31/10/2010 - 11:02

مع الإعتذار لمقهى ريش../ راجي بطحيش

مع الإعتذار لمقهى ريش../ راجي بطحيش
إن بعضا مما يميز منطقتنا (إلى جانب الأمور الكثيرة الأخرى التي توصمها بطبيعة الحال) أن عملية الثراء المفاجئ وشق الطريق في السلم الاجتماعي والثقافي لا زالت مسألة شائكة وصعبة وتحكمها التقسيمات التقليدية للمجتمع، والتي ويا للعجب تصنف المثقفين كفئة منفردة ومتمايزة وتمضي في تقسيم البشر كمدنيين وقرويين، سكان أصليين في البلدة (قبل 48) ولاجئين... إلى جانب التقسيمة الطائفية الكريهة...

ويدخل المثقفون في هذه الحسبة تارة، وينسحبون منها تارة أخرى... فما يجمع بيني وبين علاء حليحل أو فراس خطيب (كمثال) فكريا وحياتيا أيضا... هو أكثر بكثير مما يجمع بيني وبين أحد أقربائي من الناصرة (عشوائيا) والذي يعيش وفق معايير اجتماعية وطبقية وطائفية صارمة جدا تجعله لا يستطيع الخروج من دائرتها... وحتى إن أراد ذلك فإنه محكوم بالضياع والفشل، وخصوصا إن كان قد جاوز سقفا عمريا معينا...

وهكذا وبينما يشكل الثراء قيمة عليا بحد ذاتها في مجتمعات رأسمالية مستحدثة كالولايات المتحدة فإن الثراء المفاجئ لا يزال يحمل في طياته في بلادنا (الوطن العربي أو بلاد الشام أو فلسطين... اختاروا ما شئتم) شيئا من العار والشعور بالذنب، لذلك يتعامل الثري الجديد بشيء من الدونية تارة، والعنف المبيت تارة أخرى... وأعني بالعنف المبيت هنا محاولة امتلاك أدوات إعلامية وأهلية مركزية على عمالها ومثقفيها والتنكيل بهم كتعويض على نقص ما زال يتفاعل داخليا على الرغم من تراكم الأموال في المقابل...

فيتم في معترك الإثراء تغيير الأنماط المعيشية أو قشورها حيث تبقى العلاقة التواطؤية العمودية مع العشيرة أو الطائفة فلا ينتقل الأثرياء الجدد للسكن في مدن أكبر مثلا كي لا يضمحل ويذوب تأثير نفوذهم وسط مئات الآلاف، بينما وكما قلت سابقا لا يتوقف الغمز واللمز حول مصادر تلك الأموال... وعدم أحقية الشخص بها... وأنها لا تلائمه حيث يبدو كل شيء فاقع حقا....

ومع تدفق الأموال يبدأ الثري الجديد بالبحث عن ذاته من جديد من خلال الغرق في بحور من "الكيتش"... كشراء سيارة فارهة لا تدخل في أزقة القرية الغارقة في المجاري.... واقتناء قطع غالية جدا عادة ما تفتقد إلى الذوق... والسفر إلى الشرق الأقصى في إجازة كما هو متبع (تصاب الزوجة خلالها بتسمم غذائي صعب... تكتفي العائلة من بعده بقضاء الإجازات بأفضل فنادق طابا وانطاليا)...

كما وسرعان ما ينضم هؤلاء لأحدى نوادي الارتقاء الاجتماعي وأكثرها شيوعا – الليونز.... ويأتي بعده الروتاري ( الذي يحمل ملامح أرستقراطيين محنطين مما يثير شيئا من الذعر لدى محدثي النعمة)....

وتبقى الكرة الفارغة داخل السيد "نوفو ريش" تلك المتعلقة بجهله أو بعلاقته الشائكة بالثقافة والمثقفين فلا زال الكاتب في منطقتنا يحمل شيئا من الهيبة والاحترام بحيث تبقياه بمعزل عن الدعس... بينما لسان حال الثري الجديد المشبع بمشاعر النقص والذي يرغب بامتلاك الملف الثقافي أيضا (عبثا) يقول:
سيأتي يوما ويركع هذا الكاتب ويقبل لي حذائي

لا مشكلة حتى الآن...
ولكن جاءت وفاة عظيمنا محمود درويش بمثابة فرصة لهؤلاء لاقتحام هذا العالم الذي ظل يحافظ طويلا على عذريته... فتوالت إعلانات التعزية من مقاولين وتجار خضار وتجار خردوات.... بلغة بائسة وفي محاولة وقحة للارتقاء غير المدعم واجتياز الخطوط الحمراء...

وما التعزية الصادرة عن مقهى ومعقل "النوفو- ريش " وصاحبه شخصيا سوى تجسيدا لما جاء...

(مع الإعتذار لمقهى ريش العريق في قلب القاهرة)

التعليقات