31/10/2010 - 11:02

قناديل - ريح الصَبَا/ وهيب ايوب

قناديل - ريح الصَبَا/ وهيب ايوب
روضة تطلّ بعنقها، وسندس موعود ذاك الذي ينبسط أمامنا في الجولان. إنه لمنعطف هام قد يُحدث تغييرًا غير مسبوق على أجيالنا الحاضرة والقادمة، فلا شك أن الاهتمام والسعي للتحصيل العلمي العالي في شتى المجالات، وظهور رغبة شديدة لدى الأجيال الشابة للولوج في عالم الأدب والفن والموسيقى والثقافة عامة، سيخلق أجواء ومناخات جديدة تهيئ لفهم واستيعاب جديدين، يؤسسان ويخلقان الفرد الحر المبدع، صاحب رأي ورؤيا، راميًا خلفه ذهنية التبعية والإذعان، وأساليب التلقي والترديد والخضوع.

إن تواصلنا مع ثقافاتنا ومجتمعاتنا العربية والعالمية الإنسانية وحده القادر على جعلنا جزءًا فاعلاً من حركة ثقافية إنسانية شاملة، تقدّس الحرية وتدرك معنى الانتماء الحقيقي للمجتمع والوطن والأمة والإنسانية جمعاء.. معنى يتجاوز في مفهوماته أنماطًا ومسلمات وثوابت وقوالب من التفكير ابتلينا بها عبر الطوال من السنين. وهذا الفتح الجديد والجدير القادر على التغيير والتأسيس لمجتمع أكثر معرفة وأعمق رؤيا وأكثر فهمًا وتساؤلاً، قادر على الخلق والابداع أكثر، والعطاء أكثر والحب أكثر، وبناء فرد ومجتمع حر أكثر فأكثر.

وهذا لا يعني، بالطبع، نبذ الماضي برمتّه ورمي التراث بمجمله، وإنما البناء على ما استخلص منه من عبرٍ ودروسٍ تعيننا على خلق حاضر ومستقبل أفضل وأجمل. وبناؤنا لمجتمعنا وسعينا لحاضرنا ومستقبلنا يتسعان لنا جميعًا، لكل فرد محب ومخلص وقادر على العطاء في مجاله. فهؤلاء يكتبون القصة والرواية، وأولئك ينظمون الشعر والنثر والخاطرة والمقالة، وآخرون يقيمون المعارض الفنية والعروض الموسيقية، وأطفال يعتلون خشبة المسرح، ناهيك عن البحوث ودور الأكاديميين كل في اختصاصه وفيما كسبه. فالزائر والقارئ للنشاطات الأدبية والفنية على تنوّعها، لا شك أنه يلمس أعمالاً جميلة وأنيقة تستحقّ الإعجاب، وتثير الاهتمام وتبعث الأمل. إلا أنه في الفنون والآداب لا تقاس الأمور مناطقيًا بل كونيًا، ومن هنا يبقى مدى إعجابنا واندهاشنا للمعروض والمقروء هو في حدود ثقافتنا ومعرفتنا بها، فكلما تعمّقنا في سبرها زاد حبّنا لها وتمتّعنا بها، لذا ترى أذواق الناس متفاوتة، وهذا طبيعي.

لكن أعود وأضيف أن كل ذلك متوقف على مدى وعينا وفهمنا للأشياء، ومقدار حرصنا على الاستزادة من المعرفة والثقافة التي توسّع آفاقنا وتعمّق إدراكاتنا، سواء في الأدب أو في الفن والموسيقى وغيرها. يقول منصور رحباني: "ليتنا نعيش جيلين، جيلاً لكي نتعلم وجيلاً لكي نبدع". فمعلوم أن الآداب والفنون لا تقاس إلا بأجملها وأروعها، أجودها وأرقاها، أبلغها وأجذلها. فأنت راغب بتذوّق الأفضل والأجمل بصرف النظر عن منشئه ومُبدعه. فالقصة أو الرواية الجميلة تغزو العالم أجمع مذلّلة كل الحواجز والرواقب والحدود، وهكذا الموسيقى وسائر الفنون.

وإذا اطلعت على بعض من الأدب والفن والموسيقى العربية والعالمية، منذ امرؤ القيس والمتنبي حتى الماغوط وأدونيس، ومن ابن المقفع والجاحظ حتى حنا مينا ونجيب محفوظ وغادة السمان ونوال السعداوي، من اسحق الموصلي وزرياب حتى سيد درويش وفيروز ومنير بشير، ثم دانتي لدافنشي لبوشكين إلى لوركا وطاغور، لسعد الله ونوس وفاتح المدرّس. من شكسبير وتولستوي وتشيخوف إلى كزنتزاكي وهيرمن هيسه، إذا اطلعت على بعض مما ذكر فما من السهل جذلانك أو خذلانك بنص أدبي أو قصيدة أو قطعة موسيقية أو لوحة فنية ما لم ترقَ إلى مستوى الإبداع وأسر اللبّ والمشاعر. فما لم تسكب في كأسي خمرة لم أذقها من قبل، ورشفة ورعشة وسكرة لم تغمرني بعد، سوف أمرّ بك وألقي التحية عليك.

ولا يعني فيما أقول أن نقلد الأقدمين أو نكررهم، ففي الأدب والفنون عامة التقليد والتكرار غير مرغوبين، وإلا كيف يكون الإبداع! في رأي أدونيس "الكتابة الإبداعية تفكيك للسائد وتجاوز له، وأن الشعر، على الأخص نقيض لكل سلطة ولكل مرجعية إلا مرجعية الإبداع والمتخيّل"، المهم أن نكون رحابًا بصدورنا وعقولنا، نستقبل النقد كما المديح والتصفيق. كان يقول العلايلي: "إن الذين ينقدونني يساهمون معي في الكتابة". ويقول أحد النقاد: "أنا لا أعرف أن أقلي بيضة ولكنني أستطيع أن أحكم على الدجاجة من خلال تذوقي للعجة". فلنعلم إذن أننا في أول الطريق وليس في آخره، وأننا في البدء ولسنا بالذروة. فيا أيها الداخل في أحراش الآداب والفنون لا يغرنّك المديح والتصفيق ولا يحبطنّك نقد.. رسخ أقدامك على الطريق، وشرّع ناظريك وعقلك وخيالاتك للمدى.

التعليقات