"القدس السفلى": تهويد من تحت الأرض

منذ احتلال القدس عام 1967، لم تتوقف سلطات الاحتلال عن محاولات تهويدها بشتى الطرق، من تهجير السكان العرب والتضييق عليهم وهدم أحيائهم لطمس كثير من الآثار العربية والإسلامية، وهذه الأمور الظاهرة، بالتزامن مع الحفر تحت البلدة القديمة وتحت الحرم القدسي طوال عشرات السنوات، بحثًا عن أصر للهيكل المزعوم، لكن هذه الحفريات بقيت طي الكتمان.

"القدس السفلى": تهويد من تحت الأرض

مستوطنون يطلون على ساحة البراق وقبة الصخرة (أ.ف.ب)

منذ احتلال القدس عام 1967، لم تتوقف سلطات الاحتلال عن محاولات تهويدها بشتى الطرق، من تهجير السكان العرب والتضييق عليهم وهدم أحيائهم لطمس كثير من الآثار العربية والإسلامية، وهذه الأمور الظاهرة، بالتزامن مع الحفر تحت البلدة القديمة وتحت الحرم القدسي طوال عشرات السنوات، بحثًا عن أصر للهيكل المزعوم، لكن هذه الحفريات بقيت طي الكتمان.

وكانت أكبر محاولات التهويد هي هدم حي المغاربة وسوق المغاربة، ومنع العرب من الدخول إلى المسجد الأقصى من الباب الذي يحمل اسم الحي والسوق، واستغلاله لاحقًا لاقتحامات المستوطنين، حتى باتت الاقتحامات في السنوات الأخيرة شبه يومية، كذلك دمرت قوات الاحتلال ساحة البراق ومنحتها لليهود تحت اسم 'حائط المبكى'، لتكون أول خطوة على طريق تقسيم المسجد الأقصى مكانيًا.

ومؤخرًا، كشف تقرير لصحيفة هآرتس عن وجود 'القدس السفلى'، وهي المدينة التي تم حفرها تحت البلدة القديمة والحرم القدسي وبعض أحياء القدس الشرقية، والتي، بحسب التقرير، يتم تهويد كل الآثار التي يعثر عليها، لتصبح المدينة 'خالية من العرب والمسلمين، إذ تم تحويل اسم الحمام المملوكي إلى الرحلة إلى أورشليم، وتم تحويل الخان المملوكي إلى القاعة الواقعة خلف حائط المبكى'.

الحفر والتهويد

تدعي السلطات الإسرائيلية أن الحفر لا يمتد إلى المسجد الأقصى، وأن آخر محاولة للحفر تحته كانت عام 1981 بطلب من 'حاخام حائط المبكى'، يهودا غيتز، وبعد فشلها بالعثور على أي آثار، تم سد النفق الذي بدا منه الحفر ولم تعاود السلطات الكرة، إلا أن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس والمسجد الأقصى تنفي هذه الادعاءات، وتؤكد مواصلة محاولات الحفر طول السنوات الماضية، الأمر الذي سبب الكثير من التصدعات وانهيار بعض المنشآت في باحات المسجد.

ويؤكد تقرير الصحيفة أن الحفريات أفضت إلى وجود مدينة كاملة تحت الأرض مكونة من أنفاق وممرات أثرية وسرية، ومساحات واسعة تم تحويلها إلى قاعات للصلاة وأخرى من أجل إقامة طقوس دينية، كالـ'بارميتسفا' وغيرها، وأنه 'لا يدخل المدينة أي عربي أو مسلم أو مسيحي.

ويشير تقرير الصحيفة إلى أن سياسات الحفر والتهويد اتخذت منحى آخر مهم وتسارعت وتيرتها في العام 1996، عندما افتتح ما سمي 'نفق الهيكل' في شهر أيلول من قبل رئيس بلدية الاحتلال في القدس آنذاك، إيهود أولمرت، برعاية رئيس الحكومة آنذاك، بنيامين نتنياهو، في ولايته الأولى، وبحضور عراب تهويد المدينة، إيرفينغ موسكوفيتش.

وفي هذا السياق، يؤكد مفتي الديار المقدسة السابق، عكرمة صبري، لـ'عرب 48'، أن 'هذه الحفريات أثرت بشكل مباشر على منشآت المسجد والأبنية المحاذية له، وأدى إلى تصدعات في السور الجنوبي وانهيار مباني وبيوت ملاصقة للسور الغربي للحرم وفي البلدة القديمة وحي سلوان، وهذه الحفريات تشكل تهديدًا خطيرًا للمسجد ومنشآته بسبب تفريغ التربة من تحته وكشفه للأساسات، والأقصى معلقًا ومن الممكن أن ينهار في أي وقت'.

واعتبر صبري أن سلطات الاحتلال 'تستحدث كنسًا تحت المسجد الأقصى بسبب عدم عثورهم على أي أثر يؤكد رواية الهيكل المزعوم، ويعرضون الآثار الإسلامية والعربية للعالم على أنها تعود للتاريخ العبري، وشرعًا لا تجوز صلاة اليهود في هذه القاعات'.

إمبراطورية 'إلعاد' الاستيطانية

 ووفقًا للتقرير، كل هذه الحفريات والأعمال مرتبطة بجمعية 'إلعاد' الاستيطانية، ومشروع 'الحديقة التوراتية' التي تهدف الجمعية إلى إقامتها على حساب أراضي سلوان ووادي حلوة، جنوبي البلدة القديمة. وتنطلق الحفريات بالأساس من منطقة في هذه الحديقة باتجاه ساحة البراق، ومنها تتفرع الأنفاق الحفريات التي تؤدي إلى 'البلدة السفلى'، لتصل إلى أحياء في البلدة القديمة وبمحاذاة درب الآلام (فيا دو لوروزا)، حيث ينتهي نفق البراق في باب الواد، الذي أعلن عنه عام 1996 وتسبب باندلاع مواجهات عنيفة في حينه، سميت 'انتفاضة النفق'.

كما يشير التقرير إلى أن 'هذه الفضاءات والمساحات التي تولّدت تحت الأرض بفعل أعمال الحفريات الإسرائيلية، وسط تعتيم كامل على كل ما يحدث وما يتم العثور عليه من موجودات أثرية أو أثار كاملة، تطرح تساؤلات مهمة للغاية في مقدمتها سؤال من صاحب الملكية على هذه الفضاءات من كهوف وأنفاق وقاعات تقع تحت الأرض، ولكن بالأساس تحت بيوت الفلسطينيين. وهل يمكن فعلًا مواصلة عمليات حفريات أثرية عبر ضخ كميات هائلة من المواد الخرسانية والإسمنت المسلّح، لتثبيت البيوت الفلسطينية فوق السطح ومنع انهيارها، وسط إقصاء كامل للفلسطينيين عن هذه العمليات الأثرية؟ خصوصًا وأن طريق الحفر المستخدمة ليست الطريقة الحديثة، التي تقضي بالبدء من الطبقة العليا نزولًا إلى الأسفل مع استجلاء كافة الطبقات الأثرية، بل تقوم طريقة الحفريات الإسرائيلية بالحفر عموديًا وبشكل مباشر وصولا إلى الطبقات اليهودية، مع إغفال الطبقات الأثرية للعهود الأخرى بما فيها العهود الإسلامية المختلفة من العباسيين إلى العثمانيين'.

ويُبرز التقرير أربع جهات إسرائيلية أساسية، يراها 'أوجدت القدس الباطنية' تحت الأرض وهي: 'سلطة الآثار الإسرائيلية'، وشركة 'تطوير شرقي القدس'، و'صندوق تراث حائط المبكى'، وجمعية 'إلعاد' الاستيطانية، التي حصلت لغاية الآن على تمويل وتبرعات من جهات مختلفة، بينها جهات حكومية رسمية لتمويل مشروع الحديقة التوراتية في 'مدينة داود'، أي في سلوان.

قاعات للإيجار ومتاحف للتاريخ اليهودي

توضح صورة نشرتها الصحيفة لمسارين أساسيين من الأنفاق والطرق الممتدة تحت الأرض، التي تُشكّل الإطار العام لخريطة 'المدينة تحت الأرض'، الواقعة أساسًا تحت الأحياء العربية في القدس المحتلة. وتكشف الخريطة أن أعمال حفر نفق القناة الكنعانية، تبدأ من سلوان وصولًا إلى ساحة البراق ونفق البراق.

 وتشير الخريطة أيضًا إلى وجود المتاحف التاريخية اليهودية تحت الأرض، غربي حائط البراق، ووضعت نقاط حمراء تشير إلى تجويفات وقاعات تحت الأرض، في منطقة الباب الجديد، في البلدة القديمة، القريب من شارع 'يافا'، وفي وقف مقبرة مأمن الله، وفي الكهف الكبير عند باب العامود المسمى بالقاموس الصهيوني اليهودي، ناهيك عن تجويفات وقاعات تحت الأرض تقوم بعضها تحت كنيسة القيامة، وأخرى مثل البركة التوراتية، تحت كنيسة راهبات صهيون.

وبحسب التقرير، أحد أهداف المشروع في النهاية أن يكون مصدر دخل، عن طريق العثور على شبكة من الأنفاق والممرات التاريخية أسفل البلدة القديمة يزورها السياح، وتحويلها إلى أماكن عامة يمكن استئجارها من قبل اليهود الذي يتبرعون للمشروع بأكثر من 36 ألف دولار، لإقامة طقوس دينية. ويؤكد التقرير أن بعض هذه القاعات أصبحت جاهزة تقع تحت بيوت الفلسطينيين في البلدة القديمة، وتم الوصول لهذه القاعات عن طريق الحفر من مواقع استطاعت جمعية 'إلعاد' الاستيطانية الاستيلاء عليها ومنحها للمستوطنين.

ويرى وزير شؤون القدس السابق، حاتم عبد القادر، في حديثه لـ'عرب 48'، أن هدف إسرائيل هو 'بناء قدس سفلى يستولون عليها، في محاولة لإثبات أحقيتهم التاريخية المزعومة، ويستغلونها للسياحة الدينية وسلب البلدة القديمة، ومن الممكن أن تؤدي الحفريات وتفريغ التربة إلى هشاشة في أساسات الحرم والبلدة القديمة، التي تهدد بهدمهم في حال حصول زلزال طبيعي أو صناعي، تبقى بعده المدينة السفلى'.

وأكد عبد القادر أن الإسرائيليين 'يدعون أنهم لا يحفرون تحت المسجد الأقصى، فهم بالنسبة لهم المسجد الأقصى هو قبة الصخرة والمسجد القبلي، أما بالنسبة لنا فالمسجد الأقصى هو 144 دونم التي تحدها الأسوار'.

وقال عبد القادر إن السلطة الفلسطينية توجهت للأمم المتحدة واليونسكو، لكن 'إسرائيل منعت بعثة المحققين التي أرسلتها اليونسكو من الدخول والتحقيق في أماكن حفر الأنفاق، وتحديد خطورتها'. وذكر أن الحفر يتم بسرية كاملة من مناطق يسيطر عليها المستوطنون بالكامل، لذلك لا يمكن دخولها والتحقيق فيها.  

الحفريات لا تضيف شيئًا للعلم والتاريخ

وكشف مصدر شارك في الحفريات لـ'عرب 48'، طلب عدم الكشف عن اسمه، أن الحفر لا علاقة له بالأغراض العلمية ولا يراعي أدنى قواعدها، بل هدفه سياسي وتجاري بحث، تهويد المدينة واجتذاب سياح لدر دخل للمؤسسات الممولة للحفر، وعلى رأسها جمعية 'إلعاد' الاستيطانية.

وأكدت طالبة للقب الثاني في موضوع الآثار الإسلامية في الجامعة العبرية، لـ'عرب 48'، رفضت الكشف عن اسمها، أن 'التنقيب على الآثار له قواعد معينة وجب الاتزام بها، رغم اختلاف التوجهات والتكتيكات من عالم لآخر بحسب الموقع والآثار المستهدفة والمدة الزمنية والميزانية، منها تحديد هدف البحث وعدم تعريض حياة الناس للخطر، والتنقيب عن الآثار يكون عادة من الأعلى وليس من الجانب'.

وقال المختص في علم آثار الشرق القديم، شادي عمر، لـ'عرب 48'، إن ا'لمدينة الرومانية وشوارعها وميادينها الرئيسية معروفة، ولا يمكن أن تدعي السلطات أن الحفر لأغراض بحثية أو علمية، لأن هناك الكثير من الطرق لكشف الآثار غير الحفر وتعريض بيوت المواطنين للهدم'.

ويؤكد عمر أن 'في حال حاولت إسرائيل الادعاء أن الحفر لغرض العلم واكتشاف آثار تاريخية، فلتظهر الآثار التاريخية التي أهملتها وتسببت بهدم بعضها ومنحت الكثير منها للمستوطنين بلا أي اعتبار لقيمتها التاريخية والعلمية، مثل المباني الأموية والخانات وغيرها'. 

التعليقات