06/02/2016 - 16:55

الاتحاد العام التونسي للشغل.. إرث حشّاد في محاربة الاستبداد

كان عهد السحباني (1989 - 2000)، عندما أودع السجن بتهمة الفساد، عهد الوئام التام بين الاتحاد ونظام بن علي، إذ أيّد الاتحاد ترشح بن علي، ليخلف نفسه في انتخابات 1994.

الاتحاد العام التونسي للشغل.. إرث حشّاد في محاربة الاستبداد

في العشرين من كانون ثاني/يناير المنصرم، انقضت 70 عامًا على تأسيس "الاتحاد العام التونسي للشغل"، المنظمة العمالية الوحيدة، والتي أسسها فرحات حشاد عام 1946، قبل أن تغتاله "اليد الحمراء" (منظمة إرهابية سرية فرنسية)، في ضاحية رادس بالعاصمة تونس، في ديسمبر 1952.

وقبل تأسيس الاتحاد، مرّت الحركة العمالية التونسية بتجربتين نقابيتين، الأولى هي "جامعة عموم العملة التونسية" التي أسسها محمد علي الحامي، عام 1924، وتصدى لها الاستعمار الفرنسي، أما التجربة الثانية فهي "جامعة عموم العملة التونسية الثانية" عام 1936، والتي قادها بلقاسم القناوي، وقد اندثرت إثر خلافات لرئيسها مع الحزب الحر الدستوري الجديد، بقيادة الحبيب بورقيبة.

ربما لم يدر بخلد حشاد (1914 - 1952)، عندما انفصل عن النقابات الفرنسية عام 1945، أنه سيؤسس واحدة من أعرق النقابات في العالم العربي وأكثرها تأثيرًا، حيث أسس الاتحاد العام للشغل مع نقابيين آخرين، أبرزهم الشيخ فاضل بن عاشور، المدرس بجامع الزيتونة، والتأم المؤتمر التأسيسي قبالة الجامع الأعظم (جامع الزيتونة الذي كان في ذلك الوقت بمثابة المعهد الثانوي والجامعة التي تدرس التلاميذ والطلبة وتمنحهم شهادات) بمقر المدرسة الخلدونية.

تم تنظيم ذلك، بعد أن تأكد حشاد ورفاقه، أن النقابات الفرنسية لا تدافع عن العمال التونسيين الرازحين تحت الاستعمار، بنفس الدرجة التي تدافع فيها عن حقوق نظرائهم الفرنسيين.

ومن المفارقات التي قد تغيب عن أذهان الجيل الجديد من اليساريين، الذين يناضلون الآن داخل الاتحاد، أن الشيوعيين التونسيين آنذاك لم يلتحقوا بنقابة "حشاد"، بل أسسوا نقابة خاصة بهم سموها "الاتحاد النقابي لعملة القُطر التونسي" بعد حوالي 10 أشهر من تأسيس الاتحاد، إلّا أن التنظيم النقابي الموالي للحزب الشيوعي التونسي، أنهى وجوده، تلقائيًا، خلال مؤتمر استثنائي انعقد بتونس في 2 كانون الأول/ديسمبر 1956، أي بعد 10 أشهر من حصول تونس على استقلالها من فرنسا في 20 آذار/مارس 1956.

مرّ الاتحاد العام التونسي للشغل في علاقته بدولة الاستقلال بمراحل من التعايش والوفاق، وكذلك الصدام الدامي.

وبدأ الاتحاد مرحلة الاستقلال بوفاق مع حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987)، إذ وقف النقابيون مع بورقيبة، ضد صالح بن يوسف (اغتيل بألمانيا في أغسطس/آب1961)، خلال مؤتمر "الحزب الحر الدستوري" بمدينة صفاقس في نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، ومقابل ذلك شارك نقابيون في أول حكومة كوّنها بورقيبة بعد الاستقلال، إذ أسندت وزارات لقياديين نقابيين هم مصطفى الفيلالي، وعبد الله فرحات، والأمين الشابي، ومحمود المسعدي.

واستمرت العلاقة بين وئام وتوتّر، إلى أن وقعت أحداث يناير 1978، أو ما يسميه النقابيون "الخميس الأسود" عندما استقال أمين عام الاتحاد الحبيب عاشور، من قيادة الحزب الاشتراكي الدستوري بزعامة بورقيبة، وأعلن إضرابًا عامًا، فوجهت السلطات تهمة "التآمر" للقيادة النقابية، وسقط عشرات الضحايا في مواجهات بمختلف المدن التونسية بين النقابيين وقوات الأمن.

بعد إطلاق سراح عاشور من السجن عام 1980، إثر ضغوط كبيرة من النقابات الدولية، أعادته السلطة إلى السجن ثانية سنة 1985، ولم يخرج منه حتى الثامن من نوفمبر/تشرين أول 1987، بعد وصول الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، إلى السلطة بيوم واحد فقط، وكان الإفراج عن عاشور، مشروطًا بابتعاده عن العمل النقابي.

كثير من النقابيين اعتبروا إبعاد عاشور "إقصاء للخط النقابي المستقل عن المنظمة"، وعلى إثر أول مؤتمر للاتحاد، في أبريل/ نيسان 1989، بمدينة سوسة، وبعد ترتيبات عديدة قامت بها السلطة بالتوافق مع شق من النقابيين، فازت قائمة مدعومة من تحالف يساري عاشوري (نسبة إلى الحبيب عاشور)، على قائمة الإسلاميين، الذين كان لهم حضور مهم في المؤتمر، وتم انتخاب اسماعيل السحباني، على رأس المنظمة.

كان عهد السحباني (1989 - 2000)، عندما أودع السجن بتهمة "الفساد"، عهد الوئام التام بين الاتحاد ونظام بن علي، إذ أيّد الاتحاد ترشح بن علي، ليخلف نفسه في انتخابات 1994.

بينما كان يتم تطويع القيادة النقابية التي كانت تحرص على حضور الاحتفالات الرسمية بعيد العمال في قصر قرطاج (الرئاسة)، كانت النقابات القطاعية والأساسية، فضاءً لنشاط كل التيارات السياسية الممنوعة في البلاد، ما عدا الإسلاميين المحسوبين على حركة النهضة، إذ نتج عن مواجهة الأخيرة للنظام سنة 1991، الزّج بكل النقابيين الإسلاميين في السجن، بمن فيهم رئيس الاتحاد الجهوي (الإداري) بمحافظة باجة، محمد السعيدي، منافس السحباني على الأمانة العامة للاتحاد خلال مؤتمر سوسة 1989.

فقد صرح وزير الشؤون الاجتماعية الحالي، محمود بن رمضان، الذي كان قياديًا في حركة التجديد (المسار حاليًا والحزب الشيوعي سابقًا)، لإحدى صحف المعارضة في صيف 2010، أنه "لا شيء يبرر أن يستمر الاتحاد العام التونسي للشغل غير شاعر بالمطالب الديمقراطية للمجتمع التونسي".

وفور انطلاق الثورة التونسيّة، ساندت النقابات الأساسية والجهوية، الاحتجاجات الاجتماعية التي تصاعدت بعد حرق "البوعزيزي" لنفسه في 17 ديسمبر 2010، إذ خرج عشرات الآلاف من الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، رافعين شعارات الثورة، فيما استمرت القيادة النقابية على تحفظها العلني ومفاوضاتها السرية مع النظام لإيجاد مخرج من الأزمة، بحسب ما صرّح به مؤخرًا مدير ديوان بن علي، عياض الودرني، لقناة محلية تونسية.

وأصبح الاتحاد أهم الفاعلين في تأسيس المجلس الوطني لحماية الثورة خلال فبراير 2011، بعضوية أغلب الأحزاب والمنظمات، واحتضن مقره اجتماعات عديدة لمتابعة الوضع السياسي بعد هروب بن علي.

ويتهم البعض الاتحاد (إثر انتخابات أكتوبر 2011، التي صعدت فيها حركة النهضة إلى سدة الحكم)، بالانحياز إلى القوى اليسارية المسيطرة عليه، والتي خسرت الانتخابات، ولكن النقابيين يقولون إنهم يواصلون القيام بدورهم الوطني، ودعوا إلى إضرابين عامين احتجاجًا على اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد، في 6 فبراير 2013، والقيادي القومي محمد البراهمي يوم 25 يوليو/ تموز 2013.

وفي الوقت الذي تشكلت فيه جبهة الإنقاذ بين نداء تونس الجبهة الشعبية، وجمعيات موالية لها خلال تموز 2013، ونادت بحل المجلس التأسيسي وإقالة حكومة علي العريض، نادى الاتحاد العام للشغل، بقيادة أمينه العام حسين العباس، مع ثلاث جمعيات وطنية أخرى (الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين)، إلى حوار وطني، كان من نتائجه مغادرة حكومة الترويكا بقيادة "النهضة" السلطة، مقابل المصادقة على الدستور وضمان إجراء الانتخابات، ما جنب تونس مخاطر الانزلاق إلى النموذج المصري، أي وصول الجيش للسلطة بعد انقلاب الثالث من تموز/يوليو.

وبعد الحصول على جائزة نوبل للسلام تطرح اليوم أسئلة في تونس، من قبيل: هل يواصل الاتحاد توجيه الحياة السياسية في تونس مثلما فعل منذ هروب بن علي حتى اليوم، أم أن التحالفات والائتلافات القديمة التي كانت "تفرض" هذا التوجه تصدعت أو هي بصدد التصدّع، ما سيقلص من ذلك الدور لفائدة دور اجتماعي تفرضه حدة الأزمة الاجتماعية الخانقة، التي بدأت نتائجها تلوح في الأفق من غرب البلاد، باندلاع احتجاجات مدينة القصرين منذ أسبوعين.

التعليقات