوضع. وبالإمكان رؤية حالة من تأجيج ذعر ديمغرافي مثلما كان يجري الحديث في السابق عن عدد العرب بعد عشرين عاماً. الآن يتحدثون عن ذعر ديمغرافي يمثله الحريديم، وأنه بعد عشرين عاماً سيكون كل إنسان ثالث في إسرائيل حريدياً، وأنهم سيسيطرون على الدولة. وهي تؤكد أن جزءاً من المعطيات الإحصائية صحيح، لكن لا أحد يعرف ما الذي سيحصل في الدولة وفي الشرق الأوسط عموماً بعد عشرين عاماً. في الوقت عينه فإن الحريديم، وربما أكثر من غيرهم، يشعرون بالضائقة والفقر بصورة يومية، فهم يعيشون في فقر مدقع، وهذه المخصصات التي يحصلون عليها من الدولة ليست مثل منحة يحصل عليها المرء من جامعة هارفارد، وإنما هي مخصصات صغيرة جدا وتحصل عليها عائلات كبيرة. وهناك مجموعة من الحاخامين الذين لا يملكون الشجاعة لقول ذلك بصوت عال لكنهم يهمسون بأنه يجب البدء في حل مشكلة الفقر في المجتمع الحريدي من خلال الخروج إلى سوق العمل. ولأنه توجد بوابة للخروج إلى سوق العمل هي الجيش الإسرائيلي، وهي بوابة رمزية كون الجيش غير مهتم كثيرا بتجنيد الحريديم، فإنه يجب تحرير هذه البوابة لأن الكثيرين في المجتمع الحريدي يتوقون إلى الخروج للعمل.

بطبيعة الحال طُرحت على إل- أور أسئلة تتعلق بالوضع السياسي الراهن وما يحيل إليه. وفي سياق تناولها ذلك أعربت عن اعتقادها بأن ما بات ماثلا أمام إسرائيل الآن هو السؤال: متى ينتهي الاحتلال لا ما إذا كان سيستمر طويلاً؟.

في مستهل المقابلة ردت إل- أور على سؤال من أين استمدت أفكارها وتنشئتها قائلة:
"وُلدت وكبرت في تل أبيب، في حيّ يقع في شمال شرقي المدينة وهو بعيد جدا عن مركزها. لذلك يمكن القول إنني ابنة تل أبيب ولكنني كنت فتاة الحقول أيضا. وقد جاء والداي من بولندا في العام 1933. والدتي جاءت مع عائلتها التي انضمت إلى جدي الذي كان قد أتى إلى البلاد في العام 1924. ووالدي جاء إلى البلاد كشاب بمفرده، وكان طالبا جامعيا من دون عائلة تقريبا باستثناء أبناء عموم قلائل لأن معظم أفراد عائلته قُتلوا، بينما كانت عائلة والدتي كبيرة ومنتمية إلى الطبقة الوسطى".

والدي اعتاد أن يقول لي:
"الوضع هنا لن يكون جيدا أبدا"!

(*) سؤال: تقصدين أن الكثيرين من أفراد عائلة والدك قُتلوا في المحرقة؟

إل - أور: "نعم. عائلة والدي ومعظم أقاربه قتلوا في المحرقة. وكان لديه أبناء عموم هنا، يسكنون في الكيبوتسات، كما جاء قسم منهم إلى البلاد بعد الحرب [العالمية الثانية] كلاجئين. ولم تكن المحرقة حاضرة في بيتنا. فلم نتربَ كـ "جيل ثان" بعد المحرقة. وعموما كان هذا بمثابة بيت من الطبقة الوسطى الكلاسيكية في حيّ جاءت إليه كل عائلة من مكان مختلف. وكان يسكنه [المهاجرون اليهود] البلغار واليمنيون والبولنديون والعراقيون ومن دول شمال إفريقيا. أي أن سكان الحي كانوا من أصول متعددة ومتنوعة. ووالدي، الذي كان شخصية أثرت عليّ بشكل كبير من الناحية السياسية، كان عضوا في حزب حيروت [يمين صهيوني بزعامة مناحيم بيغن]. وانضم إلى حزب حيروت لأنه كان نشطا في حركة بيتار في بولندا. لكن تأثيره عليّ كان بالأساس في شكل تفكيره وبكونه معاديا للمؤسسة الحاكمة. كان يكره حزب مباي [بزعامة دافيد بن غوريون] ويكره المؤسسة الحاكمة ونفاقها وسياسة انتهاز الفرص، وهي سياسة غير أيديولوجية برأيه. في واقع الأمر فإن كل ما تعلمته لاحقا في علم الاجتماع بشأن سياسة حزب مباي كان والدي قد علمني إياه في البيت. وعندما بدأت أكبر وأتخذ اتجاها محدداً في الحياة في سن صغيرة، ذهبت إلى مدرسة ثانوية يسارية. كذلك ذهب شقيقي إلى هذه المدرسة، وكان هذا اختيار والدتي. إنها مدرسة ثانوية خاصة اسمها ’المدرسة الثانوية الجديدة’. وهذا الأمر لم يزعج والدي أبدا. وكان يحب النقاش كثيرا. وكنا نتناقش ويتخلل ذلك الصراخ والخصام وكان هذا أمرا جيدا بالنسبة إليه. كان يقول إنه طالما لا يتم ذكر مباي فإن هذا حسن. وما لم يكن يعجبني في تفكيره أنه كان ينظر إلى العالم على أنه غير قابل للتغيير وأنه توجد حتمية في الوضع القائم. ورغم ذلك، فإنه قرر بنفسه، خلال التطورات التاريخية في بولندا حينذاك، أن يغادر وليس مثل أمي التي لم تتخذ مثل هذا القرار وإنما عائلتها قررت وأخذتها معها. هذا يعني أن والدي قرر إحداث تغيير في وضعه في خضم سيرورة تاريخية.

"كان والدي يتقن التحدث باللغة العربية لأنه كان شرطيا في فترة الانتداب البريطاني. وكان يستمع إلى الموسيقى العربية. كان مستشرقا نوعا ما. وكان يقول لي ’استمعي إلى هذه الموسيقى وأنصتي إلى هذا الثراء’. إنه نوع من الأشخاص الذين كانوا مرة في اليمين، مثل الأديب عاموس كينان، وبعد ذلك تغيرت أفكارهم وحاولوا أن يشعروا بأنهم في وطنهم. وهو عبّر عن ذلك من خلال معرفة اللغة العربية والمعرفة العميقة جدا للبلاد. وهي معرفة اكتسبها من خلال الدراسة الذاتية عن الإسلام والمسيحية. كان يعرف المسيحية بصورتها الكاثوليكية من بولندا، لكنه كان يقول لي دائما إن المسيحية هنا هي شيء آخر. وكان مرشد رحلات في البلاد. كل هذه الأمور كانت تميز جيل والدي. وكانت لديه آمال كثيرة وتفاؤل كبير من جهة، ومن الجهة الأخرى كان لديه نوع من التشاؤم الأساس، وكان يقول بين حين وآخر، على سبيل المثال عندما تجند شقيقي للجيش في حرب تشرين/ أكتوبر 1973، إن ’الوضع هنا لن يكون جيدا أبدا. وإذا كنت تقلقين على أولادك عليك أن تأخذي أغراضك الآن، فيما لا تزالون شبانا، وأن تذهبوا من هنا. لا يوجد أي أمل في هذا المكان. الحرب دائمة هنا ولن يسود الهدوء. سافروا إلى كندا’. وكنت أسأله لماذا ترسلني إلى كندا؟ سافر أنت إلى كندا. فكان يجيبني: ’لقد سافرت في حياتي مرة واحدة... وهاجرت مرة واحدة’. كانت هذه حالة من الحب ليست مرتبطة بشيء مثل مشروعه الصهيوني، ورافقه تشاؤم دائم".

(*) سؤال: من أين جاء هذا التشاؤم برأيك؟

إل - أور: "أعتقد أن هذا هو نوع من التحليل الواقعي الذي في إمكانك أن تأخذه نحو عدة اتجاهات. كان يقول لي ’انظري كم دولة عربية تحيط بنا. ولن ننجح من الناحية الديمغرافية. وهم [العرب] لن يوافقوا أبدا على فكرة الدولة الصهيونية. نحن سنعيش هنا في الوقت المستقطع، وسنضطر إلى العيش على القوة والحرب. وطالما كنا نملك القوة فإن الأمور ستجري بشكل جيد، وعندما لن تكون لدينا القوة فإن الأمور لن تكون جيدة وستصبح سيئة’".

(*) سؤال: يبدو أننا بإزاء نوع من النبوءة. هل تعتقدين أنها تحققت؟

إل - أور: "هذا تحليل واقعي وليس نبوءة. وسؤالك هو سؤال حارق لأن معظم الإسرائيليين لا يريد التعامل معه، وإلا فإنه لا يمكنك أن تنهض في الصباح. هذا السؤال يبدو منطقيا. وأعتقد أنه، خاصة في فترة الانتفاضة [الثانية] عندما كان الموت يوميا وكنت كل يوم تفتح الانترنت وتعدّ الموتى وتقول ’ثلاثة، ليس بالعدد الكبير’، والدماء كانت تسيل يوميا، عندها بدا لي أن والدي كان على حق. وبعد ذلك ترى الناس، اليهود، يستصدرون جوازات سفر أوروبية. وأعتقد أن الناس كأنهم يصفون المحرقة كشيء رمزي، مجازي جدا، وأنه جيد دائما أن يكون بحوزتك جواز سفر آخر. هذا نوع من التراث. وهذا وعي عميق جدا بأن الوضع صعب بالنسبة للإسرائيليين، وأنه من الجائز أن كل شيء مؤقت. ودائما هناك النظرة إلى الأصلاني الذي يعرف أنه مهما حدث فإنه سيبقى هنا ولا يوجد مكان آخر يذهب إليه. لكن كلما مرت السنون تلاشى هذا التفكير وهو ليس موجودا لدى أولادي. أنا سمعت هذه الفكرة من والدي، وليس من والدتي، ولذلك تعين علي التعامل معها. وعندما يهاجر الإسرائيليون من هنا، فإنهم يفعلون ذلك لأسباب براغماتية. فإذا أردت أن أكون فنانا فإن الدولة لا تدفع لي ولذلك أذهب إلى برلين. وإذا أردت أن أكسب المال فإنني أسافر إلى الولايات المتحدة. أي مثلما يهاجرون في جميع أنحاء العالم. لكن على أثر تجربتي السياسية، التي بلورت مهنتي في نهاية المطاف، فقد كان لهذه الرسائل من جهة والدي ولمحاولاتي طرح بديل تأثير على حياتي. وهذا الأمر حاضر طبعا، فإذا وضعت أمام الإسرائيلي هذا الأمر فإن لا أحد بإمكانه نفي وجود نواة لهذا الأمر لديه".

(*) سؤال: يتحدثون في سياق ما ذكرت أعلاه عن "الخوف الإسرائيلي". والشاعر محمود درويش قال ذات مرة (على ما أظن لحاييم غوري) أنه على استعداد لتفهم وجود خوف إسرائيلي بصورة عامة، لكن في الوقت عينه ثمة خوف إسرائيلي آخر من مترتبات ما تم ارتكابه ضد الفلسطينيين في العام 1948، وهذا الخوف حله كامن لدى الإسرائيليين أنفسهم؟

إل - أور: "أنا أفهم هذا تماما. إن هذا الخوف الإسرائيلي هو حقا جزء من تجربة حياتية عميقة جدا. وصمود هذه التجربة مذهل جدا. وكما يقولون فإن الإسرائيليين يعزلون أنفسهم عن الوضع في الشرق الأوسط. وكأن خوفهم ليس مما يحدث هنا ولا أمام العدو العربي. وربما هذا نابع من تجربة، وأن بإمكانهم استيعاب التهديد العربي وأنه يوجد إدراك بأن ثمة أملا هنا. وهذا انتقل إلى إيران والخوف منها. وهناك الكثير من الإسرائيليين الذين يركبون القطار في أوروبا، سواء كان ذلك في ألمانيا أو النمسا أو سويسرا، ويسمعون المنادي على الرصيف يقول شيئا ما بالألمانية، وعندها يعتقدون أنهم متجهون إلى أوشفيتز، حتى لو لم يكن أحد من أفراد عائلتهم هناك أبدا. وأقول لكما شهادة شخصية، ونحن لسنا عائلة هولوكوستية، لكن اليهودي واثق دائما من أنه يوجد لهذا القطار اتجاه واحد. وهذه صدمة كبيرة للغاية وقد تغلغلت في تفكيرنا. فالتضليل بهذا الخصوص والخطوات السياسية التي يقومون بها وكيفية توريث ذلك للأجيال القادمة، هو استخدام سياسي للمحرقة.

"وفيما يتعلق بسؤالك حول الشعور بعدم الارتياح بشأن العرب في إسرائيل، في العام 1948، فإني أريد أن أقول بداية إن هذا الشعور موجود لدى عدد قليل جدا من الإسرائيليين. وربما لم يكن مريحا لحاييم غوري أمام محمود درويش. لكن معظم الإسرائيليين لن يبدو غير مرتاح. ومعظم هؤلاء شبان قدموا من بلدان أخرى ويجهلون ما حدث. وبنظرهم أنه كانت هنا حرب، وأنتم هاجمتمونا، وخسرتم. هذا ما سيقولونه في الشارع الإسرائيلي. ولن تحصل على تفكير أخلاقي لدى الأغلبية، التي تريد تفهم من جانب العربي، الآخر، بأنه تم التسبب له بمعاناة وتشتت، لأن أحدا ما توجب عليه أن يجد بيتا لنفسه. ولأسفي الشديد، فإن قسما كبيرا من الجمهور الإسرائيلي لا يعيش في هذه التجربة".

جميع الحكومات الإسرائيلية
غذّت الاحتلال وتعهدته بالرعاية

(*) سؤال: أريد أن أعود إلى نبوءة والدك. لقد ذكرت عاموس كينان، الذي ألّف كتاب "الطريق إلى عين حارود". ويوجد في هذا الكتاب نبوءة بأن الجيش يستولي على إسرائيل، والمؤلف يريد السفر إلى عين حارود، الذي هو المكان الحر الأخير. وكان بحاجة إلى العربي، إلى محمود. هل تعتقدين أن نبوءة عاموس كينان تحققت بشكل أو بآخر الآن بعد سيطرة اليمين على سدّة الحكم في إسرائيل؟

إل - أور: "كلا. كتاب عاموس كينان، مثلما هو الفن عموما، هو مكان لإنتاج تحديات فكرية وأدوات أكبر من الواقع، يتم طرحها أمامنا، من أجل التصرف داخل الواقع. ونحن ملزمون بالصعود إلى أعلى أحيانا، فوق الواقع، من أجل السير داخله والبحث عن طرق حقيقية. والطرق إلى عين حارود هي طرق حقيقية. بمعنى ألا ننطوي على أنفسنا وألا نتحصن داخل القلعة الأخيرة، التي يوجد فيها شخصان يفكران مثلي. ولذلك فإن هذه عملية فنية ورمزية وإيحائية. وقد سيطر اليمين الإسرائيلي على الحكم، منذ العام 1977، وكانت هناك فترات قصيرة لحكومتي إسحق رابين وايهود باراك. وتوجد لحكم اليمين انعكاسات واسعة على ما يحدث في إسرائيل، فيما يتعلق بالفجوات بين الطبقات، والمفهوم الاقتصادي الرأسمالي، والتربية والتعليم وبشأن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. وأعتقد أننا جميعا نواجه اليوم السؤال الجديد، ودعني أقول إنني حقا لا أجد فروقا كبيرة بين حكومات كهذه أو تلك، إذ أنني لم أر خلال ولايتي رابين وباراك حزما أكبر تجاه المشروع الاستيطاني. لا شك أن ثمة فروقا، غير أن هذه هي فروق صغيرة في السياق التاريخي. وواضح أنه عندما أفتح كتاب الأولاد، في هذه الفترة وفي فترات أخرى، فإنه بإمكاننا أن نرى تأثير حكومة يمينية فيه. لكن بشكل عام فإن جميع الحكومات متشابهة تقريبا. وما نراه الآن هو النتيجة المتراكمة للوضع غير العادي للاحتلال، الذي ما زال قائما، بصورة مفاجئة، طوال هذه السنين الكثيرة. ونحن نقف اليوم أمام السؤال الجديد حول حل الصراع وما إذا كان من خلال قيام دولتين للشعبين أو دولة واحدة ثنائية القومية. وجميعنا يرى احتمالية الحل الأخير. كذلك جميعنا يرى أن كلا طرفي الخريطة السياسية في إسرائيل، اليمين المتطرف واليسار المتطرف، يريدان دولة واحدة للجميع وقد أدركا أن وجود دولتين بين النهر والبحر غير ممكن ويجب أن تكون دولة واحدة. وهناك أحزاب الوسط التي ترى أن الحل هو حل الدولتين. لكن يبدو أن الحل الراديكالي [دولة واحدة ثنائية القومية] هو أكثر احتمالية، ولو كان ذلك لأنه ببساطة قائم فعلا على أرض الواقع، بصورة مشوهة للغاية منذ وقت طويل، لدرجة أنه لم يسمح بنمو أي شيء آخر بصورة حقيقية. وكل ما نما هنا، إنما نما تحت الاحتلال. ونجاح الاحتلال غذته جميع الحكومات".

(*) سؤال: هل يمكن أن يستمر الاحتلال لسنوات أخرى طويلة؟

إل - أور: " إن السؤال المطروح هو كيف سينتهي الاحتلال؟ هل سينتهي بحل الدولتين للشعبين؟ أم أنه سينتهي بدولة واحدة ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية، دولة جميع مواطنيها وفقا لرؤية [الأكاديمي الإسرائيلي يهودا] شنهاف وعزمي بشارة وميرون بنفينستي [مؤرخ إسرائيلي]. وفاجأني [الشاعر الإسرائيلي] إسحق ليئور، عندما قرأت مقالا له في صحيفة هآرتس، مؤخرا. فقد كنت أعتقد أنه في جانب بنفينستي، لكنه كتب أنه يؤيد حل الدولتين للشعبين".

(*) سؤال: ليئور موجود في جانب الحزب الشيوعي.

إل - أور: "نعم. وانظروا إلى المفارقة الحاصلة اليوم، وهي أن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة تريد الدولتين للشعبين".

(*) سؤال: عندما تقولين دولتين للشعبين، هل تقصدين أن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي؟

إل - أور: "هذا ما يبدو لنا اليوم".

(*) سؤال: ثمة الآن سجال واسع بشأن موضوع الدولة اليهودية. ماذا يعني هذا بالنسبة إلى الأقلية العربية في إسرائيل؟

إل - أور: "توجد اليوم حكومة، وهي بمفهوم معين حكومة غير عادية، من حيث التحالف القائم بين حزب "البيت اليهودي" برئاسة نفتالي بينيت وحزب "يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد، وهو تحالف حقيقي. وتخرج من هذا التحالف أمور كانت في الماضي تذوب في المجتمع الإسرائيلي. وهو ليس تحالفا غريبا، ولذلك هو خطر، لأن هذا المكان من جهة هو مثلما قال [الصحافي الأميركي] توماس فريدمان: تنزل قطرة مطر واحدة في الشرق الأوسط، فيصبح كل شيء أخضر. وتنزل قطرة واحدة من الأمل بالسلام، فيصبح الجميع راغبا في السلام. وواضح أن الجميع يريد السلام، وحتى أولئك الذين يؤيدون ’الدولة اليهودية والديمقراطية’ والذين يؤيدون فرض قانون الولاء على العرب وأن يقف العربي ويقول إنه يحب هرتسل وما إلى ذلك. ومن جهة ثانية، فإنه إذا كان هناك احتمال ما للسلام، بحيث يبدو للمواطن نفسه أنه احتمال حقيقي، فإنه سيذهب مع هذا الاحتمال. وهذا يعني أنه يوجد هنا شيء مطاطي. وعندما ينتخب لبيد، ويتحالف ائتلافيا مع بينيت، وجميع أفكار لبيد موجودة في رأسه، وبينها الدولة اليهودية، وهو يرى والده يتحدث إليه، ولا أعرف من أين، فإن أمورا كثيرة قد تحدث. هذا الأمر لا يخيفني. ولا يبدو لي أن هذا الأمر- أي أن يكون هذا المكان يهوديا فقط ولا مكان للآخر- حقيقي. لكن السؤال هو أية دولة ستكون دولة إسرائيل، وأية دولة ستكون فلسطين. أنا أرى أن الإمكانية الثانية [الدولة الثنائية القومية] ستتحقق، ولو كان ذلك بسبب اتجاه الأمور الطبيعي وليس من خلال الاختيار والتفكير، أو بسبب تفضيل أمر ما يحصل منذ وقت طويل. ونحن نعلم أن احتمال تحقق ذلك على أفضل وجه هو احتمال ضئيل، خاصة بعد الانفصال عن غزة".

(*) سؤال: لا توجد توقعات جيدة؟

إل - أور: "لا أعرف. نحن اعتدنا على أن نعيش من يوم إلى آخر، ولا يمكنك أن تكون سياسيا طوال الوقت. وأنا أقول لأولادي إنه عندما تخلدون إلى النوم كل يوم فكروا في أمر سياسي واحد خطر لكم اليوم. وأقول هذا لأنه من السهل جدا في تل أبيب أن ينام التفكير في السياسة. وكل شيء بالمفهوم السياسي يمكن أن يذهب إلى النوم في تل أبيب، من جراء الاعتقاد أن السياسة هي أمور كبيرة وليست بيد الناس العاديين. ومع ذلك فإن النهوض كل صباح هنا، خاصة إذا كنت شخصا سياسيا، وبالتأكيد إذا كنت في جانب الأقلية السياسية، هو أمر يجعل العيش صعبا. أنا أحاول الحفاظ على قدر ما من التفاؤل. وبمفاهيمي الشخصية ليس لدي مكان آخر أذهب إليه. ولن أذهب إلى كندا. ولا توجد لدي لغة أخرى ولا مكان آخر، وحسبما أرى أولادي، فإنه ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه. وهم لا يرون خيارا كهذا. ولذلك، إذا كنت هنا ينبغي العمل كي يكون هذا المكان أفضل للجميع. وإلا فإنه لن يتحسن. وأنا لست إنسانة متشائمة".

هكذا بدأت البحث في شؤون الحريديم

(*) سؤال: إن مجال بحثك هو الحريديم، أو النساء الحريديات بالأساس. ما الذي جلبك إلى هذا المجال، خاصة وأنك علمانية ومن تل أبيب البعيدة نسبيا عن عالم الحريديم؟

إل - أور: "أحد أساتذة علم الاجتماع الذين تعلمت لديهم هو الدكتور آفي كوردوف، وكان يقول، عندما يتحدث عن الطبقات الاجتماعية: ’عمّ يتحدث اليهود؟ فقد كانوا أصحاب عربات تجرّها خيل في بلدة في أوروبا الشرقية، أو أن جدهم كان صاحب عربة تجرها خيل’. أي أنه لم تكن هناك طبقة أرستقراطية يهودية في أوروبا، وأن جميع اليهود في أوروبا تقريبا كانوا بسطاء ومن عامة الشعب. وعندما قدموا إلى البلاد كانوا يتحدثون عن بيتهم في ألمانيا الذي يوجد فيه بيانو، ولكن إذا حفرت جيلا واحدا إلى الوراء، فإن جدهم كان صاحب عربة يجرها حصان وليس أكثر من ذلك. والأمر نفسه بالنسبة إلى الدين. فأن تكبر كعلماني يعني أنك علماني، لكن السؤال هو كم أن هذه الحال كانت بعيدة عن عائلتك حينذاك. فقد غادر والد أمي الييشيفاه [أي المعهد الديني اليهودي] في بولندا، كأنه خرج إلى العالم المتنور، وكان يروي لأمي حكايات حول خياره بالانفصال عن الييشيفاه. وكان جدها صهيونيا متدينا. وكان مندوبا للمؤتمر الصهيوني في بازل. وفي العام 1904 زار البلاد من أجل أن يبحث عن إمكانية للسكن هنا. وهو اعتقد حينها أن الظروف لم تكن قد نضجت لذلك، وبعد ذلك هاجروا إلى هنا في سنوات العشرين. والصهيونية الدينية كانت محاولة للدمج بين الدين والحياة العصرية والثقافة. وكانت عائلة أبي علمانية، وكان أفرادها يدخنون السجائر في أيام السبت، لكن جد أبي وأعمامه كانوا "إيديشكايت"، وهذا مصطلح معروف في اليهودية الأشكنازية، ويعني الانفتاح على التراث الديني. وأنا نشأت كنتاج للتعليم الصهيوني، الذي لا يمنحون فيه أية معرفة بالدين اليهودي. وقد درسنا التوراة في المدرسة، ولكن هذه دراسة شبيهة بالتي يتعلمونها في الجامعات، أي التعامل مع التوراة على أنها وثيقة شمولية وأدبية وأخلاقية. ولم نتعلم التلمود ولا الأحاديث الدينية المنقولة شفهيا. لكن في المدرسة الثانوية الاشتراكية التي ذهبت إليها كانوا يعلموننا التلمود. وكان هذا بموجب موقف اتخذته المدرسة. وقد تعلمنا التلمود بصورة نقدية. ووصلت إلى مجال بحثي، وهو النساء الحريديات، من الاتجاه النسوي. وكنت قد كتبت رسالة الماجستير حول العلاقات بين اليهود الشرقيين والأشكناز في بلدة رامات هشارون، وهي بلدة يوجد فيها مال كثير، أي عن الطبقة التي أصبحت غنية من دون تبني قواعد التعامل الارستقراطي، وحول استنساخ العلاقات بين الطوائف اليهودية في البلدة. كنت أذهب إلى مدرسة في رامات هشارون، وأجلس مع تلاميذ الصف الرابع وأراقب سلوكهم. وبعد ذلك بدأت أهتم بالموضوع النسوي، لكن لم يكن بالإمكان حينذاك دراسة النسوية في الجامعة، كما هي الحال اليوم. وقلت لنفسي إنني أريد أن أدرس النساء. وبحثت عن مجتمع جندري، أي مجتمع منقسم من الناحية الجنسية. وكان عمر ابني حينها ثلاث سنوات، وكنت أذهب معه إلى بركة السباحة في الحي الذي أسكنه، وقد استمررت في السكن في حي رامات هحيال الذي ولدت فيه. وكانت هناك بركة سباحة تابعة للبلدية. وكانت هذه البركة تستقبل النساء فقط بعد ظهر أيام الاثنين. لأنه يوجد في هذه المنطقة من تل أبيب حي حريدي صغير. وفجأة شاهدت جميع النساء الحريديات. وعندها قررت أن أجري بحثا حول النساء الحريديات. لم يكن اهتمامي بالموضوع من الناحية الدينية وإنما من الناحية الاجتماعية، ومن ناحية الأمومة والتربية وما إلى ذلك. وبدأت أفكر في كيفية دخولي إلى هذا المجتمع، علما أنني أسكن على بُعد مسافة قصيرة جدا من الحي الحريدي. وكان الجميع يعتقد أنني أجريت البحث في [المدينة الحريدية في وسط إسرائيل] بني براك. لكن في الواقع أجريته في هذا الحي الحريدي في تل أبيب، وهو حي تم بناؤه في نهاية سنوات السبعين، بمبادرة الأدمور [اختصار للكلمات: سيدنا ومعلمنا وحاخامنا] من غور ليسكن فيه أتباعه. وكانت تسكن في هذا الحي حوالي مئة وخمسين عائلة حريدية واليوم تسكن فيه قرابة مئتي عائلة. وقد تحدثت في كتابي عن لقائي مع امرأة حريدية في عيادة طبيب، وتحدثنا ثم أعطتني رقم هاتفها، وبعد ذلك بدأت العلاقة تتحسن، ثم تعرفت على المرأة القيادية في هذا الحي، وكانت الأكثر تدينا، وأصبحت وصية عليّ وأدخلتني إلى بيتها وكنت على اتصال معها لمدة ثلاث سنوات، قمت خلالها بعمل أنثروبولوجي كلاسيكي. وكنت أرافق هذه المرأة يوميا، لدى عنايتها بالأولاد وفي أثناء غسل الملابس وخلال الأعياد واحتفالات الزفاف. وسار البحث في نهاية المطاف، من حيث النظرية والتركيز النظري، في أعقاب الأعمال التي تقوم بها النساء في هذه المجموعة. كذلك بحثت في نشاطهن الجماعي. وتبين أنهن كنّ يتعلمن سوية. كن يلتقين في حلقات دراسية لدراسة التوراة وقوانين وأحكام الشريعة اليهودية. وبالمناسبة هذه أمور مقبولة جدا في الإسلام والمسيحية، بأن تعلم النساء نساء أخريات. وكنت أذهب إلى جميع هذه الدروس، داخل حيهم في البداية، وأحيانا كنت أذهب معهم إلى بني براك. وكانت هناك معلمات من داخل مجتمعهن ومن خارجه. وقد اهتممت بأن أعرف الأسباب التي تدفعهن إلى هذه الدراسة، إذ أنهن لن يتمكنّ من إصدار فتاوى أو أحكام، ولا يمكنهن أن يصبحن حاخامات ولا معلمات للشريعة اليهودية. تساءلت لماذا يتعلمن هذه الأمور رغم أنهن يعرفن القوانين، إذ أنهن كبرن داخل ميسيانية غور وفي بيوت حريدية، ويعرفن جميع الأحكام والتقاليد. لماذا، مثلا، يتعلمن قوانين يوم السبت؟ واكتشفت أنهن كنّ يطورن أنفسهن من خلال معرفة القراءة والكتابة ومعرفة العالم. أي أنه من خلال دراسة النص كن يكتشفن ويتعرفن على محيطهن الاجتماعي والثقافي. وتبين لي أن اللقاء بين الدين والقوانين الدينية والدراسة يبلور النساء الحاليات العصريات واللاتي كن متدينات جدا. وأصبحت الأسئلة الثلاثة: ماذا يتعلمن؟ كيف يتعلمن؟ ومن أجل ماذا تتعلم النساء المتدينات؟ بمثابة الأسئلة المركزية في البحث. بعد ذلك أخذت هذه الأسئلة الثلاثة لإجراء بحث آخر حول المجتمعين المتدينين المركزيين في إسرائيل، بهدف إجراء بحث مقارن. البحث الأول حول الحريديم الأشكناز والثاني عن التيار الصهيوني - الديني. وكنت أجلس في ’الأولبانا’، وهي عبارة عن كلية لتعليم التوراة. وأجريت بحثا ثالثا في هذا السياق حول الحريديم السفاراديم [أي اليهود الشرقيين]، الذين أعلنوا التوبة [أي أصبحوا متدينين]، في بلدة برديس كاتس بالقرب من بني براك. وقد استمر العمل في هذا البحث الأنثروبولوجي ثلاث سنوات. وأصدرت ثلاثة كتب شكلت ثلاثية غطت المجتمعات اليهودية المتدينة والحريدية الثلاثة الكبرى في إسرائيل بكل ما يتعلق بالنساء والمعرفة والديانة".

(*) سؤال: هل وجدت فروقا بين هذه المجتمعات الثلاثة؟

إل - أور: "توجد فروق كبيرة وثمة تشابه كبير، وأولها يتعلق بالسؤال الأساس وهو: هل يتعين على النساء أن يتعلمن؟. وكانت دراسة النساء تتمحور حول الدين. وعندما عملت في برديس كاتس، بين مجتمع اليهود الشرقيين، اكتشفت أن هذا المجتمع منفتح أكثر من الحريديم الأشكناز، ودائما يوجد فيه النساء اللاتي يقررن التوبة، أي أن الحريديم السفاراديم من هذه الناحية ليسوا نواة صلبة حريدية. وكان بإمكاني إجراء البحث داخل مجتمع حريدي متزمت جدا، مثل مجموعة الحاخام عوفاديا يوسف، لكن هذا المجتمع لا يشمل كل مميزات مجتمع حركة شاس، والذي هو مجتمع أكثر انفتاحا. وقد تعلمت في برديس كاتس مع نساء في ييشيفاه تابعة للحاخام دانيئيل زير، وهو أحد أكبر الحاخامين الذين يعملون في دفع الأفراد، رجالا ونساء، إلى التوبة. وهو دائما يعلم الدرس نفسه للرجال والنساء سوية، لكن في قاعتين. ويجلس الرجال في القاعة أمامه، بينما تجلس النساء في قاعة مجاورة وأمامهن شاشة تنقل المحاضرة ضمن دائرة مغلقة. لكن الأمر المهم هنا هو أن الرجال والنساء يتلقون المضمون نفسه، وهذا أمر بالغ الأهمية. والحاخام زير يعلم، طبعا، أنه يتحدث إلى النساء والرجال. ويجلس في القاعة حريديم وتائبون وعلمانيون. ويمكن أن تحضر الدرس شابة ترتدي ملابس غير محتشمة وشابة حريدية، ويسير الدرس بشكل طبيعي. كذلك تعلمت دورة لنساء حريديات لاكتساب مهنة. أي أننا تعلمنا خلالها مواضيع مثل سكرتارية وحاسوب، لكن هؤلاء كن نساء حريديات انكشفن على مواضيع علمانية، مثل اللغة الانكليزية وعلم الحاسوب وما إلى ذلك. وعموما كان عملي وفقا لقواعد العمل الأنثروبولوجي واطلعت بشكل مباشر على حياتهن ودراستهن. وفي المقابل فإن النساء من مسيانية غور لا تتعلمن الحاسوب واللغة الانكليزية، وإنما التوراة فقط. من جهة أخرى فإن النساء في الصهيونية - الدينية تتعلم كل شيء طبعا. وكان عندي الحظ في سنوات التسعين أنني عبرت معهن الثورة النسوية الهائلة، التي مرت على الصهيونية - الدينية في العلاقات بين الجنسين. وكان هذا بمنزلة تغيير دراماتيكي في العالم الصهيوني - الديني، من حيث إمكانيات المرأة المتدينة على التعلم والعمل، وأصبحن مفسرات قوانين شرعية ومديرات اجتماعيات، وهذا نوع من الحاخامات، وكل هذا داخل الصهيونية – الدينية الأرثوذكسية".

(*) سؤال: هل هذه الأمور كانت ممنوعة قبل ذلك؟

إل - أور: "لم تكن مقبولة. ولم يكن مقبولا أن تتعلم النساء التلمود، أي الشريعة اليهودية. وكان بإمكان النساء الحريديات الاتصال مع مفسرات قوانين شرعية، لا يسمونهن قاضيات أو مُفتيات وإنما مفسرات قوانين شرعية".

(*) سؤال: هل كان لديهن تأثير على مراكز القوى في الصهيونية - الدينية؟

إل - أور: "بالتأكيد. حتى أنه بالإمكان أن ترى قائمة نفتالي بينيت [حزب "البيت اليهودي"] وتأثير ذلك على القائمة، وحتى لو شملت اسم [عضو الكنيست] أوريت ستروك وهي يمينية متطرفة ومستوطنة، فهناك اسم امرأة علمانية مثل [عضو الكنيست] أييلِت شاكيد، وهناك [عضو الكنيست] الدكتورة عليزا لافي وهي نسوية أرثوذكسية وتقدمية جدا. وبينيت لا يمكنه اليوم تجاهل هذه المجموعات".

(*) سؤال: هذا في الصهيونية - الدينية لكن ليس في المجتمع الحريدي؟

إل - أور: "كلا، ليس في المجتمع الحريدي. لكن هناك تغيرات تحدث في هذا المجتمع. وأحد هذه التغيرات هو أنه عندما أنهيت كتابة ثلاثية كتبي وتعيّن عليّ أن ألخصها وجدت أن التغيّر الأكثر إثارة هو الجندري- في حال حدوثه- من حيث مكانة المرأة الحريدية كـ ’مؤمنة’ وليس كـ ’مواطنة’، لأنه كـ ’مواطنة’ قد تحصل على مكانة أكثر تحررا تمنحها إياها الدولة، في حين أنها كـ ‘مؤمنة‘ ستحصل على مكانة أكثر تحررا يمنحها المجتمع. لكن مما نشاهده بشكل عام، فإنه من مكانة الـ ’مؤمنة’ يمكنها أن تحقق لنفسها ثقافة عامة، وبعد ذلك، من جهة الثقافة العامة يمكنها أن تحقق أمورا أخرى. وفي العالم الصهيوني - الديني، على سبيل المثال، تأتي النساء إلى الحاخامين وتقول لهم: "أنا بروفسور في الفيزياء، أو في علم الفضاء، أو في القانون. فكيف يمكنك أن تقول لي إنه لا يمكنني أن أدرس الشريعة اليهودية، وهي عبارة عن قوانين وأحكام. أنت لن تقول لي إن تفكير النساء ليس جيدا أو إنهن غبيات". واليوم لا توجد شرعية للقول إن النساء لا يمكنهن دراسة الشريعة اليهودية. والأمر المثير، وهو شبيه جدا بما يحدث في الإسلام والمسيحية، والإسلام واليهودية أقرب من بعضهما من الإسلام والمسيحية أو من اليهودية والمسيحية، هو الثورة النسوية في الإسلام والمسيحية داخل الحيّز الديني. هناك تغيرات هائلة في الإسلام، من حيث مكانة المرأة المؤمنة، وقد بدأن بالتعلم. لقد طلبت النساء أن يفتحوا أمامهن الكتاب، قبل كل شيء، وكان من الصعب القول لهن لا. وكان فتح الكتب أمام النساء في الإسلام أسهل مما كان في اليهودية".

اتجاهات جديدة لدى المرأة الحريدية

(*) سؤال: هل المقصود فتح الكتب بشكل عام أمام النساء أم فتح كتب الدين فقط؟

إل - أور: "فتح الكتب بشكل عام. وقد كان هذا الأمر أقل إشكالية في الإسلام. وبالتأكيد هذا لم يكن إشكاليا في الصهيونية - الدينية. لكن هذا كان إشكاليا في العالم الحريدي، لأن الحاخامين هناك يدركون ما قد ينتج عن ذلك. وهم لم يسمحوا بذلك. وفقط الآن، في وضع اضطراري، ستُفتح الكتب أمام المرأة الحريدية بشكل بطيء. وإذا ما قارنا بين الإسلام والصهيونية - الدينية، فإنه بعد أن تم فتح الكتب أمام النساء في هذين المجتمعين، واطلعن على فحوى الكتب، بدأن يعرفن أن الكثير مما كان محظورا عليهن ومسموحا لهن لم يكن بموجب نصوص في الكتب الدينية، وأن الشريعة الإسلامية والشريعة اليهودية لم تنصا على قسم كبير من المحظورات، وأن الرجال، بشكل ثقافي وتقليدي، فسروا ذلك على هذا النحو، وبعدها منحوا التقاليد مكانة الشريعة. فلنعد إلى النص الأصلي، ودعونا نرى ما يمكن القيام به، في موضوع الطلاق مثلا، أي الأحوال الشخصية. وهذا موضوع مهم جدا في المحاكم الشرعية الإسلامية والمحاكم الدينية اليهودية. ودخول نساء ضالعات في الشريعة اليهودية إلى المحاكم الدينية اضطر القضاة في هذه المحاكم إلى إصدار قرارات حكم مختلفة عن تلك التي أصدروها في الماضي. وقد بدأ هذا من الدراسة، وانتقل إلى الحيز العام، وإلى حيز الكنيس أيضا. ولمن الكنيس؟ فقد أرادت النساء المشاركة في حياة الكنيس وعدم البقاء خارجه، إذ أن النساء في اليهودية لسن ملزمات بالفرائض التي يطلق عليها اسم الفرائض التي يفرضها الزمان، وهي فرائض مرتبطة بالوقت، مثل أن عليك أن تصلي حتى وقت معين وإذا لم تنفذي ذلك فإنك أضعت فرصة الصلاة. والنساء معفيات من ذلك كي تكن مستعدات لمتابعة شؤون العائلة. أي كي لا تقول المرأة لزوجها عندما يعود إلى البيت في المساء إنها لم تعدّ وجبة العشاء لأنها كانت تصلي. ونتيجة لذلك كان بإمكان المرأة عدم الذهاب إلى الكنيس في يوم السبت، ويسمح لها بالصلاة في البيت. لكن النساء طلبن حقوقا دينية أكثر وليس أقل. وطلبن العودة إلى الحيز العام والصلاة في الكنيس، والتواجد في حياة المجتمع. وكانت المحطة الثالثة التي وصلن إليها بعد الكنيس هي كل موضوع طهارة الجسد ونجاسته، أي المسؤولية عن الجسد من الناحية الجنسية والجندرية، وأيضا كل موضوع الحشمة. والعمل في هذا الموضوع ما زال في أوجه. وهذا هو المكان الأخير الذي وصلن إليه. وثمة ملاحظة مهمة هنا، هي أنه إذا نظرنا إلى السيرورة النسوية الغربية، وما يسمى بالموجة النسوية الثانية، والتي بدأت في سنوات السبعين، فلا بُد من ملاحظة أنها بدأت بالجسد. وشملت مواضيع مثل تأييد الإجهاض أو معارضته والطب النسائي. لقد بدأت هذه الموجة بدعوة النساء إلى استعادة السيطرة على أجسادهن من أيدي الشركات الكبرى وصناعة الجنس. لكن في العالم الحريدي لم يكن ممكنا البدء من الجسد، إذ أن هذا كان أمرا خطيرا للغاية ومشحونا. وفقط في السنوات الخمس الأخيرة نشهد عملا حول موضوع الجنس وخصوبة المرأة والحشمة، وكل موضوع غطاء الرأس أو عدم وضع غطاء على الرأس. ونرى أن هناك توجهات ليبرالية وفي المقابل هناك توجهات متطرفة جدا".

(*) سؤال: توجد جماعات يهودية تضع النساء فيها غطاء على رؤوسهن؟

إل - أور: "نعم. وقد كتبت مقالا حول هذا الموضوع وهو منشور باللغتين العبرية والانكليزية. وتحدثت فيه عن نساء من بلدة بيت شيمش [شمال غربي القدس]. وهؤلاء نساء يهوديات قررن إضافة أغطية على أنفسهن. وبالإمكان رؤية هؤلاء النسوة في القدس أيضا، وفي شوارع عادية. وفي غالب الأحيان هنّ نساء يهوديات شرقيات، وبعضهن تائبات، ولكن ليس كلهن. ويضعن على ملابسهن الاعتيادية عباءة، ثم يضعن فوقها غطاء آخر، ويضعن غطاء على رأسهن. وأولئك الذين كتبت عنهن لا يمكنهن أن يرين الطريق، بسبب الغطاء، وينبغي على ولد أن يأخذهن بيده ويرشدهن عندما يسرن في الشارع. وهذه مجموعة صغيرة جدا، ولا يتجاوز عددها 150 إلى 200 امرأة في جميع أنحاء البلاد. لكن لديهن نظاما هرميا، وفي قاعدة الهرم توجد مجموعة أخرى تسمى ’نساء الشالات’. ويعتقدن أنه كلما تم وضع أغطية أكثر على أجسادهن فإن وضعهن يكون أفضل. وبالكاد يخرجن من بيوتهن ولا يكشفن عن وجههن. وهناك الجانب الآخر طبعا، مثل طالباتي هنا في الجامعة، وهن متدينات ويحافظن على كل قوانين الشريعة اليهودية ويرتدين سروالا ويضعن شريطا صغيرا على رأسهن".

(*) سؤال: للمرأة في المجتمع الحريدي دور مهم فيما يتعلق بإعالة العائلة. صحيح؟

إل - أور: "نعم. أولا، توجد للمرأة مكانة هامة بموجب الشريعة اليهودية. وللنساء مكانة قوية جدا، وهناك قوانين كثيرة تحميها. لكن بسبب ثراء هذه الثقافة، فإن هناك فتاوى وأحكام دينية مؤيدة للنساء وأخرى معادية للنساء. وينبغي دائما أن نرى أية قوانين يتم تطبيقها وفي أية أوضاع تاريخية. ويمكننا أن نرى أنه في فترات معينة تتبوأ النساء مكانة اقتصادية. وكثيرا ما حدث في أوروبا الشرقية أن أدارت نساء يهوديات متدينات تجارة العائلة وأموالها، بينما كان الزوج طالبا في الييشيفاه. وفي الدولة هنا حدث تشويه بيروقراطي. وبسبب تدخل الدولة في الحياة الثقافية للأفراد الذين يعيشون وفقا للشريعة اليهودية، وتنظيمها من الناحية البيروقراطية من خلال إرجاء الخدمة العسكرية ودفع المخصصات لطلاب الييشيفوت، نشأ وضع يذهب فيه كل فرد في المجتمع الحريدي للدراسة في الييشيفاه، وإلا أخذوه إلى الجيش. وإذا ذهب الحريدي إلى الييشيفاه فإن زوجته ستخرج إلى العمل. وهذا ليس الوضع الطبيعي الذي كان سائدا في المجتمعات اليهودية. فهناك كان يذهب للدراسة في الييشيفاه الشخص الملائم لذلك، وكان المجتمع أو الزوجة أو كلاهما يدعمانه. لكن لم يدرس جميع الحريديم في الييشيفاه. كانوا يتعلمون حتى سن معين وبعد ذلك كانوا يذهبون للعمل. لكن بسبب تدخل الدولة هنا فإنها لم يكن أمام الحريديم خيار سوى الدراسة. وبالمناسبة، هذا الوضع يتغير الآن، بسبب حكومة بينيت - لبيد، ولأسباب أخرى".

الوضع الراهن لم يعد يسمح باستمرار عدم تجنيد الحريديم

(*) سؤال: لكن يوجد الآن خلاف داخل الحكومة حول تجنيد الحريديم، وهناك وزراء مثل وزير الدفاع موشيه يعلون، يؤيدون إرجاء تطبيق قانون التجنيد الخاص بالحريديم؟

إل – أور: "المبدأ بسيط وهو أن الوضع لم يعد يسمح باستمرار عدم تجنيد الحريديم وعدم خروجهم إلى سوق العمل. والحل الذي كان متبعا منذ قيام الدولة حقق نجاحا كبيرا. فقد تمكن المجتمع الحريدي من إعادة بناء نفسه بعد المحرقة وبعد مجيء الحريديم إلى إسرائيل حيث كانت الأجواء هنا معادية لهم، وتمكنوا من بناء عالم طلاب الييشيفوت وعالم الييشيفوت بشكل عام. وانطواء الحريديم على أنفسهم، والامتناع عن التدخل في حياة الدولة، ووضع دراسة التوراة كقانون مقدس ويعلو على أي شيء آخر، وتعاون الدولة مع ذلك، نجح في إنتاج مئات الآلاف من طلاب الييشيفوت وبناء شبكة كبيرة جدا من المؤسسات التعليمية الدينية، التي تعيش على حساب أموال الدولة. وأعتقد أنه بات واضحا للحريديم، منذ وقت طويل، أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. وما زلت على علاقة مع المرأة الحريدية التي رافقتها خلال دراستي للدكتوراه، بين السنوات 1989 و1992، وأرى كيف تعيش. لديها 11 ولدا ولا أعرف أبدا كيف أطعمتهم وكيف ساعدت كل واحد منهم على الزواج وشراء بيت. وهي تشعر الآن بأنه لا يمكن الاستمرار في حالة الفقر التي عاشتها، كما أن فقر أولادها شديد".

(*) سؤال: هل الحل هو أن يخرجوا للعمل وأن ينجبوا أولادا أقل؟

إل - أور: "ربما. كما قال يائير لبيد إن عليهم أن يتحملوا المسؤولية عن أولادهم. وعندما ينجبون الأولاد يجب أن يعرفوا أن عليهم أن يعيلوهم. ورغم أني لا أحب يائير لبيد كسياسي، إلا إنني فرحت لأنه قال هذا الكلام، إذ أنه لم يجرؤ أحد على قول ذلك من قبل. والجميع كانوا يخافون من قوله".

(*) سؤال: كيف ينظر الحريديم إلى دورهم؟ الصلاة طوال الوقت؟ دراسة التوراة طوال الوقت وأن تدفع الدولة لهم المخصصات؟

إل - أور: "نعم. هذا هو دورهم ببساطة. هم يعتبرون أنهم يحافظون على شيء ما أنا لم أعد أحافظ عليه. ولأنهم يحافظون على شيء ما من أجلي وأجلنا، فإنه يجب أن ندفع لهم لقاء ذلك، مثلما يحرس الجندي الحدود، فإنهم يحافظون على التوراة، ولذلك يتعين علي أن أدفع لهم. لكن يوجد عدد كبير جدا من الحريديم الذين لا يريدون الدراسة في الييشيفوت، ويؤلمهم أنهم يدرسون فيها. وهم بائسون ويشعرون بسوء. وهم يتوقون للذهاب إلى العمل وكسب المال. والدراسة في الييشيفاه هي أمر صعب جدا. وبشكل طبيعي يمكن القول إن الدراسة في الييشيفاه تلائم 15 بالمئة من السكان الحريديم. ولذلك يجب السماح لهم بالخروج للعمل. وفي العالم المسياني كانوا دائما يعملون أكثر من العالم الليتواني [الحريديم الأشكناز]. وبعد ذلك أصبح المسيانيون مثل الليتوانيين. وعلى الدولة أن تعطيهم الأدوات للخروج من وضعهم الحالي".

(*) سؤال: الدولة لا تسمح للحريديم بالخروج إلى العمل؟

إل - أور: "لقد سجنتهم الدولة والحاخامون أيضا. الحكومة وافقت على النظام القائم لأنه مريح لتحالفاتها مع الأحزاب الحريدية. وهذا مريح للحاخامين بسبب مصالحهم. ومن خلال تعاون كهذا سجنوهم داخل غيتو من الفقر والجهل الشديدين، الذي يلائم طريقة عيش مجموعة صغيرة، ولا يلائم الأغلبية التي لا تريد أن تعيش بهذا الشكل. والآن نحن في لحظة بات يدرك فيها الحاخامون أنه يجب فتح بوابات هذا السجن، لكن ليس لديهم الشجاعة لقول ذلك. وهم لا يريدون تحمل مسؤولية تاريخية وأن يتهموهم بأنهم اقتحموا بوابات التوراة. ولذلك فإنهم غير قادرين على اتخاذ القرار. والحكومة كانت تتخوف دائما على الائتلاف. ويوجد الآن زخم، وهو أن الذين يشكلون الحكومة لا يخافون من قول ذلك، لكان ما زالت المخاوف نفسها لدى الحاخامين. لكن الانترنت غيّر الوضع كثيرا. يجب أن يخرجوا وأن يكسبوا رزقهم ويخرجوا من الفقر. وهذا لا يعني أنهم سيصبحون علمانيين، وإنما سيبقون حريديم ومتدينين، كما هي الحال في الولايات المتحدة. فهناك الدولة لا تدفع للحريديم، رغم أن جميعهم يتعلمون في مدارس خاصة. والدولة الأميركية لا تدفع قرشا واحدا لمدرسة خاصة. كل النفقات على حساب الأهالي. لكن الدولة تلزم، بموجب القانون، كل من يربي ويعلم أولادا بتدريس المواضيع الأساسية، مثل الانكليزية والرياضيات والحاسوب والتاريخ. حتى لو كانت هذه مدارس خاصة. وهذه مسؤولية الدولة عن مواطنيها. لكن في إسرائيل لا يتم تدريس هذه المواضيع في مدارس الحريديم، وحتى أن المتطرفين بين الحريديم مستعدون للتنازل عن المخصصات ودعم مؤسساتهم من جانب الحكومة. والحاصل الآن هو أن الصهيونية - الدينية بدأت ترفع رأسها الآن. ويوجد لدى الصهيونية - الدينية غضب كبير على الحريديم لأنهم كانوا يصفونهم بأنهم ليسوا متدينين بالشكل الكافي. والآن جاء نفتالي بينيت وقال للحريديم إنه خدم في الجيش وبعد ذلك عمل في صناعة الهاي – تك وأنه متدين حقيقي وسياسي، وأن هذه هي الطريقة الصحيحة كي يكون المرء يهوديا".

(*) سؤال: كيف سيؤثر دور النساء الحريديات، في نهاية الأمر، على مكانة المجتمع الحريدي في إسرائيل، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟

إل - أور: "لقد تم تجنيد هؤلاء النساء، في سن صغيرة جدا، لمشروع الدولة الكبير، وهو مشروع بناء الدولة. وقد علموا الفتاة الحريدية في سن صغيرة أن يكون حلمها بأن ترغب في الزواج من ’أمير’، وهو الطالب في الييشيفاه. وعلموهن أن هذا ما تريده الفتاة الحريدية في حياتها، ومن أجل ذلك عليها أن تعمل بجد من أجل أن يجلس زوجها ويتعلم. وهن بسذاجتهن تجندن لهذه المهمة. والآن عليهن أن يدركن ويعملن من أجل العودة إلى حياة طبيعية أكثر. والرجال الحريديم، اليوم، يقومون بدور كبير في تربية الأولاد. فهم الذين يأخذونهم إلى المدرسة أو روضة الأطفال، لأن الزوجة تخرج إلى العمل في الصباح الباكر. والرجال هم الذين يأخذون الأولاد من المدرسة في الظهيرة. وبالمناسبة، النساء الحريديات يعرف كيف يبنين لأنفسهن مستقبلا مهنيا. وهن يعملن من أجل تغيير الواقع في مجتمعهن وملاءمة المجتمع مع الواقع، مثل أن يذهب للدراسة في الييشيفاه من هم ملائمون لذلك فقط، والباقون إلى سوق العمل. وهن يدركن أن هذا سيسمح لأولادهن ببناء حياة طبيعية أكثر ومجتمعا طبيعيا أكثر. لكن ما زلنا بعيدين عن رؤية وضع تكون فيه نساء حريديات في مكانة قائدات مجتمع".

لا أتوقع نشوء "دولة حريدية"

(*) سؤال: كيف سيؤثر المجتمع الحريدي على صورة إسرائيل؟

إل - أور: "هذا سؤال كبير جدا. وما رأيناه في البداية، هو أن المجتمع الحريدي هو مجتمع معاد للصهيونية. من جهة ثانية، فإنه مما لا شك فيه أن مصلحة الدولة هي أن ينجب الحريديم الكثير من الأولاد، وإيجاد حرب ديمغرافية [ضد العرب]. والآن يوجد لدينا يهود، ولكن أي نوع من اليهود هم؟ أعتقد أنه بعد ثلاثين عاما سيحدث الانفجار الكبير، كالذي حدث في فترة التنوير، وشيئا فشيئا سيخرج معظم الحريديم من العالم الحريدي. وسوف يبحثون عن التعليم والاندماج في العالم العادي. وأنا لا أتوقع نشوء دولة دينية هنا من جرّاء أن الحريديم سيشكلون أغلبية. ربما أكون متفائلة. لكننا نعلم أنه عندما يضطرون إلى العمل فإن عدد أولادهم سيتقلص. ومن الناحية السياسية، فإن الحريديم كانوا إما معادين للصهيونية أو فوق صهيونيين. وفي كثير من الأحيان كانت الأحزاب الحريدية في الجانب المعتدل من الخريطة السياسية. وكلما تدخلت أكثر في المجتمع الإسرائيلي، أصبحت تتجه نحو اليمين. وأحضر الحريديم معهم توجهات عنصرية، لسبب بسيط هو وجود نزعات عنصرية كثيرة في اليهودية إزاء الغوييم (الأغيار)، أي غير اليهود. وفي الماضي كانوا يحرقون أعلام إسرائيل في ميئا شعاريم [حي حريدي في القدس]. والآن ضعفت كثيرا التوجهات المعادية للصهيونية. وفي اندماجهم داخل صفوف المجتمع الإسرائيلي فإنهم يجلبون شحنات يهودية بشأن كيفية مواجهة الأغيار، وهذه شحنات عنصرية بامتياز. وبإمكاننا أن نرى هذا الأمر في الأفكار السياسية للأحزاب الحريدية التي تغيرت كثيرا عما كانت عليه في الماضي. من جهة أخرى فإنهم لا يعبرون عن مواقف عسكرية، وهم ملزمون بأن يكونوا في المستقبل جزءا من دولة إسرائيل، وهذا الأمر من شأنه أن يغير وجه الدولة".    

التعليقات