العولمة المالية الجديدة تمتلك ديناميات جديدة../ ناصر التميمي

-

العولمة المالية الجديدة تمتلك ديناميات جديدة../ ناصر التميمي
منذ عدة أعوام يحاول معارضو العولمة كبح جماح حركتها المتسارعة وضبط إيقاعها بشكل يتواءم مع الجميع خصوصا الدول الفقيرة، إلا ان محاولاتهم لا تزال غير موفقة بالكامل أو إنها لم تحقق النتائج المطلوبة.

وحقيقة ان عالمنا اليوم يتغير بسرعة مذهلة، وبشكل يجعلك تصاب بالدوار الشديد حين تسارع للحاق بالركب، فــ«رأسمالية» آدم سميث «دعه يعمل.. دعه يمر» ربما باتت رأسمالية أخرى، لا بل ان عالم رأس المال الذي قام «كارل ماركس» ذات مرة بتحليله كأنه بات عالما آخر.. انه فعلا عالم آخر، ولو قدر لماركس ان يرى هذا العالم مرة أخرى، فإنه سيشعر بالتأكيد بالدوار مثلنا، فالعولمة أو الرأسمالية المالية الجديدة تجتاحنا في كل لحظة وفي كل مكان من حياتنا المعاصرة.

هذا العالم وصفته مجلة «النيوزويك» الاميركية ذات مرة بعالم «حروب رأس المال» أو معارك تعظيم الأرباح وهي حروب لم تعد تستخدم الأدوات التقليدية للقتال فقط وإنما باتت تعتمد أيضا على شاشات صغيرة وأصول مالية تمتلك من القوة المادية والمعنوية بحيث تستطيع بلحظة من اللحظات هز العالم أو التأثير على احد الاقتصادات العالمية سلبا أو إيجابا من دون ان يتحرك جندي أو ان تطلق طلقة واحدة.

هذه الحقبة الجديدة من العولمة أو الرأسمالية المالية الجديدة وان كانت تحمل في أحشائها أهم سمة من سمات الماضي التي تتمحور حول مقولة المصالح القومية، إلا إنها باتت تمتلك ديناميات جديدة ذات أبعاد عبر قومية تتشابك في إطار علاقات اقتصادية كونية تتحرك على أساس عالمي، ومتعدد الجنسيات كما أنها تمتلك سماتها الخاصة غير المسبوقة، والمثيرة للجدل أو التعارض. فهناك توسع ثابت في عمليات الإنتاج الرأسمالي أو التحول نحو اقتصادات السوق الحرة فيما يسمى بدول المحيط ضمن الاقتصاد العالمي مثل كوريا الجنوبية، تايوان، سنغافورة، الهند، البرازيل، الصين، روسيا.. الخ، أو كافة الدول المتجهة للتصنيع حديثا. فقد أصبح العالم كله تقريبا، باستثناء عدة دول، يتبع توجهات السوق الحرة.

ان هذه العولمة الجديدة المصحوبة بنفوذ هائل لرأس المال استطاعت نقل جزء معتبر من القوة الجيوسياسية من يد الحكومات المركزية نحو القوى الخاصة والمالكة لرأس المال، ولعل هذا الأمر ربما يكون السبب الرئيسي وراء عدم قدرة البنوك المركزية في كبح جماح التقلبات الحادة في أسواق المال، ويقدم تفسيرا مقنعا لعدم قدرة بعض الدول المتقدمة في بعض الأحيان في التحكم في برامجها المالية أو موازناتها العامة. فكافة المؤسسات الاقتصادية باتت تعمل في إطار عالمي متطور، فهي تستطيع المراقبة والاستجابة وكذلك التأثر والتأثير أو التفاعل مع كافة التطورات التي تحدث في لندن أو طوكيو أو نيويورك أو بقية أرجاء العالم بلمسة زر، فأنظمة التقنية الحديثة زادت بشكل راديكالي قابلية الحركة لدى البنوك أو الوحدات الاقتصادية العملات، الأسهم، السندات.. الخ، ولكل المؤسسات التجارية والمالية ومن جميع الأصناف.

هناك الكثير من الأدلة التي تدعم الفرضية القائلة بأن سياسات تحرير الأسواق وتطور أنظمة التقنية الحديثة والمتطورة في مجالات المواصلات والاتصالات حطمت الحدود ما بين الأسواق التي كانت من الشروط الضرورة للسياسات المستقلة، وأصبحت أهم سمات الرأسمالية الجديدة. فالأسواق أو المجتمعات باتت أكثر حساسية كل منها للآخر حتى ضمن الفوارق الوطنية أو العرقية، فالسقوط الذي طغى على السوق المالية في نيويورك في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1987، أو ذلك التعثر الذي حدث في سوق لندن عام 1997 وبعدها في الأسواق الآسيوية أو الذي ما زال متفاعلا في أسواق آسيا خصوصا حاليا في الصين يقدم أمثلة واضحة على تقلص إمكانيات السياسات الاقتصادية الوطنية في الحد من المؤثرات الخارجية أو حتى التصدي لها بشكل فعال.

طبعا فقدان القدرة على التحكم ببرامج الاقتصاد الوطني ليس متسقا عبر المجتمعات أو القطاعات الاقتصادية أو الدول بشكل عام، فبعض الأسواق أو البلدان تحاول تجنب الصدمات المقبلة من الشبكات العبر قومية وذلك من خلال العديد من القضايا، مثل محاولة إعادة إحياء الحدود أو عزل الأسواق و/ أو توسيع نطاق القوانين الوطنية لتغطي العوامل أو المسائل الدولية المتحركة، و/ أو تبني سياسات التعاون الاقتصادي الإقليمية ضمن تكتلات اقتصادية لتوحيد السياسات العامة وتقليص الآثار السلبية المقبلة من الخارج.

وهنا يمكن القول ان أهم ملامح الرأسمالية الجديدة تتمثل في عدة مظاهر من أهمها:

طفرة التعاملات المالية: بحسب الكاتب الاقتصادي المعروف مارتن وولف، الذي يعتبر من أهم المحللين الاقتصاديين في صحيفة «الفايننشال تايمز» فان التحول إلى الرأسمالية المالية أصبح هو السمة السائدة على الصعيد الدولي. فالعالم يشهد طفرة مذهلة في التعاملات المالية، فطبقا لمؤسسة «ماكينزي» العالمية فان الأصول المالية قياسا إلى حجم الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من 109 في المائة عام 1980 ليبلغ في العام الماضي إلى نحو 320 في المائة حيث تجاوزت الأصول المالية العالمية 144 تريليون دولار، في حين وصل حجم الناتج المحلي الإجمالي للعالم إلى نحو 48 تريليون دولار.

وهنا تنبغي الإشارة إلى ان عدد سكان العالم حاليا طبقا لبيانات الأمم المتحدة إلى نحو 6.6 مليار نسمة، نحو 35 منهم موجودون في الصين والهند. بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للعالم ككل مع نهاية عام 2006 نحو 48.2 تريليون دولار، يتركز 75 في المائة منه في 3 مناطق هي أميركا وأوروبا واليابان.

وتعتبر الولايات المتحدة الاميركية اكبر اقتصاد في العالم حيث بلغ حجمه مع نهاية العام الماضي نحو 13.3 تريليون دولار طبقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي. ولعل البنوك كانت تشكل عام 1980 أكثر من 42 في المائة من إجمالي التعاملات المالية، إلا ان هذا الرقم يصل إلى الربع تقريبا وتحول الباقي إلى لاعبين جدد. ولكن مع ذلك فان البنوك المركزية التي تملك نحو 5 تريليونات من العملات الأجنبية والذهب (نصفها تقريبا في 3 دول هي الصين واليابان وروسيا) لا تزال تشكل لاعبا مؤثرا في الاقتصاد العالمي خصوصا محاولاتها الدائمة للتقليل من التقلبات المالية لأسواق، وعملها الناجح في كبح جماح التضخم وجعله تحت السيطرة.

المضاربات الآجلة: اصبحت المضاربات الآجلة من العقود السائدة في العديد من بورصات وأسواق المال العالمية، وما ساعد على ذلك تطور التقنيات الحديثة وامكانية إجراء التحليلات الاقتصادية المعقدة، فضلا عن امكانية التداول على مدار الساعة. وقد ظهرت في وقتنا الراهن مجموعة من المنتجات المالية الجديدة المعقدة، غير تلك المعروفة مثل السندات والأسهم التقليدية والسلع والعملات الأجنبية، وما أكثر شهرة مشتقات الخيارات الاجلة والمقايضة.

ووفقا للوكالة الدولية لصكوك المقايضة فانه بحلول نهاية عام 2006 بلغت التعاملات الآجلة في المقايضة ومبادلة العملات وأسعار الفائدة 286 تريليون دولار (حوالي 6 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للعالم)، مقابل 3.45 تريليون دولار في عام 1990.

اللاعبون الجدد: البنوك وصناديق التحوط وصناديق الاستثمار الخاصة والحكومية وحتى المستثمرين الفرديين أصبحوا يتحركون بشكل «معولم»، فطبقا لأرقام مؤسسة «طومسون فايننشال» للمعلومات المالية فقد بلغت عمليات دمج الشركات في العالم نحو 3.9 تريليون دولار، في حين ان عمليات الشراء والدمج في النصف الأول من العام الحالي بلغت 2.5 تريليون دولار.

ولعل أهم لاعب جديد في هذا السياق ما يسمى الصناديق الاستثمارية السيادية أو الحكومية (SWF). ووفقا للبيانات التي أوردتها مؤسسة «مورغان ستانلي» العالمية فقد بلغ حجم الأصول المالية التي تملكها تلك الصناديق مع نهاية شهر مارس (آذار) 2007 نحو 2.6 تريليون دولار.

وتعتبر أصول هيئة الاستثمار في ابوظبي (ADIA) الأكبر في العالم حيث وصل حجمها إلى 875 مليار دولار، يليها في الترتيب صندوق سنغافورة (GIC)، في حين تبلغ الاستثمارات في عدة صناديق سعودية نحو 300 مليار دولار.

وتنبغي الإشارة هنا إلى ان الصناديق التابعة لكل من ابوظبي والسعودية والكويت تملك تقريبا نصف أصول الصناديق الحكومية في العالم، وهنا يتوقع ستيفن جين رئيس قسم أبحاث العملات عالميا في «مورغان ستانلي» والذي يعمل في لندن ان يرتفع حجم أصول تلك الصناديق إلى 12 تريليون دولار تقريبا بحلول عام 2015 وهو ما يعادل حجم الاقتصاد الاميركي في الوقت الراهن، مؤكدا ان حركتها ستسبب إشكاليات عديدة للاقتصاد العالمي.

ويتابع جين قائلا: «اعتقد ان الصناديق الاستثمارية الحكومية ستصبح ضخمة بحجمها، وبالتالي سيكون لها تأثير أو مضاعفات قوية على الأسواق المالية العالمية.. أنا اشعر بقلق متزايد حول العولمة المالية وتفاعلات تلك الصناديق معها أو في ردود فعلها». ولعل وجهة نظر جين ليست وحيدة في هذا الجانب، فقد حذر صندوق النقد الدولي في الأسبوع الماضي من نشاط صناديق الاستثمار السيادية وقال «إنها تدعو للقلق».

وقال سيمون جونسون كبير الاقتصاديين في الصندوق «ان الصندوق لا يشعر بارتياح وتتصاعد لديه مشاعر القلق مما يسمى بصناديق الاستثمار السيادية». وهناك صناديق التحوط التي يتصاعد الجدل حول نشاطاتها منذ سنوات، وهنا تنبغي الإشارة إلى ان عدد صناديق التحوط ارتفع إلى 9575 في الربع الأول من العام الحالي تملك في الوقت الراهن نحو 1.6 تريليون دولار، من 610 صناديق فقط في عام 1990، بحسب تقرير صدر أخيرا عن معهد الخدمات المالية في لندن.

ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فهناك حاليا البنوك الخاصة التي تدير أصولا مالية للأثرياء، وطبقا لإحصائيات مؤسسة (PAM) فان اكبر 20 بنكا خاصا في العالم تدير حاليا أصولا مالية تصل إلى 10.5 تريليون دولار وهي تمثل 12 في المائة من إجمالي سوق الثروات العالمية. وفي هذا السياق فان بنك «ميريل لنش» الخاص تصدر القائمة بحجم ثروات بلغت 1.62 تريليون دولار، يتبعه في التصنيف الثاني بنك «يو إس بي» بحجم ثروات تبلغ 1.61 تريليون دولار، وحل ثالثا «سيتي غروب» بثروات تبلغ 1.44 تريليون دولار.

وفي هذا الإطار ارتفعت ثروة الأثرياء العالميين، يحرّكها اقتصاد عالمي قوي، إلى 37.2 تريليون دولار أميركي في العام 2006 أي بزيادة 11.4%، وفق ما جاء في التقرير الحادي عشر حول الثروة العالمية، الذي نشرته أخيرا «ميريل لينش» و«كابجميني». وقد زاد عدد الأفراد الذين يملكون موجودات مالية لا تقل عن مليون دولار أميركي، دون احتساب مسكنهم الأصلي وسلعهم الاستهلاكية في العالم، بنسبة 8.3% في 2006 إلى 9.5 ملايين وارتفع عدد كبار الأثرياء الذين يملكون موجودات مالية لا تقل عن 30 مليون دولار دون احتساب مسكنهم الأصلي وسلعهم الاستهلاكية 11.3% ليصل إلى 94.970. في جميع الأحوال فان عولمة الإنتاج أو رأس المال وكافة المصادر الاقتصادية الأخرى من دون شك باتت تجعل من قدرة الدولة على التحكم التام في مستقبلها الاقتصادي (أو حتى السياسي) تتآكل تدريجيا، والأمر كله يعود في جزء كبير منه لفاعلية الرأسمالية الجديدة وتقلباتها المتواصلة.

أقطاب اقتصادية جديدة: ولعل سياسات تحرير الأسواق ساهمت في تبدل الموازين الاقتصادية وظهور أقطاب جديدة مثل الصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك تنافس أوروبا وأميركا الشمالية، هذا التبدل في الموازين الاقتصادية سينعكس لا محالة من خلال النفوذ في إدارة الاقتصاد العالمي. فدول أوروبا وأميركا الشمالية ستخسر بالتدريج نفوذها المهيمن أو المطلق في إطار الاقتصاد العالمي.

هذا الأمر تعلق عليه صحيفة «الانديبندنت» البريطانية بالقول: هذه الخسارة التدريجية في النفوذ أمر علينا ان نتقبله، انه تبدل تاريخي حتمي، وبتعبير وحيد علينا ان نرحب به.. فما نجنيه حاليا ما هو إلا الطعم الأولي للعولمة من خلال إعادة بناء الميزان العالمي وهو طعم قد لا يكون بمجمله مستساغا من قبلنا. يمكننا ان نلاحظ ان الصين تمثل حالة متميزة وهي باتت تمثل الآن الاقتصاد السادس عالميا والبعض يصنفها الثاني الاقتصادي الذي يتحرك بخطى سريعة، ويتوقع لها المراقبون على مدى العقود الثلاثة المقبلة ان تصبح الاقتصاد الأول على المستوى العالمي، وهذا طبعا له آثار عميقة جدا على الخريطة السياسية العالمية في حال استطاعت الصين التغلب على مشاكلها السياسية.

فالصين التي يبلغ عدد سكانها 1.3 مليار نسمة تشكل حاليا رابع اكبر اقتصاد في العالم بنحو 2.6 تريليون دولار، كما انها تملك اكبر احتياطي في العالم من العملات الأجنبية والذهب بحجم 1.2 تريليون دولار.

بينما البرازيل التي يصل عدد سكانها إلى نحو 186 مليون نسمة تشكل حاليا عاشر اكبر اقتصاد في العالم الذي يبلغ حجمه حوالي 1.1 تريليون دولار، أما روسيا الصاعدة والتي تملك ثالث احتياطيات من العملات الأجنبية والذهب في العالم ويبلغ 420 مليار دولار تحتل في الوقت الراهن الاقتصاد 11 في العالم ويقدر حجمه 980 مليار دولار.

أما الهند التي يصل عدد سكانها إلى نحو 1.1 مليار نسمة بناتج محلي إجمالي يصل إلى 887 مليار دولار مكنهم من احتلال المركز 13 عالميا. وهناك المكسيك التي يحتل اقتصادها 14 عالميا بحجم بعدد سكان يبلغ 103 ملايين نسمة.

هذا الأمر أيضا يطرح علينا سؤالا حيويا، وهو إلى أي مدى يمكن ان يتم الحفاظ على الدعم لعملية العولمة وذلك خلال الـ 25 سنة المقبلة. ينبغي ان نقول هنا إن هذه العولمة الجديدة ستضم «الستة الكبار» البرازيل، الهند، كوريا الجنوبية، روسيا، الصين، والمكسيك، فهم يمثلون الآن حصة معتبرة من الاقتصاد العالمي ككل.

صحيح ان هذه الدول لن تكون «جنة عدن» وكل منها على حدة تعاني من مشاكلها الخاصة والعويصة، كما ان مستقبلها السياسي قد تسوده كثير من الاضطرابات، إلا ان التركيز على هؤلاء الستة الكبار مفيد جدا لأنه يجعلنا ندرك ليس فقط ان الموازين الاقتصادية سوف تتبدل بل سوف يدلنا إلى أي اتجاه سوف تتبدل هذه الموازين، فهذه الدول أصبحت كبيرة ومن العيار الثقيل.

"شام برس"

التعليقات