فائض المال النفطي بين بناء القصور والتنمية البشرية../ مسعود ضاهر

-

فائض المال النفطي بين بناء القصور والتنمية البشرية../ مسعود ضاهر
ليس من شك في أن الباحث المهتم بتطور نظم التعليم والبحث العلمي في الدول العربية، عربيا كان أم من غير العرب، سيصاب بنوع من الذهول حين يقارن بين فائض مداخيل النفط العربي التي تقدر بمئات مليارات الدولارات في السنوات العشر الماضية، والتراجع المريع في جميع مستويات التعليم.

فقد دلت تقارير التنمية العربية في السنوات الخمس الماضية على أن نسبة الأمية ليست على تراجع بل على تزايد مستمر. ومن المتوقع أن تصل في العام 2010 إلى أكثر من سبعين مليون أمي في العالم العربي، معظمهم من النساء.

فرغم الكم الهائل من الأموال التي تدخل خزائن الحكام العرب، ما زالت وجهة الإنفاق متجهة، منذ سنوات طويلة، لبناء القصور، وشراء الأسلحة التي لا تستخدم، والتوسع في الإنفاق غير المجدي، وتشجيع الاستهلاك بجميع أشكال. أما نسبة الإنفاق على التعليم، ومراكز البحث العلمي، وبناء القاعدة المادية للإنتاج، وتشجيع الفنون والإبداع وغيرها من ركائز مجتمع المعرفة، فلم تتبدل كثيرا. فهي ما زالت، في أفضل التقديرات الإحصائية الجادة، تراوح بين نصف بالمئة إلى واحد بالمئة من الموازنة العامة.

نتيجة لذلك، بقيت مراكز الأبحاث في غالبية الدول العربية شبه معطلة لأن موازنتها لا تفي بالحاجات المادية الضرورية. وكان على آلاف الباحثين العرب أن يجدوا طريقهم إلى الخارج حيث يلقون الدعم الكافي لنشاطهم البحثي والإبداعي.

على سبيل المثال لا الحصر، حظي الباحث المصري أحمد زويل بالدعم الكافي من مراكز الأبحاث الأميركية. وبعد أن قاد سلسلة اكتشافات مذهلة، نال جائزة نوبل في الكيمياء. فانهالت عليه حفلات التكريم الشكلية من بني قومه العرب، إلا أنه عجز عن إقناع أي حاكم عربي بإنشاء مركز علمي متقدم يستقطب آلاف الأدمغة العربية المنتشرة في دنيا الاغتراب، والتي بدونها يستحيل قيام نهضة علمية حديثة.

يكفي التذكير بأن الباحث اللبناني الشاب، ميشال عبيد، الذي ولد في قرية فقيرة في قضاء عكار بشمالي لبنان، وتعلم في مدارس رسمية ضعيفة المستوى، أثبت كفاءة عالية بفضل جهوده الشخصية. وجل ما استطاع الحصول عليه من الدعم لمتابعة تعليمه في فرنسا هو نصف منحة من المركز الوطني للبحوث العلمية في لبنان. وهناك نال الدعم الذي يستحق. وفي سن الرابعة والعشرين أصبح في عداد أفضل الباحثين العالميين في مجال علوم الأورام السرطانية. وبعد أن منحته فرنسا جنسيتها، رشحت أبحاثه ضمن ستة بحوث فقط قبلت لنيل جائزة أفضل بحوث علمية في تاريخ فرنسا حتى العام .2008 ..

نخلص إلى القول أن أصحاب الكفاءة العلمية منتشرون على امتداد الوطن العربي. وحين يغادرون أوطانهم للتخصص العالي يفضلون البقاء في الخارج حيث يشاركون زملاءهم الغربيين من موقع الندية في كثير من المراكز العلمية المتطورة. مع ذلك، لا يظهر غالبية الحكام العرب الاهتمام الكافي بالدراسات والبحوث العلمية في مختلف التخصصات. وما زالت مراكز الأبحاث العربية شبه معطلة بسبب البيروقراطية وضعف التمويل. وبعد أن قدمت وعود علنية كثيرة بتشجيع البحث العلمي وتخصيص الدعم الكافي للباحثين والعلماء العرب، برزت معوقات هائلة قضت على جميع الآمال التي عقدت على تلك الوعود. أما الأعذار فكانت تنطلق دوما من ضعف الموارد المالية الكافية لتشجيع التعليم والبحوث العلمية. لكن الطفرتين النفطيتين الأولى والثانية أكدتا عدم صحة تلك الأعذار، وأن المعوقات سياسية بالدرجة الأولى. فرغم التحسن النسبي على الساحة العلمية، والانتشار الكثيف للجامعات على امتداد العالم العربي، المحلية والأجنبية، الرسمية والخاصة، فإن الفارق ما زال كبيرا جدا بين واقع البحث العلمي العربي والآمال المعقودة عليه ليصبح قادرا على مواجهة تحديات عصر العولمة.

تجدر الإشارة إلى أن بعض مراكز الأبحاث والدراسات في الوطن العربي تصنف نفسها في خانة المراكز الاستراتيجية من دون أن يكون لها دور فاعل في تنفيذ استراتيجية سليمة للنهوض بالعالم العربي. فهي أشبه ما تكون بدور للنشر، تستقطب الأبحاث بهدف النشر وليس الباحثين بهدف التفاعل العلمي والثقافي، علما بأن استقطاب الباحثين، وتفاعلهم الدائم أو المرحلي في ما بينهم، يشكلان العمود الفقري في أي مشروع نهضوي.

كما أن المؤتمرات أو الندوات التي تعقدها تلك المراكز، تكتفي بإصدار عدد محدود من الدراسات الموضوعة أو المترجمة، وبشكل خاص من اللغة الانكليزية. ومع أن تلك الأبحاث المنشورة تعتبر من الدراسات العلمية المحكمة، فإن أثرها في البحث العلمي في العالم العربي ما زال محدودا للغاية. حتى أن قسما كبيرا من الباحثين لا يعرف بوجود تلك الدراسات ولا يقتبس عنه نصوصا تدل على إطلاعه عليها أو الاستفادة منها.

وهناك مقولة شبه مؤكدة تشير إلى أن الباحثين العرب هم أقل الباحثين تفاعلا في ما بينهم. وليست هناك مؤسسة ثقافية عربية واحدة تعمل بصورة جدية على تأطير جهود الباحثين العرب وتحويل إنتاجهم إلى مشروع نهضوي متكامل يعيد للعرب موقعهم الفاعل على خارطة البحث العلمي في العالم. ورغم وجود بعض المؤسسات العربية التي تقدم مساهمات مالية مشكورة لدعم وتشجيع الباحثين المتخصصين، إلا أن الواقع المأساوي الذي تعيشه مراكز البحوث والدراسات العربية يزداد تأزما.

كما أن آلاف التوصيات التي أصدرتها المؤتمرات والندوات العلمية والدراسات الأكاديمية لم توضع في التطبيق العملي، ولم تساهم في تطوير البنى الأساسية للبحث العلمي العربي. وما زالت المراكز البحثية العربية منشغلة بالأحداث السياسية الآنية المتفاقمة، وبنشر كتب التراث، والتاريخ، والفلسفة، وبعض المخطوطات التاريخية حول تاريخ العلوم عند العرب. وبالتالي، فإن ما يطغى على مراكز الأبحاث العربية حتى الآن هو توجهها نحو الأحداث الآنية وليس المستقبلية، وتغليب الدراسات الإنسانية والاجتماعية وليس الأبحاث في العلوم البحتة.

هذا بالإضافة إلى كم هائل من الدراسات الفرعية حول تاريخ وتراث كل دولة عربية على حدة، مع تغييب مبرمج لشمولية التاريخ والتراث المشترك بين الشعوب العربية. نخلص إلى القول إن المجتمعات المتقدمة تولي أهمية قصوى للبحث العلمي وتخصص له نسبة مئوية ثابتة أو متزايدة في موازناتها الضخمة، لإعداد الطلبة والباحثين. وتتلقى المراكز العلمية فيها مساعدات قيمة من القطاعين العام والخاص لأنها تساهم في التنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، كما تساهم في وضع ثمرات تلك البحوث في تطوير مختلف قطاعات الزراعة والحرف، والتصنيع، والخدمات الصحية والاجتماعية، وحماية البيئة، وغيرها.

بالمقابل، ما زالت مراكز البحوث العربية، في حال تواجدها، أسيرة البحوث النظرية في مجال العلوم الإنسانية والتراثية. وتبرز تساؤلات منهجية حتى في هذا المجال. فهل أضافت تلك البحوث معرفة عيانية أو أمبيريقية مهمة حول المجتمعات العربية وساهمت في حل مشكلاتها الأساسية؟. أما البحث العلمي العربي في قضايا العلوم التطبيقية، كالطب، والهندسة، والرياضيات، وعلوم الفضاء، والتقنيات العالية، وعلوم الذرة، وغيرها، فما زال يفتقر إلى مراكز بحثية تستحق هذا الاسم على امتداد العالم العربي.

وتشير بعض الإحصائيات الدقيقة إلى أن عدد الباحثين العلميين في الدول العربية مجتمعة عام 2007 لم يتجاوز عدد الباحثين في دولة أوروبية واحدة هي فرنسا، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الهائل في الموازنة والتجهيزات ومستوى الباحثين لدى الجانبين. وما زال الشلل المريع يصيب المراكز البحثية العلمية العربي في الصميم بسبب النزف اليومي لأفضل الأدمغة العربية نحو الخارج بهدف الاستقرار.

نتيجة لذلك، تحافظ الدول المتقدمة على الغالبية الساحقة من الباحثين فيها، وتستقطب أفضل النخب العلمية في العالم بعد أن تقدم لهم المرتبات العالية، والضمانات الاجتماعية الكبيرة، والمكافأة المجزية. في حين تدفع مراكز البحوث العلمية العربية بالنخب المتواجدة فيها إلى هجرة قسرية نحو مراكز البحوث العالمية المتطورة.

ختاما، لقد تطورت الموارد المالية في كثير من الدول العربية من دون أن تتطور الذهنية العلمية في أي منها. فالتطور الاقتصادي يقاس بالسنوات، وفق مقولة ابن خلدون، إلا أن التطور الذهني يقاس بالأجيال. فهل تنضب منابع النفط العربي وتذهب مداخيله الهائلة على بناء القصور، وشراء الأسلحة، والتوظيف في البورصة والمضاربات العقارية، في حين تنعدم القاعدة المادية لنهضة علمية عربية طال انتظارها؟
"شام برس"

التعليقات