بعد إلغائه عملية "أولمبيا": بيغن صادق على اغتيال عرفات

رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحيم بيغن، صادق عام 1982 على اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لبنان، في عملية يُنشر عنها للمرة الأولى، بعد شهر من إلغائه عملية تفجير استاد كبير في بيروت، تحسبا من مقتل دبلوماسيين أجانب

بعد إلغائه عملية

عرفات في بيروت الغربية في آب/أغسطس 1982 (أ.ب.)

بعد شهر من قرار رئيس الحكومة الإسرائيلية، مناحيم بيغن، إلغاء عملية "أوليمبيا" لاغتيال قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وفي مقدمتهم زعيما المنظمة؛ ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد)، بتفجير كبير في استاد بيروت الذي أطلق عليه لاحقا اسم الرئيس اللبناني كميل شمعون، عام 1982، صادق بيغن على تنفيذ عملية أخرى لاغتيال عرفات. وهذه المرة الأولى التي يكشف فيها عن هذه العملية، وفقا لتقرير محلل الشؤون الاستخبارية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رونين برغمان، اليوم الجمعة.

وحسب بيرغمان، اكتشفت الاستخبارات الإسرائيلية في حينه أن قيادة منظمة التحرير تعقد اجتماعا في إحدى الدول المجاورة للبنان مرة في الشهر، وتتوجه القيادة إلى مكان الاجتماع بقافلة سيارات. وكان عرفات ينضم أحيانا إلى هذه الاجتماعات. واتضح للاستخبارات الإسرائيلية أن قافلة السيارات تسير بسرعة فائقة لدى توجهها إلى مكان الاجتماع، وأنها تستخدم طرقا بعينها.

وفي إحدى ليالي شباط/فبراير العام 1982، وصل جنود إسرائيليون إلى مفترق طرق مركزي تمرّ فيه القافلة، ونصبوا كاميرات في هذا المفترق، وبعدها باتت تُنقل صورة حية إلى مقر للجيش في إسرائيل.

عرفات وأبو جهاد في طرابلس عام 1982 (أرشيف)

وفي ليلة تنفيذ الاغتيال، في 5 آذار/مارس 1982، وصلت قوة إسرائيلية أكبر إلى مفترق الطرق نفسه، قبل ساعات قليلة من عبور قافلة سيارات القيادة الفلسطينية فيه، وحمل أفرادها مواد متفجرة، وحفروا آبار في جانب الطريق، وبدأوا يضعون المتفجرات فيها. وقضت الخطة الإسرائيلية بأنه لدى مغادرة القافلة بيروت، تحصل الاستخبارات الإسرائيلية على إشارة من جواسيسها، وعندما تقترب القافلة من إشارة وُضعت على شجرة في المفترق، يتم تفجير العبوات ناسفة عن بعد. وقد تم التخطيط لأن يُقتل جميع ركاب قافلة السيارات، لكن لم يكن معلوما إذا كان عرفات بينهم.

وفي فجر ذلك اليوم، مرّ في المكان شرطي لبنان، وساورته شكوك بعدما شاهد سيارات خالية من الركاب، التي استخدمتها القوة الإسرائيلية، لكنه فوجئ برؤية أشخاص يجلسون القرفصاء. وبعدما سألهم عما يفعلونه، تذرعوا بأنهم قادمون من حفل زفاف، وأنهم تناولوا طعاما فاسدا، وأصيبوا بالإسهال، بينما كانوا يجلسون على صناديق المتفجرات.

وحسب بيرغمان، فإن الجنود الإسرائيليين أمسكوا بمسدساتهم خلف ظهورهم، ولو اقترب الشرطي اللبناني أكثر قليلا منهم لقتلوه. لكن الشرطي تمتم بكلمات وابتعد ثم غادر المكان. وقرر قادة الجيش الإسرائيلي، الذين تواجدوا في إحدى القواعد العسكرية في إسرائيل، قرروا عدم المخاطرة، وألغوا عملية الاغتيال بمصادقة وزير الأمن، أريئيل شارون، وسحب الجنود من الأراضي اللبنانية.

تفجير بيوت مدنيين

أشار بيرغمان إلى أن عددا قليلا جدا من الضباط الإسرائيليين كانوا مطلعين على مخطط عملية "أولمبيا" لاغتيال القادة الفلسطينيين من خلال تفجير استاد بيروت. ولم يتم اطلاع المسؤولين في وزارة الأمن والجيش، ولا بيغن أيضا.

والأشخاص الذين نسجوا خطة الاغتيال الدموية والوحشية هذه، هم بالأساس: رئيس أركان الجيش، رفائيل إيتان؛ قائد المنطقة الشمالية للجيش، يانوش بن غال؛ ضابط العمليات الخاصة، مئير داغان، الذي أصبح رئيس الموساد بعد ذلك بعشرين عاما. لم يعلم بخطة الاغتيال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، يهوشع ساغي، ولم تتم المصادقة عليها في أي هيئة، ولا حتى هيئة الأركان العامة للجيش.

وكان داغان قد أقام مقرا سريا لوحدته في بلدة مرج عيون، وترأس هذا المقر الضابط دافيد أغمون، وهو أحد القلائل الذين اطلعوا على خطة الاغتيال. وقال داغان حول هذه الخطة إن "الهدف كان التسبب بحالة فوضى في أوساط الفلسطينيين والسوريين في لبنان، وجعلهم يشعرون أنهم معرضون طوال الوقت للهجوم وإدخال شعور انعدام الأمن لديهم".

شارون في لبنان، عام 1982 (أ.ب.)

وحسب شهادة بن غال، فإنه كان يقرر سوية مع إيتان شن عمليات عسكرية من دون الحصول على موافقة مستويات أعلى، وأن إيتان كان يشترط "ألا يخرج شيئا مكتوبا من كل هذا، ولا أريد أن يعلم أحد بذلك". وأشار بن غال إلى أنه "لم نعمل وفقا للبيروقراطية العسكرية، لأننا نفذنا هذه العمليات ولم ننفذها".

وقال الضابط السابق في قيادة المنطقة الشمالية، والذي اصبح لاحقا عضو كنيست ووزيرا عن حزب العمل، أفراييم سنيه، إنه خلال عمليات بن غال وداغان في لبنان، تم تفجير بيوت "متعاونين مع الفلسطينيين، كي يعلم الجميع إن من يعمل مع منظمة التحرير الفلسطينيين، سيعاقب". وقُتل في تلك الفترة عدد كبير من المدنيين، بينهم نساء وأطفال في هذه العمليات الإسرائيلية.

وقال رئيس "أمان" ساغي إن بن غال "حاول منعي من الدخول إلى مقر قيادة المنطقة الشمالية أو زيارة المنطقة". وأضاف الضابط السابق ورئيس دائرة الأبحاث في "أمان"، عاموس غلبواع، أنه "كان يدور صراع متواصل مع قيادة المنطقة الشمالية. لقد تجاوزونا، وعملوا من وراء ظهرنا، ويانوش كذب طوال الوقت. والخطورة في كل هذا الأمر هو أنه نُفّذ بمصادقة رئيس أركان الجيش، الذي احتفظ بسرية هذه العمليات بعيدا عن هيئة الأركان العامة. وقد كانت هذه إحدى الفترات الأكثر فوضوية والأكثر بشاعة في تاريخ الدولة".

واكتشف "أمان" خلال التحقيقات التي أجراها مع مقاتلين فلسطينيين، تم أسرهم في لبنان، معلومات حول طبيعة العمليات التي قادها داغان في جنوب لبنان. وبعد أن أدركوا في "أمان" أن إيتان وبن غال وداغان ينسقون فيما بينهم، قرروا إبلاغ المستوى السياسي وتوجهوا إلى نائب وزير الأمن حينها، مردخاي تسيبوري. وقال ساغي لتسيبوري أنه "تدور في لبنان عمليات حرب عصابات جامحة ولم تتم المصادقة عليها". وطالب تسيبوري، الذي أبلغ بيغن بطبيعة العمليات وسلوك الضباط، بإقالة بن غال.

وخلال اجتماع عقده بيغن في مقر وزارة الأمن في تل أبيب، سأل بن غال عما إذا حصل على إذنٍ بتنفيذ العمليات من مستوى أعلى منه، أي إيتان، وأجاب بن غال "نعم سيدي رئيس الحكومة، حصلت على إذن". وأشار بيرغمان أن ضباط "أمان" أدركوا أن بيغن فضّل التعامل مع الجرائم في لبنان على طريقة "لم أعلم، لم أسمع، لم أرَ".

شارون وزيرا للأمن: عمليات سرية لتبرير اجتياح لبنان

عيّن بيغن شارون وزيرا للأمن، وكانت إحدى خطواته الأولى في المنصب، وفقا لبيرغمان، الإيعاز للجيش الإسرائيلي بالتخطيط لعملية عسكرية كبيرة في لبنان. وواجه شارون صعوبة في شن عملية كهذه، لأنه قبل أشهر معدودة من تعيينه، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين إسرائيل ومنظمة التحرير بوساطة أميركية. وكان شارون وإيتان قد عارضا الاتفاق.

ومن أجل الالتفاف على وقف إطلاق النار، أوعز شارون لداغان بتصعيد عملياته السرية في لبنان. وقال سنيه عن ذلك إن "الهدف في المرحلة الثانية من هذه العمليات كان زرع الفوضى في المناطق الفلسطينية في صور وصيدا وبيروت، لكي تشكل سببا حقيقيا ومبررا لاجتياح إسرائيلي".

ونقل بيرعان عن المسؤول السابق في الموساد، رافي إيتان، الذي استعان شارون به، قوله إنه "منذ منتصف العام 1980 وحتى نشوب حرب سلامة الجليل (اجتياح لبنان) في العام 1982، نفذنا عشرات كثيرة من العمليات ضد الفلسطينيين، وكانت بالأساس إدخال متفجرات، جهّزتها قواتنا، إلى مخيمات (اللاجئين) ومنشآت وسيارات الفلسطينيين في جنوب لبنان. وجميع هذه العمليات جرت بمصادقة رئيس أركان الجيش، وزير الأمن عيزر وايزمان، وبعده شارون. ونصحاني عيزر ورفائيل إيتان بألا أبلغ بيغن بهذه العمليات، ووافقت. ومنذ نهاية العام 1980 وحتى منصف 1981 لم يعلم رئيس الحكومة وحكومته شيئا طبيعة العمليات التي نُفذت بأوامرنا".

ومن أجل "تبييض" هذه العمليات واطلاع بيغن عليها، أقنعه رافي إيتان بوجوب إقامة قوة عسكرية إسرائيلية جديدة في لبنان، وقد صادق بيغن على ذلك. "لكن بيغن لم يكن يعلم أن هذه القوة تعمل منذ فترة"، حسب بيرغمان. وقال رافي إيتان إنه "في صيف 1981 فقط، أبلغت بيغن بالعمليات التي نّفذت، والتي حتى ذلك الحين لم تكن معروفة ولم تتم المصادقة عليها".

في حينه، لم يقع عرفات في الفخ الذي نصبه شارون، بأن ترد منظمة التحرير على التفجيرات في لبنان بإطلاق قذائف باتجاه إسرائيل، وبدلا من ذلك حمّل عرفات إسرائيل بهذه التفجيرات. ونقل بيرغمان عن مسؤول "رفيع جدا" في الموساد قوله إنه "بدعم من شارون ارتكبت أمور رهيبة. وأنا لست نباتيا وأيدت عمليات اغتيال نفذتها إسرائيل، لكن الحديث هنا عن قتل جماعي من أجل القتل، وزرع فوضى وهلع في أوساط المدنيين أيضا".

قوات الاحتلال الإسرائيلي في بيروت، آب/أغسطس 1982

وفي أحد الاجتماعات قبيل تنفيذ عملية "أولمبيا"، بتفجير استاد بيروت، مرر رافي إيتان قصاصة ورق إلى سنيه، كتب فيها أنه "إذا نجحت العملية، ستسقط المسؤولية علينا فورا". وأوضح سنيه أن المقصود هو أن رافي إيتان كان يأمل بأن "قادة منظمة التحرير الذي لن يموتوا في تفجير الاستاد، سيعرفون ما ينبغي فعله، أي مهاجمة إسرائيل، خرق وقف إطلاق النار وتوفير ذريعة لشارون كي يجتاح لبنان".

ورغم احتجاج المسؤول في جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) على عملية "أولمبيا"، إلا أن الاستعدادات لتنفيذها بدأ. وفي ليلة 20 كانون الأول/ديسمبر 1981، قبل مؤتمر القيادة الفلسطينية بعشرة أيام تقريبا، تسلل ثلاثة عملاء من الشيعة إلى استاد بيروت وزرعوا كميات كبيرة من العبوات الناسفة تحت المقاعد التي سيجلس عليها القادة الفلسطينيين، وفي موازاة ذلك تم تجهيز مركبات مفخخة بينها سيارتي مرسيدس تحمل الواحدة منهما 250 كيلوغرام متفجرات وشاحنة محملة بطن ونصف الطن من المتفجرات، وكانت جاهزة للانطلاق من إسرائيل إلى لبنان.

وعلم رئيس "أمان" ساغي بخطة الاغتيال، وسارع إلى إبلاغ تسيبوري، الذي اصبح وزير الاتصالات، وحذر من أنه قد يجلس دبلوماسيون أجانب في مقاعد الشخصيات الهامة في الاستاد. وقال تسيبور إن "مسألة الدبلوماسيين بحد ذاتها هي أمر خطير، لكن الأخطر، وبكثير، هو أنهم ينفذون عمليات كهذه من دون مصادقة الحكومة".

وأمر بيغن، مساء اليوم الذي سبق تنفيذ تفجير الاستاد، شارون بالحضور إلى منزله. وطلب شارون من رفائيل إيتان وداغان مرافقته. وطلب بيغن الاستماع إلى تفاصيل خطة الاغتيال الجماعي. وقال داغان أن "أشخاص من الشيعة أدخلوا المتفجرات، ولا يوجد احتمال أن ينجو عرفات. وأيدينا لن تتسخ. فالشيعة فعلوا ذلك، مسائل داخلية بينهم. ونحن لسنا في هذه المسألة".

بيغن مع مستوطنين من "غوش إيمونيم" في سبسطية (مكتب الصحافة الحكومي)

لكن بيغن سأل عن احتمال تواجد دبلوماسيين أجانب في الاستاد. ورغم نفي داغان احتمالا كهذا، لكن ساغي قال إنه يتوقع وجود دبلوماسيين "وغذا حدث لهم شيئا فإننا قد ندخل إلى أزمة خطيرة جدا مقابل العالم". وقال بيغن "إنني أعتقد أنه يجب قتل ياسر عرفات لكن من دون قتل أبرياء" وأمر بإلغاء عملية "أولمبيا".

التعليقات