أنفاق غزة: إخفاق إسرائيلي متواصل

تقرير مراقب الدولة الإسرائيلي حول العدوان على غزة، الذي نشر أمس، سبقته تقارير مشابهة ولم تتمكن إسرائيل من مواجهة الأنفاق الهجومية ويبدو أنها لن تتمكن في المستقبل أيضا، لأن قادتها يرفضون استيعاب دروس وعِبر الماضي

أنفاق غزة: إخفاق إسرائيلي متواصل

مقاتل من الجهاد الإسلامي الفلسطيني داخل نفق في غزة (أ.ف.ب.)

العاصفة الحاصلة في إسرائيل في أعقاب نشر مراقب الدولة، يوسف شبيرا، تقريرا أمس، الثلاثاء، حول إخفاق القيادتين السياسية والعسكرية أثناء العدوان على غزة في صيف العام 2014، المسمى بعملية 'الجرف الصامد' العسكرية، ستحوم فوق رؤوس الإسرائيليين لعدة أيام ثم تزول. ووصف الإسرائيليين للأنفاق الهجومية التي حفرتها فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وفي مقدمتها حركة حماس، بأن هذه الأنفاق تشكل 'تهديدا إستراتيجيا' لا يعني شيئا.

وعلى ما يبدو، بحسب التجربة التاريخية القصيرة، لن تتمكن إسرائيل من مواجهة هذا 'التهديد الإستراتيجي' ولن تتمكن من تدمير الأنفاق ومنع فصائل المقاومة من استخدامها عسكريا، إلا إذا قرر الإسرائيليون أن يهدموا قطاع غزة كله على رأس سكانه، البالغ عددهم مليونا نسمة، وباستخدام سلاح نووي سيقضي على عدد كبير من الإسرائيليين أيضا. ويعني ذلك أن انتصار إسرائيل على غزة هو أمر مستحيل.

وهذا ليس كلاما أو وصفا أو تقديرا عاطفيا أبدا. فإسرائيل تعاملت مع الأنفاق منذ ثمانينيات القرن الماضي. وفي حزيران/يونيو العام 2006، تمكن المقاتلون في غزة من أسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط، من داخل الأراضي الإسرائيلية عِبر نفق هجومي، وفيما كان شاليط يتواجد بين زملائه الجنود. وبقي شاليط في الأسر قرابة خمس سنوات ونصف السنة من دون أن تتمكن إسرائيل بجيشها 'الأقوى في المنطقة' ومخابراتها 'النوعية' أن تعرف أو أن ترصد، ولو مرة واحدة طوال هذه السنوات، مكان احتجازه.

ووفقا للتقارير الإسرائيلية، وربما يكون المخفي أعظم لأنه تكون لدى المقاومة (أية مقاومة) مفاجآت دائما، فإن الأنفاق في غزة أربعة أنواع: أنفاق هجومية تتجاوز الحدود إلى إسرائيل، أنفاق قتالية دفاعية داخل القطاع، أنفاق لنقل أسلحة والأفراد تتجاوز الحدود إلى سيناء، وأنفاق أو ملاجئ تحت الأرض تتواجد فيها القيادة خاصة أثناء الحرب.

 

وتقرير المراقب الإسرائيلي الحالي ليس الأول من نوعه حول أنفاق غزة. فقد نشر مكتب المراقب تقريرا مشابها، في العام 2007، بعد أن عكف على منذ العام 2005. أي أن مراقب الدولة تناول موضوع الأنفاق في تقريره ذاك، فيما كانت لا تزال إسرائيل بجيشها ومستوطناتها موجودة بشكل فعلي في القطاع، وقبل تنفيذ خطة الانفصال، في صيف العام 2005.   

وتطرق ذاك التقرير إلى السنوات 2001 – 2004، وإلى 'الأنفاق المفخخة' التي تفجرت تحت أقدام جنود الاحتلال الإسرائيلي ودباباته. وخلص التقرير في حينه إلى وجود 'إخفاق متواصل في معالجة قضية الأنفاق' بسبب عيوب في تعامل قوات الأمن الإسرائيلية مع 'تهديد الأنفاق' في ثلاثة مجالات دقق مكتب المراقب فيها، وهي: المفهوم التشغيلي والمجهود التكنولوجي والأداء الاستخباراتي ضد الأنفاق. ويتبين من تقرير المراقب الذي نُشر أمس، أن إسرائيل لم تتمكن من فعل شيء ضد الأنفاق في غزة، فيما تؤكد التقارير أن منظومة هذه الأنفاق قد تطورت وأن حفر الأنفاق مستمر حتى اليوم.   

ووفقا لتقرير نشرته القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، أمس، فإنه تواجه قوات الأمن الإسرائيلية إشكالية كبيرة إذا ما أرادت تدمير الأنفاق، بسبب تعقيدات هذه الأنفاق وطبيعة بنائها. فهذه الأنفاق تبدأ في مكان ما تحت مبنى يقع على بُعد كيلومترين من الحدود، وتجاوز الحدود إلى داخل إسرائيل لمسافة مشابهة. ومسار هذه الأنفاق، خصوصا داخل القطاع، ملتوٍ من أجل منع تأثير تفجير بداخله على النفق كله. كذلك فإن كل واحد من هذه الأنفاق الهجومية، تتشعب إلى عدد من الأنفاق، ولكل واحد منها فتحة تحت بيت عادي يتحصن تحته مقاتلو المقاومة. وتمتد هذه الأنفاق إلى داخل الأراضي الإسرائيلية.

وأكدت القناة الثانية أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كذب على الجمهور الإسرائيلي عندما أعلن أن القضاء على الأنفاق خلال فترة وجيزة. وشددت القناة الثانية على أن تدمير أي نفق يحتاج إلى فترة طويلة، ما بين عدة أيام إلى أسابيع، بسبب تعقيدات هذه الأنفاق الشائكة، وسيتعين على القوات الإسرائيلية أن تجتاح أطراف قطاع غزة، وأنها ستتعرض لنيران المقاومة الفلسطينية وستتكبد خسائر كبيرة.

كذلك قال تقرير نشره موقع 'واللا' الالكتروني، اليوم الأربعاء، إنه رغم الاستثمارات الإسرائيلية ورصد ميزانيات لمواجهات الأنفاق الهجومية، إلا أن لا يوجد 'حل سحري' ولا 'اختراع' و'بالتأكيد لا توجد قدرة استخباراتية متكاملة' لمواجهة الأنفاق.

الأنفاق كمثال للإخفاق

أصاب تقرير المراقب، أمس، الإسرائيليين بالذهول بسبب شدة الانتقادات الموجهة إلى نتنياهو ووزير الأمن السابق، موشيه يعالون، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، ولمؤسسات الحكم الحساسة، مثل مجلس الأمن القومي، وأجهزة الاستخبارات. فقد أكد التقرير على أن كل هؤلاء أخفقوا في أدائهم. ورد نتنياهو ويعالون على التقرير من خلال مهاجمة المراقب شبيرا. بينما أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، أن الجيش يستخلص العبر ويعمل على تحسين أدائه في النقاط التي أشار إليها التقرير.

نتنياهو ويعالون وغانتس، أثناء العدوان على غزة (أ.ف.ب.)

لكن معظم المحللين في الصحف الإسرائيلية الصادرة اليوم، أجمعوا على أن السياسيين يحاولون تسييس التقرير، من خلال الادعاء بأن المراقب تبنى رواية رئيس كتلة 'البيت اليهودي'، الوزير نفتالي بينيت، العضو في المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت) حاليا وأثناء العدوان على غزة. وقد طالب بينيت أثناء العدوان باجتياح قطاع غزة وتدمير الأنفاق، وهو ما رفضه يعالون، محذرا أن نتائج اجتياح كهذا ستكون كارثية بالنسبة لإسرائيل لأنه سيسقط خلاله عدد كبير جدا من القتلى الإسرائيليين.

إلا أن نتائج التقرير أدت إلى فقدان الإسرائيليين الثقة بقيادتهم وأن هناك شعور 'بخيانة الثقة'، وفقا للمحلل العسكري في صحيفة 'يديعوت أحرونوت'، ألكس فيشمان، الذي اعتبر قضية الأنفاق أنها مجرد مثالا على الإخفاق.

وأردف فيشمان أن 'المراقب اختار أن يركز على الأنفاق واكتشف ثقبا أسود، لكن من يضمن لنا أنه لو سلط الضوء على تهديد إستراتيجي آخر فإنه لن يجد هناك الكسل نفسه؟ فإذا كانت عناية المؤسستين السياسية والعسكرية بالأنفاق بهذا الشكل، لماذا ستبدي مسؤولية أكبر حيال الاعتناء بتهديدات أخرى؟'.  

ورأى فيشمان أن المراقب أهدر وقته فيما يتعلق بالكابينيت، الذي لن يستخلص الدروس، لأنه مؤلف من وزراء 'يعانون من مرض تضخم الأنا، والمصلحة العامة تهمهم مثلما تهمهم قشرة بصلة'. وأشار إلى أن المراقب أكد على أن نتنياهو لم يذكر 'تهديد الأنفاق' خلال مداولات الكابينيت إلا 'كملاحظات هامشية'، ولذلك فإنه 'ليس مستغربا أن الوزراء الذي أدلوا بإفادات أمام المراقب لم يتذكروا أنه جرى بحث هذا الموضوع'.

'الإخفاق السياسي'

لفت المراسل والمحلل السياسي في صحيفة 'هآرتس'، باراك رافيد، اليوم، إلى أن المراقب أشار في تقريره إلى أن الإخفاق الإسرائيلي الأكبر أثناء العدوان على غزة كان 'الإخفاق السياسي'. والقصد هو أن الحكومة الإسرائيلية لم تأبه بالأزمة الإنسانية والاقتصادية التي عانى منها قطاع غزة قبل العدوان ولفترة طويلة، رغم التحذيرات من عواقب أزمة كهذه على إسرائيل، التي تم طرحها أمام الحكومة، وخاصة خلال اجتماع للكابينيت عُقد في نيسان/أبريل العام 2013.

وكتب رافيد أن الحكومة الإسرائيلية لم تفعل شيئا في هذا السياق، وأن نتنياهو ويعالون ووزير الخارجية في حينه، أفيغدور ليبرمان، 'لم يعقدوا ولو اجتماعا جديا واحدا' للتداول في أزمة غزة. بل أنه عندما تم عقد اجتماع للكابينيت للتداول في السياسة الإسرائيلية تجاه غزة، 'جرى استعراض القضية بصورة ضيقة وكأنها قضية عسكرية وحلولها عسكرية فقط'. وفي أعقاب ذلك، 'رفض نتنياهو ويعلون إمكانية تنفيذ خطوات إسرائيلية سياسية من شأنها أن تؤدي إلى استقرار أو لتحسين الوضع في غزة'، فيما وزراء الكابينيت 'صمتوا وصادقوا على توصيات الجيش'.

وفي موازاة ذلك، يتبين إخفاق الاستخبارات الإسرائيلية، وكذلك يعالون، الذين استعرضوا تقديرات مفادها أن وجهة حماس ليست نحو التصعيد، وذلك رغم التقارير حول الأزمة الإنسانية في القطاع. لكن إسرائيل صعّدت هذه الأزمة. فقبل العدوان، قرر نتنياهو فرض عقوبات على حكومة الوفاق الفلسطينية، في بداية حزيران/يونيو 2014، كما أن ليبرمان، كوزير خارجية، سعى بعد ذلك بثلاثة أسابيع إلى الإعلان عن مبعوث الأمم المتحدة، روبرت سري، أنه 'شخص غير مرحب به' لأن الأخير سعى إلى حل أزمة الرواتب لموظفي السلطة الفلسطينية في غزة.

واقتبس رافيد من كتاب لسري، صدر مؤخرا بعنوان 'البحث غير المتوقف عن سلام إسرائيلي – فلسطين'، قوله إن الحكومة الإسرائيلية نفسها وافقت، في تشرين الأول/أكتوبر 2014، أي بعد شهرين من انتهاء العدوان، على المساعدة في حل أزمة الرواتب في غزة.

وذكر تقرير المراقب ثلاث مرات قول ليعالون في اليوم الثاني للعدوان، إنه 'لو تم توفير رد لضائقة حماس قبل عدة شهور لربما امتنعت حماس عن التصعيد الحالي'، علما أن تقديرات يعالون قبل الحرب قالت إن وجهة حماس ليست نحو التصعيد.

قصف غزة، 2014 (أ.ف.ب.)

ويذكر أن العدوان الإسرائيلي على غزة بدأ في السابع من تموز/يوليو واستمر لخمسين يوما، وهو من أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل، سقط خلالها آلاف الصواريخ في إسرائيل، خاصة في تل أبيب، وقُتل خلال 73 إسرائيليا غالبتهم العظمى جنود. لكن هذا العدوان زاد من حدة الأزمة في القطاع، بعد استشهاد 2200 فلسطيني وتدمير عشرات آلاف البيوت، ولا تزال إسرائيل تمنع إعادة الإعمار في القطاع وتمارس سياسة حصار خانق. ولا شك في أن الأوضاع في قطاع غزة تنذر بحرب مقبلة.

ملاحظات

تؤكد إشارة تقرير المراقب إلى 'الإخفاق السياسي' أن ثمة أهمية لخطوات تنفذها إسرائيل تجاه قطاع غزة من أجل رفع المعاناة عن سكانه وتفادي حربا جديدة، لن تحقق فيها إسرائيل شيئا باستثناء إلحاق المزيد من القتل والدمار في القطاع. لكن هذا التوجه ترفضه حكومات إسرائيل، وبالمناسبة لا ترفض حكومة نتنياهو فقط. إذ أن العدوان على غزة في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 شنته حكومة حزب 'كديما'، برئاسة ايهود أولمرت، وبمشاركة حزب العمل الإسرائيلي، الذي تولى رئيسه حينذاك، ايهود باراك، وزارة الأمن.

ورغم أن جميع الحروب التي شنتها إسرائيل كانت حروبا عدوانية، إلا أنها منذ حرب أكتوبر العام 1973 لم تحقق أية مكاسب. ورغم استخدامها قوة عسكرية هائلة في هذه الحروب إلا أنها لم تنتصر في أي منها. ويزيد من صعوبة انتصار إسرائيل في الحروب، أنها لم تعد تخوضها ضد دول وإنما ضد منظمات شبه دولتية، ويؤدي ذلك إلى تلاشي أحد أركان العقيدة الحربية الإسرائيلية وهو الردع. فقد أصبح هناك توازن ردع بين إسرائيل وهذه المنظمات، وخاصة حماس وحزب الله.

غير أن دعاة الحرب في إسرائيل يواصلون التحريض على شن الحروب العدوانية، وأبرزهم الوزير بينيت، الذي يوصف الآن بأنه 'الكاسب' من التقرير الحالي لمراقب الدولة، بادعاء أنه شخّص تهديد الأنفاق. لكن بينيت، ومعه ليبرمان، حرضا أثناء عدوان 2014 على احتلال قطاع غزة كله. ودعا بينيت في الأسابيع الأخيرة إلى استئناف العدوان على القطاع، واصطدم هذه المرة مع وزير الأمن ليبرمان، الذي قال، مثلما قال يعالون في حينه، إن حماس لا تريد التصعيد.

لكن إذا استمرت المعاناة الفلسطينية في غزة، ومع الإدراك أن تخفيفها هو بأيدي إسرائيل، وعندما يكون ظهر الفلسطينيين ملتصق بالحائط، فإن التصعيد آت لا محالة. فعندما تنتهي لغة السياسة، تقرع طبول الحرب. وإخفاقات إسرائيل ستتواصل. 

 

التعليقات