29/12/2021 - 13:54

حارات عُمان القديمة: إستراتيجية العمارة المتكيّفة مع البيئة

بعد انتقل كثير من المواطنين في سلطنة عُمان إلى العيش بالمدن والأحياء السكنية الجديدة على مدار الـ50 عامًا الماضية، خلفوا وراءهم أحياء وحارات تراثية شاهدة على تاريخ التحوّل الحضري. 

حارات عُمان القديمة: إستراتيجية العمارة المتكيّفة مع البيئة

(الأناضول)

بعد انتقل كثير من المواطنين في سلطنة عُمان إلى العيش بالمدن والأحياء السكنية الجديدة على مدار الـ50 عامًا الماضية، خلفوا وراءهم أحياء وحارات تراثية شاهدة على تاريخ التحوّل الحضري.

وينظر الكثيرون إلى تلك الأحياء القديمة بأنها ذات قيمة تاريخية ومعنوية كبيرة ينبغي صيانتها باستمرار لتظل شاهدة على تراث الآباء والأجداد.

وتعد الحارات القديمة في محافظة ظفار جنوبي السلطنة مثالًا حيًا لأطلال كانت يومًا تضج بالحياة، قبل أن ينتقل قاطنوها من بيوت الطين والحجر إلى مساكن عصرية بنيت من الأسمنت والحديد.

لكن الحنين إلى الماضي دفع البعض إلى العودة إلى تلك المنازل من باب الترميم والصيانة كون جدرانها خير شاهد على تاريخ حافل بالأحداث وتخليدًا لذكرى من بناها.

الحارة العمانية وثيقة الصلة بالعمارة الإسلامية

كان لموفد "الأناضول" جولة في جنبات تلك الحارات، حيث التقى بالباحث التاريخي الدكتور سالم بن عقيل مقيبل، الذي أكد أن "الحارة في ظفار هي جزء من الحارات في المجتمع الإسلامي العام".

وقال مقيبل: "العادة هنا في ظفار أن تكون مجموعة من البيوت مصفوفة باتجاه الجنوب لأنها جهة البحر، وذلك من أجل تجديد الهواء داخل البيت، وتبنى البيوت على شكل دائري أو مربع، بحيث يكون المسجد هو الملتقى لهذه الحارة".

وأضاف: "نحن الآن أمام مسجد قديم هو مسجد عقيل تأسس عام 1774 ميلادي ويعتبر من أقدم المساجد في مدينة صلالة بعد تأسيسها، والأقدم منه هو المسجد الجامع".

وأوضح الباحث التاريخي أن "البيت في ظفار يتجه إلى الجهة الجنوبية باتجاه البحر، كما تتجه السدة الرئيسية أو مدخله الرئيسي إلى الجنوب من أجل الهواء، وكذلك تُصمم النوافذ بشكل مستطيل على الطراز الإسلامي مثل العكوف أو النقش على الحجر من أجل إدخال الهواء".

(الأناضول)

كما يحتوي البيت من الداخل على فتحة غير مبنية، من أجل إدخال الهواء من الباب الرئيسي والنوافذ ثم إلى صحن البيت ومنه إلى كافة جنبات البيت من أجل التهوية.

وعن التناغم والخصوصية بين بيوت الحارة، قال مقيبل إن الجميل في بيوت ظفار هو أن جميعها منفصلة بحيث تُترك مسافة مترين تقريبا بين كل بيت وآخر تسمى "المغصوص" أو الممر، من أجل إدخال الهواء الطبيعي من البحر.

وأشار إلى أن هذا المرر يسمح للهواء بالذهاب إلى البيوت الأخرى في الخلف، وهذا ما تتميز به العمارة الإسلامية.

اعتماد البناء على مواد محلية تتكيف مع البيئة المحيطة

ويرى الباحث التاريخي أن "العمارة في ظفار جزء لا يتجزأ من العمارة الإسلامية المنتشرة في ربوع العالم الإسلامي".

ولفت إلى أن "هذه البيوت من المواد المحلية التي تتكون من أحجار القص وهو جيري يؤخذ من محاجر خاصة ويبنى بطين جيري يوضع عليه ماء لأكثر من أسبوع حتى يتخمر، ثم يلصق في هذا الحجر كالأسمنت".

وأضاف: "ثم يأتون بالنورة (الجبس الأبيض)، ويطلى بها واجهة المنازل، مثل هذا المسجد الذي نحن أمامه باللون الأبيض وهو طلاء أيضًا من النورة".

وبيّن أن "جميع البيوت في ظفار وفي ربوع عُمان كلها على الطراز الإسلامي، وتُصمم على حسب المستوى الاقتصادي للشخص، فإن كان مستواه ضعيفًا تجد بيته مكونًا من غرفتين أو ثلاث للجهة الجنوبية والجزء المتبقي منه يكون مفتوحا، وفي الخلف يكون المطبخ ودورة المياه مبنية من الحجر".

(الأناضول)

أما إذا كان الوضع المادي للمواطن جيدا أو لديه أسرة ممتدة الأفراد، قال مقيبل، إن البيت في هذه الحالة يتكون من طابق أرضي ثم طابق ثان يسمى "المحايل" وإذا كانت أسرة أكبر وأغنى، يبنى بالبيت طابقا ثالثا يسمى "القصور" ويخصص غالبا لرب الأسرة.

وأردف: "غالب البيوت في العمارة الإسلامية تكون فيها دورة مياه واحدة تسمى (المطهر) وهي مشتقة من مصطلح التطهير، وتقع على الجهة الغربية أو الشرقية في الزاوية الشمالية للبيت بحيث إذا أتى الهواء من الجنوب إلى الشمال لا تتسلل الروائح الكريهة إلى جنبات البيت".

وعن المواد المستخدمة في بناء البيت، يقول مقيبل: "أولا الحجر القص أو الحجر الجيري، ويبلغ عرضه تقريبا 30 سم، وطوله ما يقارب نصف متر، وارتفاعه كذلك 30 سم، بالإضافة إلى الطين الخطري والنورة".

وتابع: "أما بالنسبة للسقوف، فتستخدم أخشاب من أشجار خاصة تُجلب من الجبل إلى جانب أشجار النارجيل، إذ لابد أن تكون هذه الشجرة معمرة بحيث أنها تعيش فترة طويلة".

ونوه إلى أن هذه الأخشاب توضع في السقف على هيئة أعمدة ثم تُغطى بعيدان أو ما يسمى بألواح "الركراك"، وتطلى بعد ذلك بزيت الحوت بحيث أنها تعيش فترة طويلة.

وفي حال ارتفع البيت إلى ثلاثة طوابق، حينئذ تُستخدم أغصان شجرة السدر القوية في الطابق الأرضي لتكون كدعامات لبناء البيت ليعيش فترة طويلة، كما أوضح.

وأشار مقيبل إلى أن أقدم بيت في ظفار عمره الآن 300 سنة يوجد خلف مسجد عقيل.

تغلب على تحديات البيئة الجغرافية الصعبة

جدير بالذكر أن أحجار القص استخدمت على مدار سنين طويلة في عمليات بناء المنازل في السلطنة، لما تتميز به من سهولة النحت والتكيف مع البيئة المحيطة وقدرتها على عزل الحرارة والرطوبة، علاوة على جودة خامتها ومقاومتها لعوامل التجوية والتعرية نتيجة للتقلبات المناخية.

(الأناضول)

كما اعتمد بناء المنازل على هذا النوع من الأحجار في محافظة ظفار تحديدًا نظرًا لوفرة المواقع التي يمكن قطع الأحجار منها وسهولة نقلها إلى أماكن البناء.

ورغم تنوع أشكال الحارات نتيجة لاختلاف الجغرافيا والموارد الكامنة في كل منطقة، نجح العمانيون قبل مئات السنين في التغلب على تحدي الجغرافيا الصعبة التي تميز السلطنة، حيث بنيت الحارات على سفوح الجبل وفوق الهضاب وعلى التلال.

ويحركهم في ذلك البحث عن مصدر المياه، ليكوّن إلى جانب المسجد، نواة رئيسية لبيوت الحارة التي ستأخذ طابع النسيج المعماري الذي تشكل بطريقة طبيعية بحيث تكون البيوت منتظمة ويحيط بها سورًا للحماية والدفاع.

التعليقات