إسرائيل: لكل زمن حدود

تاريخيا، لا وجود لمصطلح "أرض إسرائيل الكاملة"، فهذا مصطلح حديث نسبيا. لكن إسرائيل ترفض تعريف حدودها، ليس فقط لأنها ترفض ترسيم حدود كهذه، وإنما لأنها لا تعرف كيف ستتطور هذه الحدود مع محاولات متواصلة لتوسيعها

إسرائيل: لكل زمن حدود

جنديان إسرائيليان وأردني في بيت صفافا (أرشيف)

ترفض إسرائيل، كدولة كولونيالية، تعريف حدودها. وسيتهرب أي سياسي إسرائيلي من الإجابة على سؤال حول ترسيم هذه الحدود. ليس فقط لأنه يرفض ترسيم حدود كهذه، وإنما لأنه لا يعرف كيف ستتطور هذه الحدود في المستقبل، لأن إسرائيل تحاول توسيع حدودها باستمرار. وبحسب آباء الصهيونية "البراغماتية"، وكذلك بحسب آباء الأيديولوجيات الدينية اليهودية المتطرفة، وبضمنها الصهيونية الدينية، فإن الحدود المتخيلة لإسرائيل ليست ضمن نطاق فلسطين التاريخية فقط، وإنما تتجاوز ذلك. وتستند المواقف الإسرائيلية في هذا الصدد إلى تفسيرات التوراة، في حالة الأيديولوجيات الدينية، وبعضها الآخر إلى النواحي الأمنية وتوسيع هجرة اليهود إلى فلسطين، في حالة الصهيونية السياسية "البراغماتية".

تاريخيا، لا وجود لمصطلح "أرض إسرائيل الكاملة". فهذا مصطلح حديث نسبيا، ظهر في أعقاب الحديث عن تقسيم فلسطين في فترة الانتداب البريطاني، في النصف الأول من القرن الماضي. ويؤكد الباحث والمحاضر السابق في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفيسور أرييه ناؤور، الذي أشغل منصب سكرتير حكومة مناحيم بيغن الأولى، في الأعوام 1977 – 1982، في كتابه "أرض إسرائيل الكاملة: المعتقد والسياسة"، على أن "مصطلح ’أرض إسرائيل الكاملة’ يفتقر إلى جذور تاريخية. دائما كانت لأرض إسرائيل أهمية دينية، تاريخية ورمزية، من دون تعريف واضح لحدودها. وبمرور الوقت بدأت تحدث تغييرات كبيرة جدا في مسألة الحدود، عكست واقعا إثنوغرافيا، عسكريا وسياسيا في حينه. وفي التوراة، تم وصف حدود البلاد في أماكن مختلفة، وليست موحدة".

"حدود الوعد الإلهي"

ويوجد خلاف بين أوساط اليهودية الأرثوذكسية حول نوعين من الحدود، رغم أن كلا التعريفين يستند إلى الأسطورة التوراتية. هناك "حدود الوعد"، أي بموجب الوعد الإلهي، وهي الأوسع، ويعتبر من يؤمنون بها أن "أرض إسرائيل" تمتد ما بين نهري الفرات والنيل والبحر المتوسط. وهناك "حدود الخارجين من مصر"، التي توصف بأنها أصغر من "حدود مملكة داود وسليمان". إضافة إلى ذلك، هناك حدود رسمها "حَزال" (اختصار لـ"حكمائنا يرحمهم الله"، الذين أعادوا بلورة الديانة اليهودية في القرون الأولى بعد الميلاد وفي أعقاب خراب الهيكل الثاني – حسب المعتقدات اليهودية). ويعتبر "حزال" أن الحدود التي يتحدثون عنها هي لغرض إقامة الفرائض الدينية ولها قيمة دينية فقط.

وبالنسبة لليهود في العالم، أو ما يسمى بـ"يهود الشتات"، فإن الفرائض المتعلقة بالبلاد هي نظرية وحسب، ولذلك لم تكن هناك حاجة لرسم حدود البلاد. وكانت مسألة الحدود هامشية للغاية بين اليهود في العالم، طوال القرون الوسطى، ولم ينشغلوا بهذه المسألة، لأن العبادة لم تكن مقرونة بسيادة قومية، قبل ظهور الحركة الصهيونية. وحتى في أدبيات "الكابالا" (أو "القبالة"، وهي بمثابة الصوفية اليهودية)، التي شددت على إقامة الفرائض والعبادات الدينية من خلال احتلال الأرض المقدسة، لم تتطرق إلى مسألة الحدود، وإنما تحدثت عن "كمال البلاد" كمصطلح روحاني فقط.

حدود الحركة الصهيونية

لم تكن فلسطين وحدة سياسية واحدة إبان الحكم العثماني، وكانت مقسمة إلى ولايات غير قومية أو إثنية. لكن في نهاية هذا الحكم، وخاصة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت هجرة يهودية من أوروبا إلى فلسطين، وإقامة مستوطنات فيها، ازداد عددها واتسعت مساحتها في بداية القرن العشرين. وبعد رفض الحركة الصهيونية إقامة كيان يهودي في أوغندا، تم الاتفاق على أن حل "مسألة اليهود" يجب أن يكون في فلسطين. لكن حتى حينها لم تعرّف الحركة الصهيونية حدود الكيان اليهودي في فلسطين، وفقا لكتاب "الجيل الأخير لحكم العثمانيين في أرض إسرائيل" للباحث في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، البروفيسور دافيد كوشنير.

وبحسب باحثين إسرائيليين (بينهم موشيه برافر في كتابه "حدود إسرائيل"؛ يتسحاق غال-نور في كتابه "وعاد الأبناء إلى حدودهم")، فإن الحركة الصهيونية رأت أنه توجد حاجة لتعريف مسألة الحدود قبيل انعقاد مؤتمر السلام في نهاية الحرب العالمية الأولى، وأنه تعين على الحركة الصهيونية أن تستعرض موقفا واضحا خلال "مؤتمر فرساي"، ولأول مرة توصيف المنطقة التي سيقام فيها "الوطن القومي اليهودي" تحت رعاية الانتداب البريطاني المستقبلي في فلسطين. إذ أن "وعد بلفور" الجائر، من العام 1917، لم يعرف حدود "الوطن القومي" لليهود في فلسطين، علما أن اتفاق سايكس – بيكو، في العام 1916، وصف حدود البلاد في إطار تقسيم الوطن العربي إلى دول، بموجب المصالح البريطانية والفلسطينية.

وفي أعقاب مفاوضات أجراها مندوبو الحركة الصهيونية، وعلى رأسهم حاييم وايزمان، مع بلفور ومساعديه، وضعت الحركة الصهيونية "مذكرة الهستدروت الصهيوني بشأن أرض إسرائيل". واستند الموقف الصهيوني في هذه المذكرة إلى "العلاقة التاريخية للشعب اليهودي مع البلاد كأساس أيديولوجي، وكانت الاعتبارات التفصيلية عملية. وطرحت المذكرة المطلب المبدئي بالاعتراف بالحقوق التاريخية للشعب اليهودي في أرض إسرائيل، من خلال التشديد على العلاقة بين ضفتي الأردن"، واعتبر معدو المذكرة أن "المصادقة على الحدود التي رسموها من شأنها أن تنشئ الظروف التي تضمن إقامة الوطن القومي ككيان حكم ذاتي" (ناؤور).

وطالبت المذكرة، التي تم تقديم صيغتها النهائية في شباط/فبراير العام 1919، أن يشمل هذا الكيان مصادر المياه في شمال البلاد و"الحقول الخصبة شرقي نهر الأردن"، وأن يمتد خط الحدود في الشمال من البحر المتوسط جنوب مدينة صيدا إلى قرية بيت جن الواقعة شرقي جبل الشيخ؛ وفي الشرق، تمر هذه الحدود بمحاذاة سكة حديد الحجاز (شرقي نهر الأردن) حتى عمان ومن هناك إلى خليج العقبة؛ وفي الجنوب، يتحدد رسم الحدود بالاتفاق مع حكومة مصر؛ وفي الغرب، البحر المتوسط.

وايزمان (من اليمين) واللورد بلفور

ورغم هذه الحدود الواسعة، إلا أن أعضاء في اللجنة التنفيذية للهستدروت الصهيونية اعترضوا عليها واعتبروا أن المذكرة قدمت "تنازلات إقليمية وسياسية" وطالبوا بتوسيع الحدود شرقي سكة حديد الحجاز. لكن كان هناك تأييد واسع لوايزمان، الذي رد على المعارضين بالقول إن "الحدود التي اقترحناها تمنحنا حيّزا كافيا. دعونا أولا نملأ المنطقة داخل الحدود. وسيستغرق جيل من الاستيطان اليهودي حتى نصل إلى سكة حديد الحجاز. وبعد أن نصل إليها، سنتمكن من تجاوزها" (بروتوكول اللجنة التنفيذية الصهيونية).

حزيران 67: "حرب تحرير"

في 29 تشرين الثاني/فبراير العام 1947 صدر قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقسم البلاد إلى دولتين، عربية ويهودية. وكان هذا القرار الشرارة التي أشعلت حرب العام 1948 والنكبة التي تم خلالها ترحيل الغالبية العظمى من الفلسطينيين عن وطنهم. ولم ترحّل المنظمات الصهيونية، والجيش الإسرائيلي بعد الإعلان عن قيام إسرائيل، غالبية الفلسطينيين في مناطق الدولة اليهودية فقط، وإنما رحّلت غالبية الفلسطينيين الذين تواجدوا في مناطق احتلتها إسرائيل من الدولة العربية. وبحسب قرار التقسيم، فإن الدولة العربية تقام في 42.3% من مساحة فلسطين والدولة اليهودية في 57% من مساحة فلسطين، والقدس تكون تحت إدارة دولية. لكن إسرائيل احتلت قسما من مناطق الدولة العربية وغربي القدس، باستثناء الضفة الغربية وشرقي القدس وقطاع غزة. وتسلمت منطقة المثلث من الأردن. وبذلك تكون قد وسّعت إسرائيل حدودها، منذ عام 1948، أكثر مما منحها قرار التقسيم وأصبحت تسيطر على 72% من فلسطين.

وحاولت إسرائيل توسيع حدودها عندما احتلت شبه جزيرة سيناء خلال العدوان الثلاثي على مصر، لكنها أرغمت، بضغوط أميركية، على الانسحاب منها بعد أشهر قليلة. لكن الخطاب السائد في إسرائيل بعد ذلك تحدث عن توسيع الحدود والادعاء بأن السلام سيسود باحتلال المزيد من الأراضي العربية. وبعد حرب حزيران/يونيو العام 1967، التي احتلت إسرائيل فيها الضفة والقطاع وهضبة الجولان السورية وسيناء المصرية، استخدم الإسرائيليون، وبينهم وزراء عبارة أطلقها وزير القضاء حينها، يعقوب شمشون، وهي "تحرير أجزاء واسعة من أرض إسرائيل من عبء الأغراب". وصرح وزير الأمن في حينه، موشيه ديان، بعد أسبوع من انتهاء الحرب، أن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي المحتلة للتو. وأعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، ليفي اشكول، بعد الحرب مباشرة أنه "ربما تكمن في أجنحة النصر فترة جديدة من تغيير القيم، العلاقات والحدود. الانتصار في الحرب يمكن أن يجلب معه انتصارا باستقدام السلام المستديم".

والنظرة الإسرائيلية إلى حرب حزيران/يونيو العام 1967 هي أن هذه "حرب تحرير"، وأن "هدفها هو التوسيع الجغرافي للاستقلال السياسي، وليست "حربا دفاعية’ فقط... ودراسة الأمور التي قيلت عشية الحرب والشعور بالهلع والرعب تجاهها، لا يبقي مكانا للشك في أن نية إسرائيل كانت منذ البداية شن الحرب من أجل توسيع حدودها" (ناؤور). وكتب في هذا الاتجاه الخبير القانوني الإسرائيلي البروفيسور أمنون روبنشطاين، في مقال نشره في صحيفة "هآرتس" بعد الحرب مباشرة، واعتبر فيه أنه "نحن أصحاب السيطرة، ولذلك فإنه كلما مرّ وقت أكثر يصبح الواقع الجديد الذي أنشأه الجيش الإسرائيلي ستاتيكو (أي الوضع القائم). والزمن سيجعل العالم يعتاد خريطة إسرائيل الجديدة".

واستقرت "أيديولوجية الستاتيكو" بواسطة قرار اتخذته الحكومة الإسرائيلية بعد الحرب مباشرة. وبعد ذلك شملتها الخطوط العريضة لحكومة غولدا مئير، في كانون الأول/ديسمبر العام 1969، إثر الانتخابات العامة، وجاء فيها إنه "بعدم وجود اتفاقيات سلام، ستحافظ إسرائيل بالكامل على الوضع الناشئ بعد وقف إطلاق النار، وتحصن مكانتها، وستأخذ بالحسبان احتياجاتها الحيوية لأمنها وتطورها".

الوضع اليوم

وسّعت إسرائيل حدودها من الناحية الفعلية، رغم عدم اعتراف العالم بذلك. فقد سن الكنيست الإسرائيلي قانون ضم القدس لإسرائيل، في العام 1967، وفي العام 1981 سن قانون ضم الجولان لإسرائيل. ومنذ بداية سنوات الألفين بنت إسرائيل جدار الفصل العنصري، بادعاءات أمنية، لكنها أكدت أيضا أن بناءه جاءت لأسباب سياسية، أي توسيع الحدود لتشمل الأراضي المحتلة في القدس وجزءا من الضفة. وتطالب إسرائيل، من الناحية الرسمية فقط، بضم الكتل الاستيطانية إليها، علما أنها كثفت الاستيطان ووسعت المستوطنات خارج هذه الكتل والمنتشرة في أنحاء الضفة، تمهيدا لضم هذه المناطق إليها أيضا.

وعارض رئيس المعارضة حينذاك ورئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي، بنيامين نتنياهو، اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، في العام 1993. ويعتبر نتنياهو، وقد صرح بذلك طوال السنوات الأخيرة، أن الطريق إلى السلام هي عن طريق "بناء قوة إسرائيل حتى يدرك العرب أنها ليست ظاهرة عابرة". ولذلك، بحسب نتنياهو، فإن على إسرائيل أن تسيطر "عسكريا وأمنيا" على الضفة الغربية حتى بعد قيام دولة فلسطينية، وهو ما وصفه "الحيز الجغرافي المطلوب لأمننا".

وفي موازاة ذلك، يدعو نتنياهو، وأحزاب اليمين، إلى تشجيع هجرة اليهود من أنحاء العالم إلى إسرائيل، بادعاء أن ذلك سيثبت للعرب عموما والفلسطينيين خصوصا أن إسرائيل ليست دولة صليبية زائلة. وهو يعتبر أيضا أن هجرة يهودية لإسرائيل ستقنع العرب أنه لا يوجد احتمال لأن تتقلص مساحة إسرائيل. ويقصد ب"إسرائيل" ليس الدولة في حدود ما قبل حرب حزيران/يونيو 1967، وإنما تلك المنطقة التي اتسعت بعد هذه الحرب.

التعليقات