14/12/2023 - 20:41

حملة القصف الإسرائيليّة الفاشلة على غزّة: العقاب الجماعي لن يهزم حماس

بطبيعة الحال، لا تظهر الحكومة الإسرائيلية الحالية أي علامات على متابعة هذه الخطة. لكن هذا قد يتغير، خاصة إذا قررت الولايات المتحدة استخدام نفوذها. على سبيل المثال، يمكن للبيت الأبيض أن يمارس المزيد من الضغوط الخاصة على حكومة نتنياهو...

حملة القصف الإسرائيليّة الفاشلة على غزّة: العقاب الجماعي لن يهزم حماس

غارة جويّة إسرائيليّة في غزّة (Getty)

مقدّمة المُترجم

يتناول الكاتب روبرت پيپ في هذه المقالة الحرب على غزة ضمن سياق تاريخي ليعرض كيفية فشل حملة القصف الهادفة للدمار في القضاء على حركة المقاومة الإسلامية «حماس»، لكنه في معرض حديثه لا يُقارنها بأي حركات مقاومة أخرى، وإنما بألمانيا النازيّة وبالعراق تحت حكم صدّام، ونمور التاميل في سريلانكا، في محاولة لرسم صورة يستطيع القارئ الأبيض العادي أن يفهمها بسهولة، وهي أنّ المقاومة الفلسطينية عدوّة للغرب. وحتى عندما يتكلم عن فشل إسرائيل، أو عن عدد الشهداء، أو عن الدمار الحاصل، أو حتى عن الحلول، فهو يكتب بطريقة دفاعية عن دولة الاستعمار الاستيطاني، داعيًا إياها لتخفيف حدة الضرب ولأن تلجأ إلى حلول عملية أكثر، تتجاهلها هي عن قصدٍ، في محاولة لإحراج وسطها وسياقها.

يوجّه كاتب المقالة أفكاره وآراءه إلى جمهورٍ غربيٍ، ولا يهتم للحقائق على أرض الواقع، ويطرح الحلول والأفكار وكأن دولة الاستعمار الاستيطاني تسعى فعلًا نحو السلام في منطقة أكلتها الحرب، وأن بإمكانها الذهاب لحل الدولتين طوعًا، ومن طرفٍ واحد. وهو صادق في أمرٍ واحد هنا، هو أن إسرائيل تملك الحرب فعلًا، أما السلام، فهي تملكه في حالة واحدة فقط، وهي أن تفكك بُنى وجودها البيروقراطي والمؤسساتي والعسكري على الأراضي الفلسطينية كافةّ، وغير ذلك، فهي لا تملك إلا حرب، والحرب فقط.

المقال:

منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، غزت إسرائيل شمال قطاع غزة، الصغيرة نسبيًا، بنحو 40 ألف جندي مقاتل، وقصفتها بواحدة من أعنف حملات القصف في التاريخ. وفرّ نتيجة لذلك ما يقرب من مليوني شخص من منازلهم. وقُتل في هذه الهجمات أكثر من 15 ألف مدني (بما في ذلك نحو 6000 طفل و5000 امرأة)، وفقًا لوزارة الصحة، كما أشارت وزارة الخارجية الأميركية إلى أن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك. وقصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف، ودمرت نحو نصف مباني شمال القطاع. وأدّى القصف إلى قطع إمدادات المياه والغذاء وقدرات توليد الكهرباء كافة تقريبًا عن سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وتعتبر هذه الحملة، بكل المقاييس، فعل عقابٍ جماعيٍ ضخمٍ ضد المدنيين.

وحتى الآن، وبينما تتوغل القوات الإسرائيلية بشكل أعمق في جنوب القطاع، فإن الهدف الدقيق للنهج الإسرائيلي لا يزال غير واضح على الإطلاق. ورغم أن القادة الإسرائيليين يزعمون أنهم يستهدفون حماس وحدها، فإن الافتقار الواضح للتمييز يثير تساؤلات حقيقية حول ما تنوي حكومتهم تحقيقه فعليًا. هل يعدّ حرص إسرائيل على تدمير قطاع غزة نتاجاً لعدم الكفاءة نفسه الذي أدى إلى الفشل الذريع للجيش الإسرائيلي في التصدي لهجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول، والذي انتهت خططه إلى أيدي مسؤولي الجيش والاستخبارات الإسرائيليين قبل أكثر من عام؟ هل يكون تدمير شمال غزة، والآن جنوب غزة، مقدمة لإرسال كامل سكان القطاع إلى مصر، كما أشارت «ورقة المقترحات» التي أصدرتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية؟

آثار الدمار إثر القصف الإسرائيليّ في غزّة (Getty)

وأيًا كان الهدف النهائي، فإن التدمير الجماعي الذي تلحقه إسرائيل بقطاع غزة يثير مشاكل أخلاقية عميقة. ولكن حتى إذا حكمنا على هذا النهج من الناحية الإستراتيجية البحتة، فإن النهج الذي تتبعه إسرائيل محكوم عليه بالفشل، بل إنه في واقع الأمر يفشل على أرض الواقع أمامنا. لم تقنع العقوبات الجماعية ضد المدنيين سكان قطاع غزة بالتوقف عن دعم حماس. بل على العكس من ذلك، فهي تؤدي إلى تفاقم الاستياء بين الفلسطينيين. كما أن الحملة لم تنجح في تفكيك الجماعة التي كانت مستهدفة ظاهريًا. إن ما يزيد عن خمسين يومًا من الحرب تثبت أنه رغم أن إسرائيل قادرة على تدمير غزة، إلا أنها لا تستطيع تدمير حماس. في الواقع، قد تكون المجموعة أقوى الآن مما كانت عليه من قبل.

ليست إسرائيل الدولة الأولى التي تخطئ في وضعها ثقتها المفرطة في سحر القوة الجوية. ويظهر التاريخ أن القصف واسع النطاق للمناطق المدنية لا يحقق أهدافه على الإطلاق. وكان من الممكن أن تكون إسرائيل في وضع أفضل لو أنها استجابت لهذه الدروس وردت على هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول بضربات دقيقة ضد قادة حماس ومقاتليها بدلًا من حملة القصف العشوائية التي اختارتها. ولم يفت الأوان لتغيير المسار وتبني إستراتيجية بديلة قابلة للتطبيق لتحقيق الأمن الدائم، وهو النهج الذي من شأنه أن يدق إسفينًا سياسيًا بين حماس والفلسطينيين بدلًا من التقريب بينهما: اتخاذ خطوات مجدية وأحادية الجانب نحو حل الدولتين.

أن تخسر تأييد الناس العاطفي والعقلاني

سعت الدول، منذ فجر ظهور القوة الجوية، إلى قصف الأعداء لإجبارهم على الاستسلام وتحطيم معنويات المدنيين. وتقول النظرية إنه عندما يتم دفعهم إلى نقطة الانهيار، فإن السكان سوف ينتفضون ضد حكوماتهم ويغيرون مواقفهم. وصلت إستراتيجية العقاب القسري هذه إلى ذروتها في الحرب العالمية الثانية. يتذكر التاريخ القصف العشوائي للمدن في تلك الحرب من خلال أسماء الأماكن المستهدفة: هامبورغ (40 ألف قتيل)، ودارمشتات (12 ألف قتيل)، ودرسدن (25 ألف قتيل).

قصف إسرائيليّ على المدنيّين في غزّة (Getty)

والآن يمكن إضافة غزة إلى هذه القائمة التي تشمل المدن الأكثر تدميرًا في التاريخ. شبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنفسه الحملة الحالية بمعركة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وبينما نفى تورط إسرائيل في العقاب الجماعي اليوم، أشار إلى أن غارة جوية تابعة لسلاح الجو الملكي استهدفت مقر الجستابو في كوبنهاغن أسفرت عن مقتل العشرات من تلاميذ المدارس. ما لم يذكره نتنياهو هو أن أيًا من جهود الحلفاء لمعاقبة المدنيين بشكل جماعي لم تنجح فعليًا. تسببت حملة قصف الحلفاء في ألمانيا، التي بدأت في عام 1942، في إحداث دمار كبير في صفوف المدنيين، حيث دمرت منطقة حضرية تلو الأخرى، وفي النهاية دمرت ما مجموعه 58 مدينة وبلدة ألمانية بحلول نهاية الحرب. لكنها لم تضعف أبدًا معنويات المدنيين، أو تؤدي إلى انتفاضة ضد أدولف هتلر، على الرغم من التوقعات الواثقة لمسؤولي الحلفاء، بل شجعت الحملة الألمان على القتال بقوة أكبر خوفًا من السلام الصارم بعد الحرب.

ولا ينبغي لهذا الفشل أن يكون مفاجئًا إلى هذا الحد، نظرًا لما حدث عندما حاول النازيون استخدام نفس التكتيك. وأدى الهجوم الخاطف، وهو قصف لندن والمدن البريطانية الأخرى في الفترة من 1940 إلى 1941، إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص، ومع ذلك رفض رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الاستسلام. وبدلًا من ذلك، استحضر الخسائر البشرية الناجمة عن ذلك لحشد المجتمع لتقديم التضحيات اللازمة لتحقيق النصر. وبدلًا من تحطيم الروح المعنوية، حفزت الغارة البريطانية على تنظيم جهد دام سنوات، مع حلفائهم الأميركيين والسوفيات، للهجوم المضاد وفي نهاية المطاف غزو الدولة التي قصفتهم.

لم يحدث في التاريخ أن تسببت حملة قصف في قيام السكان المستهدفين بالثورة ضد حكومتهم. وقد جربت الولايات المتحدة هذا التكتيك مرات عديدة، ولكن دون جدوى. وخلال الحرب الكورية، دمرت 90% من قدرات توليد الكهرباء في كوريا الشمالية. وفي حرب فيتنام، قضت على نفس القدر من القوة في فيتنام الشمالية. وفي حرب الخليج، عطلت الهجمات الجوية الأميركية 90% من قدرات توليد الكهرباء في العراق، لكن لم ينتفض السكَّان المدنيون في أي من هذه الحالات.

والحرب في أوكرانيا هي أحدث مثال على ذلك. سعت روسيا على مدار ما يقرب من عامين إلى إجبار أوكرانيا على القيام بموجة تلو الأخرى من الهجمات الجوية المدمرة على المدن في جميع أنحاء البلاد، مما أسفر عن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني، وتدمير أكثر من 1.5 مليون منزل، وتشريد حوالي ثمانية ملايين أوكراني. من الواضح أن روسيا تحطم أوكرانيا، لكن بعيدًا عن سحق الروح القتالية في أوكرانيا، فإن هذه العقوبة المدنية الهائلة لم تسفر إلا عن إقناع الأوكرانيين بمحاربة روسيا بشكل أكثر كثافة من أي وقت مضى.

حملة ذات نتائج عكسية

هذا النمط التاريخي يكرر نفسه في غزة. وعلى الرغم مما يقرب من شهرين من العمليات العسكرية المكثفة، التي لم تقيدها الولايات المتحدة وبقية العالم فعليًا، إلا أن إسرائيل لم تحقق سوى نتائج هامشية. وبأي مقياس ذي معنى، فإن الحملة لم تؤدِّ إلى هزيمة حماس ولو جزئيًا. وقد أدت العمليات الجوية والبرية الإسرائيلية إلى مقتل ما يصل إلى 5000 من مقاتلي حماس (وفقًا لمسؤولين إسرائيليين)، من إجمالي حوالي 30,000 مقاتل، لكن هذه الخسائر لن تقلل بشكل كبير من التهديد الذي يواجهه المدنيون الإسرائيليون، لأنه، كما أثبتت هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، لا يتطلب الأمر سوى بضع مئات من مقاتلي حماس لإلحاق الدمار بالمجتمعات الإسرائيلية. والأسوأ من ذلك أن المسؤولين الإسرائيليين يعترفون أيضًا بأن الحملة العسكرية تقتل عددًا من المدنيين يبلغ ضعف عدد قتلى مقاتلي حماس. وبعبارة أخرى، يكاد يكون من المؤكد أن إسرائيل تنتج من "الإرهابيين" أكثر مما تقتلهم، حيث أن كل مدني ميت سيكون لديه عائلة وأصدقاء حريصون على الانضمام إلى حماس للانتقام.

غرق خيام النازحين في غزّة (Getty)

إن البنية التحتية العسكرية لحماس، كما هي الآن، لم يتم تفكيكها بشكل حقيقي، حتى بعد العمليات التي تبجحت بها إسرائيل ضد مستشفى الشفاء، حيث زعم الجيش الإسرائيلي أن حماس تستخدمه كقاعدة عملياتية. وكما تظهر مقاطع الفيديو التي نشرها الجيش الإسرائيلي، فقد استولت إسرائيل على مداخل العديد من أنفاق حماس ودمرتها، لكن يمكن إصلاحها في النهاية، تمامًا كما بُنيت في المقام الأول. والأهم من ذلك، يبدو أن قادة حماس ومقاتليها قد تركوا الأنفاق قبل أن تدخلها القوات الإسرائيلية، مما يعني أن البنية التحتية الأكثر أهمية للجماعة، أي مقاتليها، نجت. وتتمتع حماس بميزة تتفوق بها على القوات الإسرائيلية: فهي تستطيع بسهولة التخلي عن القتال، والاندماج في صفوف السكان المدنيين، والعيش للقتال مرة أخرى بشروط أفضل. ولهذا السبب فإن أي عملية برية إسرائيلية واسعة النطاق محكوم عليها بالفشل أيضًا.

لم تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية، في إطارها الأوسع، في إضعاف سيطرة حماس على غزة بشكل كبير. و"لم تنقذ إسرائيل سوى رهينة واحدة فقط" من بين 240 رهينة تم أسرها في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. وأطلقت حماس سراح الرهائن الآخرين، مما يدل على أن الجماعة لا تزال تسيطر على مقاتليها.

وعلى الرغم من النقص الكبير في الطاقة والدمار واسع النطاق في جميع أنحاء قطاع غزة، تواصل حماس إنتاج مقاطع فيديو دعائية تظهر الفظائع المدنية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية ومعارك ضارية بين مقاتلي حماس والقوات الإسرائيلية. توزّع المقاطع عبر تطبيق المراسلة تيليغرام، حيث تضم قناة كتائب القسّام أكثر من 620 ألف مشترك. ووفقًا لإحصائيات مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والتهديدات (الذي أديره)، فإن الجناح العسكري لحماس نشرَ ما يقرب من 200 مقطع فيديو وملصق كل أسبوع في الفترة من 11 أكتوبر/تشرين الأول إلى 22 نوفمبر/تشرين الثاني عبر تلك القناة.

الأرض مقابل السلام

تتلخص الطريقة الوحيدة لإلحاق هزيمة دائمة بحماس في مهاجمة قادتها ومقاتليها وفصلهم عن السكان المحيطين بهم، لكن القول أسهل من الفعل، خاصة وأن حماس تستمد صفوفها مباشرة من السكان المحليين، وليس من الخارج.

وتظهر أدلة المسح إلى أي مدى تنتج العمليات العسكرية الإسرائيلية الآن "إرهابيين" يفوق عددهم الذين يقتلونهم. وفي استطلاع للرأي أجراه المركز العربي للبحوث والتنمية (أوراد) في 14 نوفمبر/تشرين الثاني بين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، قال 76% من المشاركين إنهم ينظرون إلى حماس نظرة إيجابية. ولنقارن ذلك بنسبة 27% من المشاركين في كلتا المنطقتين الذين قالوا لمستطلعي آراء مختلفين في سبتمبر/أيلول إن حماس هي «الأكثر استحقاقًا لتمثيل الشعب الفلسطيني». والمعنى الضمني مثير للقلق: إن قسمًا كبيرًا من الرجال الفلسطينيين الذين تزيد أعمارهم عن 500 ألف، والذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا أصبحوا الآن مجندين جاهزين للانضمام إلى حماس أو غيرها من الجماعات الفلسطينية التي تسعى إلى استهداف إسرائيل ومدنييها.

وتعزز هذه النتيجة أيضًا دروس التاريخ. وخلافًا للرأي السائد، فإن أغلب "الإرهابيين" لا يختارون مهنتهم بسبب الدين أو الإيديولوجية، رغم أن بعضهم يفعل ذلك بكل تأكيد، بل إن معظم الأشخاص الذين يصبحون "إرهابيين" يفعلون ذلك بسبب مصادرة أراضيهم.

درستُ على مدار عقود أكثر "الإرهابيين" تطرفًا، "الإرهابيين الانتحاريين"، وتظل دراستي لـ 462 شخصًا قتلوا أنفسهم في مهمات لقتل آخرين في أعمال "إرهابية" في الفترة من 1982 إلى 2003، أكبر دراسة ديموغرافية لهؤلاء المهاجمين. وجدت أن المئات من "الإرهابيين" الانتحاريين علمانيين. والواقع أن الأوائل على العالم في "الإرهاب" الانتحاري خلال تلك الفترة كانوا نمور التاميل، وهي جماعة ماركسية مناهضة للدين بشكل علني في سريلانكا، ونفذت هجمات انتحارية أكثر من حماس أو الجهاد الإسلامي في فلسطين، "الجماعتان "الإرهابيتان" الفلسطينيتان" الأكثر فتكًا، مجتمعتين. ما كان مشتركًا بين 95% من "الإرهابيين" الانتحاريين في قاعدة بياناتي هو أنهم كانوا يقاتلون ضد الاحتلال العسكري الذي كان يسيطر على الأراضي التي يعتبرونها وطنهم.

وفي الفترة من 1994 إلى 2005، نفذت حماس وغيرها من الجماعات "الإرهابية" الفلسطينية أكثر من 150 هجومًا انتحاريًا، مما أسفر عن مقتل حوالي 1000 إسرائيلي. ولم تتخلّ هذه الجماعات عن هذا التكتيك بشكل كامل تقريبًا إلا عندما سحبت إسرائيل قواتها العسكرية من غزة. ومنذ ذلك الحين، ارتفع عدد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية بنسبة 50%، مما يزيد من صعوبة سيطرة إسرائيل على المناطق على المدى الطويل. توجد كل الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن الاحتلال العسكري الإسرائيلي المتجدد لغزة «لأجل غير مسمى»، وفقًا لنتنياهو، سيؤدي إلى موجة جديدة، وربما أكبر، من الهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين.

مشكلة المستوطنين

على الرغم من أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني له أبعاد عديدة، إلا أنه توجد حقيقة واحدة تساعد في توضيح الصورة المعقدة. في كل عام تقريبًا منذ أوائل الثمانينيات، زاد عدد السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية، حتى خلال سنوات عملية أوسلو للسلام في التسعينيات. ويعني نمو المستوطنات خسارة الفلسطينيين للأراضي وزيادة المخاوف من أن إسرائيل ستصادر المزيد من الأراضي لإعادة توطين المزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية. والواقع أن يوسي داغان، وهو مستوطن بارز وعضو في حزب نتنياهو، حث على إنشاء المستوطنات في غزة، حيث تمت إزالة آخر المستوطنات في عام 2005.

ويشكل نمو السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية عاملًا رئيسيًا في إثارة الصراع. وفي السنوات التي تلت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967 مباشرة، لم يتجاوز العدد الإجمالي لليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية وغزة بضعة آلاف فقط. وكانت العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية متناغمة في معظمها. ولم تقع أية هجمات انتحارية فلسطينية، وحدثت هجمات قليلة من أي نوع خلال هذه الفترة.

لكن الأمور تغيرت بعد وصول الحكومة اليمينية بقيادة حزب الليكود إلى السلطة في عام 1977، ووعدت بتوسيع كبير للمستوطنات. وزاد عدد المستوطنين من حوالي 4000 عام 1977 إلى 24,000 عام 1983، وإلى 116,000 عام 1993. بحلول عام 2022، كان يعيش حوالي 500 ألف مستوطن يهودي إسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، باستثناء القدس الشرقية، حيث يقيم 230 ألف يهودي إضافي. ومع نمو المستوطنات، تبدد الانسجام النسبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أولًا، جاء إنشاء حماس في عام 1987، ثم الانتفاضة الأولى في الفترة 1987-1993، والانتفاضة الثانية في الفترة 2000-2005، وجولات الصراع المستمرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ ذلك الحين.

إن النمو شبه المستمر للمستوطنات اليهودية هو السبب الرئيسي وراء فقدان فكرة حل الدولتين لمصداقيتها منذ التسعينيات. وإذا كان هناك طريق جدي لقيام دولة فلسطينية في المستقبل، فلا بد أن ينتهي هذا النمو. فما الذي يجعل الفلسطينيين يرفضون حماس، ويدعمون عملية السلام المفترضة إذا كان هذا لا يعني إلا خسارة المزيد من أراضيهم؟

سلام دائم

إن حل الدولتين وحده هو الذي سيؤدي إلى أمن دائم للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وهذا هو النهج الوحيد القابل للتطبيق، والذي من شأنه أن يقوض حماس حقًا، ويتعين على إسرائيل أن تمضي قدمًا من جانب واحد في تنفيذ الخطة، وأن تتخذ خطوات من تلقاء نفسها قبل التفاوض مع الفلسطينيين. وينبغي أن يكون الهدف إحياء العملية التي ظلت خاملة منذ فشل المفاوضات الأخيرة في عام 2008، قبل 15 عامًا. ولكي نكون واضحين، يتعين على إسرائيل أن تربط هذا النهج السياسي بآخر عسكري، فتنخرط في عمليات محدودة ومتواصلة ضد قادة حماس ومقاتليها المسؤولين عن الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن يتعين على البلاد أن تتبنى العنصر السياسي في الإستراتيجية الآن، وليس في وقت لاحق. ولا تستطيع إسرائيل أن تنتظر إلى ما بعد بعض الوقت الأسطوري، حتى تُهزم حماس بالقوة العسكرية وحدها.

آثار الدمار إثر القصف الإسرائيليّ على غزّة (Getty)

إن الذين يشكون في إمكانية التوصل إلى حل الدولتين على الإطلاق محقون في أن الاستئناف الفوري للمفاوضات مع الفلسطينيين لن يقلل من رغبة حماس في القتال. لسبب واحد، أن المجموعة من المؤيدين المعلنين للقضاء على إسرائيل. ومن ناحية أخرى، ستكون واحدة من أكبر الخاسرين في حل الدولتين، حيث يكاد يكون من المؤكد أن اتفاق السلام سيتضمن حظر الجماعات الفلسطينية المسلحة باستثناء المنافس الداخلي الرئيسي لحماس، السلطة الفلسطينية، التي من المرجح أن تتمتع بدعم متجدد وقوة. الشرعية إذا حصلت على اتفاق تدعمه غالبية الفلسطينيين. وحتى لو تم التوصل إلى حل الدولتين، فإن إسرائيل سوف تظل في حاجة إلى قدرة دفاعية قوية، حيث لا يوجد حل سياسي قادر على القضاء بشكل كامل على تهديد "الإرهاب" لسنوات قادمة.

ولكن لهذا السبب لا ينبغي أن يكون الهدف الآن هو طرح خطة نهائية لحل الدولتين على الفور، وهو أمر ببساطة ليس في نطاق الإمكانية السياسية في الوقت الحالي. وبدلًا من ذلك، ينبغي أن يكون الهدف المباشر هو خلق مسار لإقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف. ورغم أن المتشككين يزعمون أن مثل هذا المسار مستحيل؛ لأن إسرائيل ليس لديها شركاء فلسطينيون مناسبون، فإن إسرائيل في الواقع قادرة على اتخاذ خطوات حاسمة بمفردها.

يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تعلن عن نيتها تحقيق وضع يعيش فيه الفلسطينيون في دولة يختارها الفلسطينيون جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل اليهودية. ويمكنها أن تعلن أنها تعتزم تطوير عملية لتحقيق هذا الهدف بحلول عام 2030 على سبيل المثال، وسوف تحدد معالم لتحقيق هذه الغاية في الأشهر المقبلة. ويمكنها أن تعلن أنها ستجمد على الفور المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وتتخلى عن مثل هذه المستوطنات في غزة حتى عام 2030 كدفعة أولى تثبت التزامها بحل الدولتين الحقيقي. ويمكنها أن تعلن أنها راغبة ومستعدة للعمل مع جميع الأطراف، جميع دول المنطقة وخارجها، وجميع المنظمات الدولية، وجميع الأطراف الفلسطينية، المستعدة لقبول هذه الأهداف.

وبعيدًا عن كونها غير ذات صلة بالجهود العسكرية التي تبذلها إسرائيل ضد حماس، فإن هذه الخطوات السياسية من شأنها أن تزيد من حملة مستدامة ومستهدفة للغاية للحد من تهديد الهجمات التي تشنها الجماعة على المدى القريب. وتستفيد مكافحة "الإرهاب" الفعالة من المعلومات الاستخبارية الواردة من السكان المحليين، والتي من المرجح أن تأتي إذا كان لدى هؤلاء السكان أمل في وجود بديل سياسي حقيقي للجماعة "الإرهابية".

والحقيقة أن السبيل الوحيد في الأمد البعيد لهزيمة حماس يتلخص في دق إسفين سياسي بينها وبين الشعب الفلسطيني. إن الخطوات الإسرائيلية الأحادية الجانب، والتي تشير إلى التزام جدي بمستقبل جديد، من شأنها أن تغير إطار وديناميات العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية، وتمنح الفلسطينيين بديلًا حقيقيًا لمجرد دعم حماس والعنف. ومن جانبهم، سوف يصبح الإسرائيليون أكثر أمانًا، وسوف يصبح الطرفان أخيرًا على الطريق نحو السلام.

وبطبيعة الحال، لا تظهر الحكومة الإسرائيلية الحالية أي علامات على متابعة هذه الخطة. لكن هذا قد يتغير، خاصة إذا قررت الولايات المتحدة استخدام نفوذها. على سبيل المثال، يمكن للبيت الأبيض أن يمارس المزيد من الضغوط الخاصة على حكومة نتنياهو للحد من الهجمات العشوائية في الحملة الجوية.

ربما تكون الخطوة الأكثر أهمية التي يمكن أن تتخذها واشنطن الآن هي إطلاق نقاش عام كبير حول سلوك إسرائيل في غزة، وهو النقاش الذي يسمح بدراسة الإستراتيجيات البديلة بعمق، وينتج معلومات عامة غنية للأميركيين والإسرائيليين والدوليين. الناس في جميع أنحاء العالم لتقييم العواقب لأنفسهم. من الممكن أن يصدر البيت الأبيض تقييمات الحكومة الأميركية حول تأثير الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة على حماس والمدنيين الفلسطينيين. ويمكن للكونغرس أن يعقد جلسات استماع تتمحور حول سؤال بسيط: هل تنتج الحملة "إرهابيين" أكثر مما تقتلهم؟

إن فشل التوجه الإسرائيلي الحالي يصبح أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم. أن المناقشة العامة المستمرة لهذا الواقع، مقترنة بالدراسة الجادة للبدائل الذكية، توفر أفضل فرصة لإقناع إسرائيل بالقيام بما يصب في مصلحتها الوطنية في نهاية المطاف.

التعليقات