إسرائيل والتحذير من مصير مشابه للدولة الصليبية

الشبه بين الصليبيين والصهاينة يشد الأبصار. الحركتان نقلتا أعدادا كبيرة من البشر من أوروبا إلى "الأرض المقدسة"، ولأن الحركتين جاءتا من أوروبا رأى فيهما السكان المحليون غزاة غربيين

إسرائيل والتحذير من مصير مشابه للدولة الصليبية

أحد جنود الاحتلال (أ.ف.ب.)

تحت عنوان "كي لا نكون مثل الصليبيين"، نشر الصحافي المخضرم وداعية السلام الإسرائيلي، أوري أفنيري، مقالا حذر فيه من أن يكون مصير الإسرائيليين كمصير الدولة الصليبية.

وكشف أفنيري، الذي أشار في مقاله الى العديد من أوجه الشبه بين "الغزو الصليبي" والغزو الصهيوني"، أنه كان شغوفا بالصليبيين، منذ عام 1948، عندما اكتشف أنهم تمترسوا في نفس الاستحكامات التي تمترس فيها الصهاينة (إذ كان مقاتلا منظمة "إيتسل" ولاحقا في منظمة "الهجاناة") مقابل شواطئ غزة، وأن احتلال القطاع، الذي امتد حينها حتى شواطئ عسقلان، استغرق من الصليبيين عشرات السنين.

وأضاف أفنيري أنه قرأ، بعد الحرب، كل كتاب وقعت يده عليه عن الصليبيين وأن سحرهم ازداد تأثيره عليه كلما قرأ عنهم أكثر، حتى أنه كتب رسالة الى مؤلف الكتاب الأكثر مصداقية عن الصليبيين، المؤرخ البريطاني ستيفن رانسيمان، وفوجئ عندما تلقى ردا سريعا منه دعاه فيه إلى زيارته في بيته في لندن إذا ما سنحت له الظروف.

أفنيري "لم يقصّر" كما يقولون، وفعلا قام بزيارة المؤرخ المذكور في بيته في لندن كما يروي. وبادره بالسؤال الذي أشغله: "هل فكرت عندما ألّفت الكتاب بوجه الشبه بين الصليبيين وصهاينة اليوم؟" فكان جوابه بأنه لم يفكر بأي شيء آخر دون ذلك، بل أنه فكر بإضافة عنوان فرعي للكتاب، "دليل للصهاينة كي لا يفعلوا ذلك" (المقصود ألا يقعوا بالأخطاء التي وقع فيها الصليبيون وأدت إلى اقتلاعهم)، إلا أن أصدقاءه اليهود نصحوه بعدم إضافة هذا العنوان.

الشبه بين الصليبيين والصهاينة يشد الأبصار، كما يقول أفنيري. الحركتان نقلتا أعدادا كبيرة من البشر من أوروبا إلى "الأرض المقدسة"، ولأن الحركتين جاءتا من أوروبا رأى فيهما السكان المحليون غزاة غربيين. ولم ير الصليبيون ولا الصهاينة يوما واحدا من السلام، والشعور الدائم بالخطر العسكري هو الذي بلور تاريخهم وثقافتهم وطبيعتهم.

"عهد الصليبيين شهد فترات قصيرة من وقف إطلاق النار، خاصة مع دمشق، ولنا يوجد اتفاقات سلام مع الأردن ومصر"، يقول أفنيري، "ومثلما هو حاصل اليوم، فإنه في حينه أيضا، استفاد الصليبيون من انقسام العرب وخلافاتهم حتى جاء صلاح الدين الكبير ووحد العرب وهزم الصليبيين في معركة حطين. وبعد تلك المعركة استقر الصليبيون من جديد في جزء من البلاد وأمضوا أربعة أجيال أخرى".

ويواصل أفنيري تعداد أوجه الشبه بقوله، إن الصليبيين والصهاينة رأوا بأنفسهم رأس جسر للغرب في محيط غريب ومعاد، وجاء الصليبيون كجيش الغرب لاحتلال "الأرض المقدسة"، وكتب بنيامين زئيف هرتسل في كتابه "دولة اليهود" أنه "سنخدم في فلسطين كجيش إنقاذ للحضارة (الأوروبية) ضد البربرية (الإسلامية) وجبل الهيكل (الحرم القدسي الشريف) الذي كان مقدسا لدى الصليبيين ما زال يشكل بؤرة صراع يومي".

وفيما يتعلق بأوجه الشبه المرتبطة بالمصالحة والسلام يقول افنيري إن "المشروع الصليبي تأسس على تحرير"الأرض المقدسة" من العدو الأزلي المتمثل بالمسلمين، وهو ما حال مسبقا دون أية إمكانية للسلام مع "أعداء الله"، بالمقابل فإن الصهاينة يتحدثون عن السلام بدون توقف، حتى أنه لا يمر أسبوع دون أن يتحدث نتنياهو عن توقه للسلام، لكن بات واضحا أنه لا يحلم بإعادة سنتيمتر واحد من الأرض الواقعة غربي نهر الأردن، وصرح، مؤخرا، أنه لا يعتزم إخلاء أي مستوطنة من الضفة الغربية".

أفنيري، الذي راودته هذه الأفكار وهو يتأمل التحصينات الصليبية على شاطئ قيسارية، يجد كما كبيرا من الفروق بين الحركتين الصليبية والصهيونية، فوارق بحجم البعد الزمني الفاصل بين القرن الـ11 والقرن الـ21، كما يقول، إلا أنه يرى أن المقارنة بين الحركتين توفر مادة دسمة للتفكير، بالذات عندما يجلس المرء على شاطئ قيسارية أمام سور المدينة الصليبي البعيد بضعة كيلومترات فقط من ميناء عتليت الذي ألقي منه أواخر الصليبيين إلى البحر، ليسجل ببساطة نهاية الحقبة الصليبية في البلاد قبل 726 عاما.

جدير بالذكر أن أفنيري ليس أول من يقارن بين الدولة الصهيونية والدولة الصليبية، وإن جاء مقاله في من باب التحذير وقرع ناقوس الخطر أمام الإسرائيليين. وفي هذا السياق يحضرنا المقال الذي كتبه د. عزمي بشارة قبل سنوات تحت عنوان "إسرائيل والخيار التاريخي" والذي خلص فيه إلى نتيجة أن إسرائيل اختارت نموذج الدولة الصليبية.

ويقول بشارة في مقاله إنه "لم يعد بوسع المحلل والمراقب المسيس تجاهل التشابه بين السياق ’العربي’ ’الإسرائيلي’ الحالي وحال الدول الصليبية في عصرها في المنطقة العربية، فقد رفضت ’إسرائيل’ السلام العادل مع الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، ونقصد ذاك الممكن والمتمثل بالعيش المشترك في ’دولة واحدة’ ديمقراطية لجميع مواطنيها العرب واليهود، بحيث تشكل جزءا من المنطقة العربية، أو ذاك الحل الآخر الممكن والمتمثل بتسوية في ’حل الدولتين’ مع ضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين. وقد اختارت ’إسرائيل’ نموذجا ثالثا حتى بعد ’أن تبنى العرب حلولا ومبادرات سلمية طرحت رسميا’ عليها. هي اختارت نموذج الدولة الصليبية".
ويشير بشارة إلى أن الدول الصليبية الأربع لم تعش بالفروسية والحصون وحدها، وما كان بإمكانها ذلك أصلا، بل إن الدولة الصليبية نجحت طيلة 190 عاما، بواسطة الجمع بين الحصون والقلاع والتسويات والمعاهدات مع أمراء وسلاطين ومماليك، وفي الرهان على خلافاتهم في تحالفات مع بعضهم ضد بعضهم الآخر.

ويخلص بشارة إلى القول إن هذه التسويات لم تتحول إلى سلام، ولم تقبل شعوب المنطقة بالدولة الصليبية. فاستمرت هذه نبتة غريبة ثقافيا وحضاريا وسياسيا. وفي النهاية أصبح امتحان الزعامة العربية الإسلامية في تقديم نماذج لمحاربتها وهزيمتها، وأن الدولة الصليبية انتهت رغم جمعها بين التسويات وحملات القتل والإبادة.

ولا يفوت بشارة التذكير أن تعبير "الصليبية" نفسه هو تعبير أوروبي متأخر (وليس عربيا أو إسلاميا)، يعود إلى مؤرخي القرن السابع عشر في فرنسا. أما العرب فقد أسموهم الإفرنج أو الفرنجة. والتعبير لا يعني المسيحية (بالتأكيد ليس الشرقية، ولا حتى الغربية) ولا يتطابق معها..

التعليقات