31/10/2010 - 11:02

الكتاب الورقي ضحية ثورة المعلومات../ جميل مطر*

الكتاب الورقي ضحية ثورة المعلومات../ جميل مطر*
أتابع من بعيد تطور إنتاج الكتاب الرقمي وتوزيعه. أدهشني الإقبال عليه في دول الغرب، وفي الوقت نفسه أدهشني حجم الرفض وقوته. هناك من يقول إن أغلب القراء يرفضونه ويفضلون عليه الكتاب الورقي. وهناك أيضا من يقول إنه من أهم ثمار الثورة المعلوماتية، وكما أن التاريخ شاهد على أن مثل هذه الثورات، كالثورة الزراعية والثورة الصناعية لا تعود إلى الوراء، فسيكون كذلك شاهداً على أن الثورة المعلوماتية باقية معنا نستمتع بثمراتها ونتأذى بأشواكها. ولكن كثيرين بيننا يبالغون أحياناً في تعظيم قيمة هذه الثورة ومغزاها كما بالغنا ومازلنا نبالغ في تعظيم قيمة عدد كبير من المفاهيم الحديثة ومعانيها. هكذا فعلنا مع مفاهيم العولمة وصدام الحضارات والحرب ضد الإرهاب ونهاية التاريخ والثورة المالية، هذه الأخيرة تحديداً تصرخ في وجوهنا الآن وتتحدى أمن العالم وسلامته بالكوارث والأزمات التي تسببت فيها. ولم تمنع المجاهرة بالحجم الحقيقي لهذه الكوارث والأزمات سوى الإجماع الدولي على ضرورة التعتيم على جوانب منها والإسراع في تغطيتها والتخفيف إعلامياً من آثارها.

بالغنا كذلك في تعظيم الثورة المعلوماتية، وابتدعنا مفهوم اقتصاد المعرفة حتى جعلنا كل شيء ذي قيمة يخضع لمبادئ اقتصاد المعرفة وإنجازاته. وفجأة اكتشفنا أن عائد قطاع المعرفة ليس بالضخامة التي كتبنا أو تحدثنا عنها، وأن عائد قطاعات اقتصادية أخرى مازال أعلى وأقوى تأثيراً.

لم نتوقف لنسأل إن كان الإنسان قد حقق خلال العقود الأخيرة تحولاً جوهرياً في سعيه الدائم نحو الحصول على معلومات، أم أن ما حدث لم يزد على أن يكون خطوة من خطوات كثيرة خطتها البشرية على طريق تطوير أساليب حصولها على المعلومات. يقول روبرت دارنتون في مقال جيد عن المكتبة العصرية نشرته له منذ أسابيع مجلة “نيويورك” لعروض الكتب، إن السعي للحصول على المعلومات مر بأربع مراحل، كل منها تستحق انطلاقتها صفة الثورة المعلوماتية إذا كنا سنصر على إطلاق هذه الصفة على المرحلة الراهنة. في البدء كانت الكلمة المنطوقة وبعدها ربما بعشرات القرون وبالتقريب في عام 4000 قبل الميلاد تعلم الإنسان كيف يكتب، ثم كتب بالهيروغليفية. حدث هذا منذ 3200 عام، وكانت خطوة أساسية وبعدها جاءت الأبجدية في حوالي عام 1000 قبل الميلاد. أقول مع القائلين بأنه إذا كنا نصر على وصف الأعمال العظيمة التي فجرت مراحل تطور المعلوماتية بصفة الثورة فليكن اختراع الكتابة هو الثورة الحقيقية والأهم في تاريخ تطور تكنولوجيا المعلومات. إذ إن كل ما جاء بعده بني فوقه، لقد غيرت الكتابة علاقة الإنسان بالماضي، بل لعلها كانت التطور الذي جعله “كائناً متواصلاً”، يسجل ما يفعل ويفكر ليقرأه من يأتي بعده فيواصل ما بدأ الأولون. يقال إنه في هذه اللحظة بدأ التاريخ.

بدأت المرحلة الثانية، أو التطور الثاني، عندما قرر الإنسان التحول من أسلوب في الكتابة والقراءة إلى أسلوب آخر، وبالتحديد عندما قرر أن يكتب على صفحات بعد أن كان يكتب على مدونة ملفوفة Scroll. يومها أصبحت الورقة المنفصلة وحدة الإدراك عند القارئ ومن خلالها أو بفضلها تكونت الكلمات المنفصلة عن بعضها ثم الفقرات وبعدها الفصول والأجزاء وجداول المحتويات والفهارس. بمعنى آخر لم يكن ممكنا أن يعرف الإنسان الطريق إلى الكتاب إلا بعد أن يتحول من المدونة الملفوفة إلى الورقة المنفصلة.

ثم وقع التطور الثالث في عام 1045 عندما اخترع الصينيون الحروف المتحركة، وفي الوقت ذاته تقريباً كان الكوريون يجربون استخدام الحروف المصنوعة من المعادن، إلا أن هذا التحول لم يحقق الانتشار الواسع إلا عندما قام جوتنبرغ Gottenberg بتطويره. هنا أيضاً كان يمكن لهذا التحول أن يستحق وصف الثورة، فبفضله خرج الكتاب إلى متناول الناس بعد أن كان بين يدي أناس معدودين. ومع ذلك بقيت الطباعة على المستوى الذي وضعه جوتنبرغ من دون تغيير أو تقدم لقرون عديدة باستثناء استخدام طاقة البخار ولب الخشب مما ساعد على إنتاج نسخ أكثر عدداً من الكتاب الواحد.

حدث التطور الرابع عندما حقق قطاع الاتصالات الإلكترونية تقدما متميزاً، وبخاصة الإنترنت، الذي بدأ استخدامه في عام ،1974 وإن كانت مقدماته تعود إلى عام 1969 حين كانت تجري محاولات للربط بين أجهزة كمبيوتر تستخدمها وزارة الدفاع الأمريكية.

إذا اعتبرنا التطورات الثلاثة السابقة نوعاً من الثورة يصير منطقياً أن نتعامل مع هذا التطور الأخير باعتباره هو الآخر ثورة، ولكن هناك من يرى أنه كان مجرد خطوة متقدمة في مسيرة مرت عبر ثلاثة تحولات كبرى قبل أن تصل إلى مرحلة التحول الالكتروني. أخذت المرحلة الأولى 430 سنة انتقل الإنسان خلالها من الكتابة المبعثرة أو في مدونات إلى الكتابة على صفحات، واحتاج إلى 1150 سنة لينتقل إلى الحروف المتحركة، واحتاج إلى 425 سنة لينتقل من الحروف المتحركة إلى الانترنت، و19 سنة ليصل إلى محركات البحث ومنها إلى خدمات جوجل وغيرها.

القائل بأن المرحلة الأخيرة ثورة معلوماتية تضاف إلى ثورات ثلاث سبقت هذه الثورة الأخيرة يلتحق بركب الذين يميلون إلى “تثوير” التاريخ معتقدين أنه يتقدم عبر ثورات كما تمر القافلة عبر أبواب فإن لم تفتح لها الأبواب بقيت ساكنة وجامدة لا تتحرك. أما القائل بأن هذا التحول الأخير ليس أكثر من تطور، وإن كان كبيراً وعظيماً، في مسيرة سعي الإنسان وحرصه على معرفة أعظم ومعلومات أوفر، يتعين عليه أن يعترف في الوقت نفسه بأن ظواهر أخرى وقعت في الحين نفسه لا تستحق صفة الثورة، لأنها لا تزيد على أنها تطورات في تاريخ مستمر ومتواصل من دون انقطاعات وليست له بدايات أو نهايات.

أؤيد موقف هذه القلة الحائرة أمام معضلة أثارتها ولم تفلح في فض أسرارها “إنجازات” المرحلة الراهنة من مسيرة “المعلوماتية”. هل نحن حقاً “سعداء” بهذه الطفرة الهائلة في حجم المعلومات المتاحة؟ وهل نحن حقاً بفضل هذه “الثورة” نمتلك معرفة أوسع وأشمل؟ وهل اقتربنا من نقطة تجتمع عندها عدة نهايات: نهاية الكتاب الورقي ونهاية الحروف المتحركة ونهاية الصفحة المنفصلة؟
"الخليج"

التعليقات