30/05/2009 - 15:52

لاءات نتنياهو والتفريط العربي/ حسن عبد الحليم

-

لاءات نتنياهو والتفريط العربي/ حسن عبد الحليم
رد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هرولة عرب «الاعتدال» للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل تلقي عن كاهلهم تبعات القضية الفلسطينية وتريحهم من الإحراج، ومن استحقاقتها التي تقض مضاجعهم، بلاءات مدوية: لا لوقف الاستيطان، لا لدولة فلسطينية، لا انسحاب إلى حدود عام 1967، لا للانسحاب من القدس، لا للانسحاب من الجولان.

هذه اللاءات لم تثن هؤلاء عن تقديم تحفيزات لإسرائيل وتسهيلات لها، من خلال تعديل المبادرة العربية ليكون هضمها أيسر: "بدل 22 دولة خذوا تطبيع مع 57 دولة"؛ "المستقبل ليس نهر الاردن او مرتفعات الجولان او سيناء، المستقبل هو المغرب في المحيط الاطلسي واندونيسيا في المحيط الهادي. هذه هي الجائزة." ويبدو أن عرب «الاعتدال» بمن فيهم رئيس السلطة الفلسطينية باتوا على استعداد لتقديم تنازلات في مسألة حق العودة، جوهر القضية الفلسطينية، وهذا أخطر ما حملته تطورات الأحداث في الشهور الأخيرة.

إن هرولة دول «الاعتدال» العربي نحو التسوية مع إسرائيل، والوقوف جليا ضد نهج المقاومة، كما بدى واضحا خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان ومن بعده على غزة، يهدف إلى الحفاظ على مواقعهم وأنظمتهم، وإطفاء شعلة التغيير قبل أن يصل مفعولها إليهم، ويهدف أيضا إلى إنهاء ملف القضية الفلسطينية باعتباره مصدر إزعاج لهم في أوساط جماهيرهم، وتقييدا لحريتهم في علاقاتهم وتحالفاتهم الخارجية.
وكما راهن هؤلاء على إدارتي بوش الأب والأبن، في حل القضية الفلسطينية مقابل تعاونهم ضد العراق، مما أدى إلى ولادة مؤتمر مدريد ثم خارطة الطريق في الحرب الثانية، ها هم يربطون تعاونهم مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ضد العدو المتخيل- إيران بإزالة العثرة التي تسمى القضية الفلسطينية ووضع نهاية لها مهما كانت كارثية على الفلسطينيين.

ولكن رغم التحفيزات والتسهيلات التي يقدمها عرب «الاعتدال»، اكتفى نتنياهو، ومن أجل حفظ ماء وجوههم، إلى جانب أسباب ودوافع أخرى(أهمها الالتفاف على المطالب الأمريكية والأوروبية)، بالإدلاء بتصريحات يعلن فيها التزام حكومته بالاتفاقات السابقة. ولكن رفضه وقف الاستيطان وإقامة دولة فلسطينية يفرغ هذا الاعتراف من مضمونه، ويصبح لا قيمة له. وفي أفضل الحالات يعني الدخول مجددا في جولة أخرى من المفاوضات العقيمة التي لا تهدف سوى إلى العودة إلى الدوران في حلقة مفرغة وإلى مسلسل أحداثه مكررة، بل ربما اسوأ. والأخطر أن نتنياهو يحاول، وبمنتهى الوقاحة، عرض القضية الفلسطينية على أنها أحياء فقر تنتج عنفا، ويطرح تطوير الاقتصاد والسلام الاقتصادي حلا لذلك. ويشير ذلك إلى العقلية الإسرائيلية والأهواء العامة التي ما زالت تتنكر للحقوق الفلسطينية، والتي تعتبر أبعد ما يكون عن الاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن النكبة والتهجير والسلب والقتل والدمار ومأساة ومعاناة الشعب الفلسطيني على مدى العقود الستة الماضية.

رفضت إسرائيل المبادرة العربية التي طرحها العرب عام 2002 في قمة بيروت. وكانت تلك المبادرة ثمرة الانكفاء والتراجع عن المواقف منذ قمة الخرطوم ولاءاته الشهيرة، مرورا بكامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة. واختزلت المبادرة قضية فلسطين بالأراضي المحتلة عام 1967، وتنازل العرب دون شروط أو مفاوضات أو ضغط عن 78% من فلسطين. هكذا بجرة قلم. ولم يحددوا سقفا زمنيا لإسرائيل لقبول المبادرة. كما أنهم لم يتزودوا بوسائل القوة لفرضها، ولم يستخدموا حتى الوسائل المتاحة لهم للضغط. ولم يحددوا خطواتهم في حال رفضها من قبل إسرائيل. ببساطة لم يأخذوا مبادرتهم بجدية، وبدت كأنها إعلان تلفزيوني لمنتج استهلاكي.

عرضت المبادرة على أنها شروط العرب والفلسطينيين للسلام. ويفترض في هذه الحالة أن لا تجرى أية اتصالات أو مفاوضات مع إسرائيل إلا بعد إعلانها قبول المبادرة واستعدادها للتفاوض حول آليات تطبيقها. ولكن ما حصل هو أن العرب تجاهلوا مبادرتهم وشجعوا السلطة الفلسطينية على الانخراط في خطة خارطة الطريق، وانخرطوا فيما بعد في استعراض أنابوليس لإطلاق المفاوضات حول حل الدولتين وتناسوا مبادرتهم. والأبلى من ذلك أن العجز العربي تجلى بأوضح صوره حينما جددت قمة الرياض عام 2007 التمسك بالمبادرة و«تفعيلها»، دون أن تأخذ أي من النقاط أعلاه بعين الاعتبار- رغم الرفض الإسرائيلي الصريح لها، واستخفاف حكومة أولمرت بها بشكل سافر حينما اعتبرتها مواقف عربية أولية خاضعة للتفاوض، وحاولت تطبيقها بشكل عكسي، أي التطبيع اولا ثم مفاوضات حول الخطة بعد أن تخضع لتعديلات تناسبها.

إن تطرق المبادرة العربية لحق عودة اللاجئين الفلسسطينيين بضبابية(ايجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين متفق عليه وفقا لقرار 194 للجمعية العمومية للامم المتحدة)، مؤشر واضح على الاستعداد لحل وسط في هذه القضية، إذ ان صياغة البند تعني أن عودة اللاجئين حق نسبي وليس مطلقا ومرهون بموافقة إسرائيل وقابل للأخذ والرد. والأخطر ان قيادة السلطة الفلسطينية تبدو متساوقة مع هذا الطرح.
المطلوب عربيا وفلسطينيا في هذه الظروف ليس تقديم مزيد من التنازلات لإسرائيل المتعنتة، بل سحب المبادرة العربية، وإذا تعذر ذلك بسبب سعي عرب الاعتدال إلى نفض أيديهم من القضية الفلسطينية، فينبغي أن ينصل منها الفلسطينيون، لأنها لا تعبر عن الحلم الفلسطيني، ولأن أي حل يستثني حق العودة كاملا دون انتقاص- لا يمكن اعتباره حلا.

تلتزم السلطة الفلسطينية مدعومة بعرب «الاعتدال» بخطة خارطة الطريق التي تعتمد المرحلية، والتي حولت السلطة الفلسطينية إلى متعهد أمني لإسرائيل، بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات على الساحة الفلسطينية الداخلية. ورغم نسف إسرائيل لتلك الخطة منذ انطلاقها بمضيها في التوسع الاستيطاني وفرض وقائع على الأرض، تدأب السلطة الفلسطينية بشكل مثير للريبة على ملاحقة المقاومة والتنسيق الأمني مع إسرائيل، وعلى التمسك بتلك الخطة، بغض النظر عن الخطوات الإسرائيلية والسياسات المعلنة، وتتعامل معها كأنها منزلة من السماء السابعة.

في ظل وجود حكومة هي الأكثر يمينية في إسرائيل، تعقد السلطة الفلسطينية، وإلى جانبها عرب «الاعتدال» الآمال على الإدارة الأمريكية الجديدة. وها هي المشاهد المكررة للقاءات مع الرؤساء الأمريكيين تعود إلى الأضواء، كما تعود المراهنات المتباينة حول فرص نجاح أو فشل الجهود لدفع التسوية في الشرق الأوسط. وها هو رئيس السلطة محمود عباس يحج إلى الامبراطورية الأمريكية وهو أضعف من أي وقت مضى، نتيجة الانقسام الفلسطيني والازمة الجدية داخل حركته نتيجة الخلافات حول عقد مؤتمر فتح السادس- الذي تُعقد عليه الآمال لفرز واقع فلسطيني جديد يعيد ترتيب البيت الفلسطيني ويعيد إليه جذوة النضال بناء على استراتيجية جديدة تكون المصالحة الفلسطينية أول مراحلها. ويرهن عباس مستقبل أعدل قضية في التاريخ، بعد صعود حكومة يمينية متطرفة، بالإدارة الأمريكية الجديدة.

مما لا شك فيه أن أفكار الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما تختلف عن تلك التي قادت الرئيس السابق، وتبدو أكثر انفتاحا، كما أن نظرته للأمور تختلف، ولكنه ينطلق أولا وأخيرا من مصالح الولايات المتحدة، وما الاختلاف بينه وبين بوش سوى في الوسائل.

وفي المقابل ما زال اللوبي الصهيوني يلعب دورا مؤثرا، وحاسما أحيانا، في السياسة الأمريكية الخارجية. وتعتبر عريضة أعضاء مجلس الشيوخ التي أعقبت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن والتي دعت أوباما إلى الأخذ بعين الاعتبار مصالح إسرائيل الأمنية في إطار أي رؤية للتسوية في الشرق الأوسط، خطوة واحدة في إطار حملة علاقات عامة واسعة تقودها إسرائيل واللوبي المناصر لها لضمان سيادة الموقف والخطاب الإسرائيلي. كما أن وجود حكومة يمينية متطرفة بشكل غير مسبوق يجعل فرص التوصل إلى تسوية «نصف عادلة» للقضية الفلسطينية ضربا من الخيال.

يمكن القول أن اتفاقات أوسلو حولت حركة التحرر الفلسطينية إلى كيان سلطوي قبل تحقيق التحرر. ومنحت الفلسطينيين بعض مظاهر الدولة- تحت الاحتلال ودون استقلال. ووضعت الفلسطينيين بعد إسقاط خيار المقاومة واعتباره إرهابا رهينة للأهواء الإسرائيلية.
لقد حاولت سلطة الراحل عرفات خلق توازن ما بين المفاوضات والمقاومة عن طريق المناورة والمراوغة والالتفاف على التعهدات. وهذا ما أدى إلى محاصرته في سنواته الأخيرة والتخلص منه. ولا اشك بأن عرفات أدرك في تلك الفترة أنه وقع في شرك محكم.
لكن خلفه، محمود عباس، لم يسقط خيار المقاومة فحسب بل أخذ الأمور بجدية متناهية وشن حملة شعواء ضدها على كافة الصعد وبكافة الوسائل، وتبنى خيار المفاوضات كاستراتيجية وحيدة. وفي غياب أوراق ووسائل ضغط- أصبحت المفاوضات نوع من الاستجداء يضطر فيه الطرف الضعيف إلى قبول إملاءات الطرف الآخر. وباتت مصداقية السلطة ومبرر وجودها مرهونين بالمفاوضات، حتى باتت هدفا بعينه.

مقابل التشدد الإسرائيلي والـ «لاءات» التي تنسف أي احتمال للتسوية، يفترض أن تشهد المواقف العربية والفلسطينية تشددا مماثلا، وتراجعا عما قدموه من تنازلات. ولكن ما يحصل هو العكس تماما، ما يشير إلى خطورة المرحلة الراهنة على القضية الفلسطينية برمتها. وبات من من الضروري أن يتمسك الفلسطينيون بقضيتهم بكلتي يديهم.

آن الأوان لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة، وإعادة النظر في كافة المفاهيم المتداولة من جديد. لا يمكن التعويل على اي عامل خارجي، بمن فيهم الإدارة الأمريكية الجديدة، لإنصاف الفلسطينيين. ولا تبشر المرحلة المقبلة بأي خير، والمطلوب تعزيز سبل الصمود، وإقصاء المفرطين، وإعادة النظر في تجربة السنوات الخمس عشرة الماضية، ووضع استراتيجية نضال جديدة، وقلب كافة المعادلات الحالية التي لن تقود القضية الفلسطينية إلا إلى سراديب مظلمة.


التعليقات