31/10/2010 - 11:02

الإبحار في نوايا الرئيس الأسد / د.عماد فوزي شُعيبي

الإبحار في نوايا الرئيس الأسد / د.عماد فوزي شُعيبي
أن يُضطر مبعوث الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط ، تيري رود لارسن،أن يعلن بنفسه ، بعد أن أعلن الناطق باسمه تكذيباً لما أعلنته صحيفة (معاريف) الإسرائيلية بتقرير من بن كسبيت، على لسانه نقلاً عن الرئيس بشار الأسد، فهذا يعني أمرين : الأول مدى استياء لارسن من الكذب الإسرائيلي، والثاني طبيعة مصداقية الصحافة الإسرائيلية.

وفي الحقيقة أننا ، وليس لاعتبارات العداوة بيننا وبين إسرائيل فقط، لم نكن لننظر إلى ما يًكتب في الصحافة الإسرائيلية عن سورية بجدّية، نظراً لضحالة المعلومات وغلبة التأملية والحقن الساذج فيها واللعب الضعيف على تداولية معلومات لا أصل لها ولا تخضع لطبيعة السياق ، فإما أنهم لا يعرفون فعلاً ما هو السياق ، وطبيعة الحكم والحاكم في سورية ، أو أنهم يتذاكون ويلعبون ... ولكن بغباء .

تقرير بن كسبيت يقول بالحرف الواحد، وسنعرضه هنا كي يتابع معنا القارئ طبيعة اللعبة :

"هذه التفاصيل الأولية ! الواردة عن اللقاء الطويل الذي أجراه الأسد مع مبعوث الأمم المتحدة للشرق الأوسط، لارسن، قبل أسبوع في دمشق. وكانت التفاصيل قد وصلت إلى أوساط دبلوماسية في نيويورك وواشنطن وبعضها تسرب ووصل إلى القدس. وكان اللقاء مع الأسد طويلا وتواجد فيه أيضا وزير الخارجية السوري، فاروق الشرع، الذي لم يشارك فيه بصورة فاعلة(ولا ندري كيف حدد بن كسبيت ذلك). وخلال اللقاء أظهر الأسد الثقة في قدرة سوريا على الصمود في وجه الضغوط الأمريكية وقال انه يؤمن أن الأمريكيين سيتوقفون قريبا عن الضغط. وأضاف "أن الأمريكيين عالقون بساق واحدة في الحريق داخل العراق، والساق الثانية في خريطة الطريق، ونحن سنحرق المنطقة بين الساقين". وحين سئل ما اذا كان يقصد إشعال الجبهة ضد إسرائيل في جنوب لبنان أجاب الأسد باعتدال وحاول تخفيف الانطباع الصعب الناجم عن أقواله مشيرا إلى أن الأمر سيحدث فقط إذا تفاقم الوضع. وفي الموضوع الإسرائيلي بث الأسد رسائل تصالحية: "نحن معنيون بالمفاوضات مع إسرائيل، بمباحثات ثلاثية على غرار ما كان في شبردزتاون بوساطة أمريكية". وأوضح انه يعارض تطبيق خريطة الطريق على سوريا ولبنان ويفضل مفاوضات مباشرة مع حكومة إسرائيل. وكان الأسد الذي تطرق الى شارون في مباحثات سابقة بأنه نازي يرتكب جرائم حرب ضد الشعب الفلسطيني، قد غير رأيه جذريا!. وحول سؤال لارسن بشأن المفقودين الإسرائيليين والمواطن المخطوف قال الأسد أن سوريا مستعدة لإجراء مفاوضات في الموضوع وان المفاوضات التي جرت بوساطة جهات ألمانية بين حزب الله وإسرائيل توقفت قبل نحو شهر. وأضاف "نحن نعرف أين هم. أعرف أن بعضهم حيا وبعضهم ميتا، وأنا مستعد للبدء في المفاوضات". وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل أعربت عن شكها بشأن صدق التصريح حول مكان وحالة المخطوفين.
وذكر الأسد انه يوجد بيد إسرائيل مواطنان سوريان وانه يطالب بالإفراج عنهما في إطار المفاوضات. ويشار إلى أن لارسن كان قد التقى أحد كبار وزارة الخارجية الإسرائيلية وقال له انه يلاحظ نافذة فرص نادرة في موضوع المفقودين".

لنبدأ في تفنيد النص السابق، الذي لا يمكن وصفه إلاّ بأنه توصيف لواقع الأمريكيين إسرائيلياً ومحاولة إلصاق التوصيف بالرئيس الأسد ، مع تبهيره بدور سوري، فالمأزق الأمريكي بقدمين محروقتين في العراق وفي خارطة الطريق ، هو التوصيف الإسرائيلي الصحيح الوحيد في نص بن كسبيت، وهو ما لايختلف عليه لا الأمريكيون ولا الإسرائيليون ولا أي محلل سياسي في الدُنيا ، لكن أن يُقال بأن الأسد قد صرح بأنه سيُشعل النار بين العراق وفلسطين ، فهذا ما يختلف حوله الجميع لأنه خارج عن السياق، ولأنه لا يتفق مع طبيعة الرئيس الأسد كسياسي مُحنك.

فهو خارج عن السياق لأن سورية ليس لها أن تقوم بهذا الدور لأنه يُفسد المأزق الأمريكي أصلاً، فطريقة التعامل مع الحماقة لا تكون بمجابهتها والاصطدام معها، إنما بتركها تغرق في أخطائها. ولعل بن كسبيت بات يُدرك مع بعض السياسيين طبيعة السياسة السورية ، وينزعجون منها، وبالتالي ليس لهم إلاّ محاولة إغراق سورية –ولو إعلامياً- بما كانوا يتمنون منها أن تفعل، فيما لو لم تكن عقلانية. خصوصاً وأن التخفيف من أثر أن يفجر الأسد الموقف في جنوب لبنان حسب زعم بن كسبيت ، لا يهدف إلى عدم توريط سورية في هذا الأمر إن حدث إنما يهدف إلى أمرين : الأول إبقاء التوريط السوري في الشأن الأمريكي فقط من أجل الحقن باتجاه اشتباك سوري- أمريكي، والثاني طمأنة الرأي العام الإسرائيلي وعدم الدفع عبر مثل هذه التقارير نحو قلق إسرائيلي داخلي يُضاف إلى الوضع المأزقي هناك منذ سنوات. فهدف التقرير هو ضرب سورية بالولايات المتحدة.

وإذا كان التقرير يتحدث على لسان الأسد بأنه على الثقة في قدرة سوريا على الصمود في وجه الضغوط الأمريكية وقال انه يؤمن أن الأمريكيين سيتوقفون قريبا عن الضغط، فهذا أيضاً توصيف إسرائيلي دقيق للموقف بين سورية والولايات المتحدة، وهو توصيف يزعج الإسرائيليين جداً لدرجة أن نقله على لسان الرئيس السوري قد يبدو لقارئه أنه لا يخرج عن السياق، لأنه ببساطة حقيقة فرضتها الوقائع وتفرضها طبيعة الأمور، لكن يخرج فعلياً عن التوصيف الأدق لطبيعة الرئيس الأسد نفسه، وهو أمر لن نقوم نحن بالحديث عنه إذ نترك للبروفيسور إيال زيسر الخبير في السياسة السورية أن يوضحه؛ إذ أعلن للتلفزيون الإسرائيلي استغرابه من التقرير الذي نقل على لسان لارسن بالقول:"لقد فوجئت كثيراً بهذا التقرير، صحيح أن الرئيس الأسد يفكر على ذلك النحو تجاه وجود الأمريكيين في العراق ، وأن الأسد والسوريين يأملون بتورط الأمريكيين في العراق، ولكن أن يقول الرئيس السوري شيئاً من هذا القبيل لضيف غربي سيقوم بتسريب الحديث أو نقله للأمريكيين أمر آخر، وأعتقد أن الرئيس السوري لم يتحدث على ذلك النحو ".
فالثابت والمؤكد أن تقانة الرئيس الأسد ليست بهذه الخفة، وما يعرفه عنه الذين التقوه أو عايشوه أنه من الصعب التكهن بما في داخله لا قولاً و لا حتى بتعابير الوجه السيميولوجية ، فهو قد استفاد من تجربة أبيه كرجل الربع ساعة الأخيرة الغامض ، وأضاف إليها تقاناته الخاصة، وهو يعرف جيداً الفرق بين الحديث الشفاف وبين التورط في مواقف لا الزمان ولا حيثيات التوازنات تسمح بها، وهو يُحسن الشفافية مع من يقتضي الموقف معه الشفافية، ويُدرك أهمية سياسة (الغموض البنّاء) حينما يقتضي الأمر ذلك، بل يستوجبه.

نعم ستتراجع الضغوط الأمريكية على سورية لأن مصالح الولايات المتحدة تقتضي ذلك، وهذا التوصيف الإسرائيلي الملغوم بنسبه لسورية دقيق لأنه واقع الحال، ولن يستطيع أحد تغييره لأنه من واقع الحال السياسي بلغة اليوم : المصالح، أما أن ينسب للرئيس الأسد إعلانه على الطريقة الإسرائيلية ، بهدف التأليب النفسي أمريكياً عليه، فهو من باب السذاجة ، لأن السياسة لا تعمل بالنفسانيات فقط بل تعمل قبلاً بلغة المصالح والواقع .

ولن تنتهي الصورة بمعلومات مجانية عن أسرى حزب الله نفاها لا رسن بشدة، كي تكتمل سذاجة لعبة بن كسبيت ومن وراءه لنسب الموضوع برمته لسورية وجعل الصورة تبدو وكأن سورية أوعزت بأسرهم كرمى لأسراها ، مع ملاحظة أن تعبير بعضهم حي والآخر ميت هو إنقاذ لماء وجه الإعلان الرسمي الإسرائيلي عن قتلهم جميعاً ، بحيث تأتي المصادقة المزعومة هنا على لسان الأسد بالذات!، وهي نكتة تبعث على القرف.وآخر ما يأتي كغباء في التقرير موصفاً بصورة لافتة أن يقول الرئيس الأسد :أنه مستعد للتفاوض حول هؤلاء الأسرى، وكأن السياسة السورية لم تعد هي هي ، فمنذ متى تنسب سورية لنفسها مثل هذه القضايا أو تكون مستعدة لربطها بها، وهي تعلم أنها ليست صاحبة الشأن ، وأن ربط هذه القضايا بها سيُضعفها و سيزيد الضغط عليها، لو (ولو حرف امتناع لامتناع) كان لها منفذ إليها.

لم يلعبها الإسرائيليون بصورة ذكية ، وربما من جهلنا بهم أننا نظن أنهم ...أذكياء ولاعبون محترفون!.
______________________________________________

د. عماد فوزي شُعيبي - دمشق
ishueibi@scs-net.org

التعليقات