"سيرة الظّل" لـ فاروق وادي../ رشاد أبوشاور

-

العنوان الذي اختاره فاروق وادي لكتابه الجديد ( سيرة الظّل)، مستقى من مقولة لمحي الدين بن عربي: ظلّك على صورتك، وأنت على صورة ظلّك، فأنت ظّل.

هذا الكتاب ليس مذكرّات شخصيّة، أو سيرة فنيّة، ولا هو مجموعة قصص قصيرة، ولا رواية، ولا هو دراسة، ولكنه ( عائلة) مقالات كتبت على مدى عقدين تقريبا.

إنه كتاب تنتمي مقالاته لفنّ لا يبرع فيه سوى من يملكون موهبة كتّاب القصّة القصيرة، وذوق الرسامين، وحساسيّة الموسيقيين.

فاروق وادي ( صاحب) الكتاب، قاص، وفنّان تشكيلي هاو، وعارف بأصول الفّن التشكيلي، وذوّاقة موسيقى وشعر.

يكتب فاروق وادي القصّة القصيرة منذ أربعة عقود، فهو بدأ نشر قصصه وهو في السنة الجامعيّة الأولى، وفي أهّم المجلاّت العربيّة ( الآداب).

نشر فاروق مقالاته في عديد المجلاّت، والصحف العربيّة والفلسطينيّة، وبرع في كتابة المقالة القصيرة، المشحونة، الغنيّة، المضبوطة فلا تزيّد، ولا إطالة لا لزوم لها، وكتب روايته بخبرة كاتب القصّة القصيرة.

المقالة كما يكتبها فاروق وادي بينها وبين القصّة القصيرة وشائج وصلات قربى، فهي تشّد، ولها مركز، وتذهب إلى هدف، وهي تمتع لغةً وأسلوبا، وهي خفيفة دّم، و( لذيذة)، ولذا تنشأ علاقة حلوة بين ( الصانع) و( المتلقّي).
في مقدمته لكتابه يقول فاروق وادي: تبدو الكتابة بكّل أشكالها نوعا من السيرة، حتّى لو لم تكن تحكي شخص كاتبها، أو تتقصّد سرد تجارب حياته.( ص7)

ولتبرير إصداره لهذا الكتاب الذي يضّم عشرات المقالات، يكتب: لم ينج كاتب من حنين العودة إلى أوراقه القديمة، المتناثرة شظايا في صحف تلقي بنفسها على عجل بين يدي القارئ وهي تلهث، لأن وراءها موعدا مع طبعة الغّد اللحوح، وفي انتظار يوم آخر لن تبزغ شمسه دون صحف الصباح...( ص8).

حنين الكاتب في كتابه هذا، يحيي حنين القارئ لشخصيّات أدبيّة، فنيّة، ولأزمنة خلت، لم تخرج من دواخلنا، وإن توارت تحت أحداث تراكمت عليها، وعجزت عن طمسها، بدليل استيقاظها مع كلمات هذه المقالات الخفيفة المنعشة السريعة المشحونة.

يبدأ فاروق وادي - وهذا ليس صدفةً - كتابه بمقالة عن ناجي العلي فنّان القضيّة، بل القضايا العربيّة وفي مقدمتها القضيّة الفلسطينيّة التي هي دائما في صلب قضايا الحريّة، والعدالة و.. ويختم كتابه بمقالة عن الشاعر الإسباني العالمي رافائيل البرتي.

من المحلّي يبدأ، وبالعالمي يختم، وبينهما علاقة إنسانيّة هي التي تجمع ناجي العلي برفائيل ألبرتي، فنّان فلسطين وثورة شعبها، وشاعر الثورة الإسبانيّة الأممي العالمي.

مقالة ( الرائي الذي أضاعته رؤاه) تلتقط سّر روح هذا الفنّان الكبير، إبن المخيّم، والجوع، والقهر، الذي عبّر بلوحاته، وبخطوطه، و( بحنظلته)، عن مشاعر وغضب وأماني وأحلام ملايين العرب، واختصر انتماء الفنّان لوطنه، وأمته، وشعبه، بحلم ظّل يلّح عليه، وهو أن يذهب إلى مقّر الأمم المتحدة، حاملاً صليبه، ثمّ يصعد الصليب ويدّق المسامير في راحته.. ويصاب ناجي بالحيرة، فيتساءل: كيف سأدق المسامير في يدي الثانية؟
فاروق وادي يكتب: شكرا لتلك المعضلة التي حمت لنا طويلاً يّد ناجي العلي من مسمار الصليب.

يكتب فاروق عن سهرة مع الفنّان المصري الصديق عدلي فخري -الذي ربط مصيره بمصير الثورة الفلسطينيّة، والذي توفي بعد مغادرة بيروت عام 82 حزنا ووحشةً وألما - ضمّت ناجي العلي، وعددا من المثقفين، وأحد محرري مجلّة ( فلسطين الثورة)، الذي كان يضع مسدسا على قفاه، وهو ما استفّز ناجي الذي استفزّه ودفعه للتعليق:
_ انظروا.. مثقف وكاتب قصّة ومحرر في المجّلة المركزيّة.. ويأتي ليستمع إلى عدلي فخري، وهو يضع مسدسا على قفاه!
المثقف استلّ مسدسه بنيّة إطلاق الرصاص على رأس ناجي، لولا تدخّل الحضور، وبذلهم جهودا هائلة لإنقاذ أنفسهم، فالمثقّف هذا تكشّف عن حاقد على الجميع، وهو ينتمي لمرحلة ما بعد حرب تشرين 73، أي مرحلة التخلّص من الكوادر التي أسست المجلّة المركزيّة، ليتسلمّها والإعلام الفلسطيني مروّجو خطاب( التسوية) السياسيّة، والنهج الذي استمّر حتى أوسلو، وما بعد أوسلو.

سبعة أعوام تفصل واقعة محاولة قتل ناجي برصاص كاتب فلسطيني، غطّى نشاطه في ( البورصة) بالعمل الإعلامي - كما يصفه فاروق - وجريمة اغتيال ناجي في لندن بعد حملة ملاحقة وترويع لناجي، الذي لم يكّف عن فضح الساقطين والمنحرفين.

المقالة الثانية في الكتاب تحمل العنوان ( غسّان كنفاني: سأهديك أعماله الكاملة). يكتب فاروق: لا أذكر كيف عثرت على ( غسّان كنفاني) في ذلك الزمن البعيد. لكنني وأصدقائي الذين اكتشفناه آنذاك، أثناء انهماكنا بالبحث عن ذواتنا في منتصف ستينات القرن الماضي، شعرنا، بعد أن قرأناه، بأننا عثرنا على كنزنا الوجداني المفقود. ( ص15)

في كل مقالة من مقالات الكتاب تلتقي بحكاية، بارزة، أو شفيفة، فالقاص لا ينسى مهنته، وعشقة الأوّل، وهو مع تراكم خبراته الكتابيّة، يمزج بين أسلوب القّص، وفكرة المقالة، وبخلطة بارعة ذكيّة، يقدّم للقارئ وجبة تنعش ذاكرته، وتغني معرفته، وقد تستدرجه للعودة لتأمّل وتذوّق نصوص، أو أعمال فنيّة، فارقها منذ زمن، وأبعدته عنها مشاغل الحياة، ومتابعة ما استجّد في عالم الأدب والفنّ، ناهيك عن انحطاط الأحوال العربيّة الراهنة سياسيّا واقتصاديّا وفنيّا...

رأيت البحر، عنوان مقالة الختام في الكتاب، وهي عن الشاعر الإسباني العالمي الكبيررفائيل ألبرتي، صديق ورفيق فريدريكو غارسيا لوركا، والذي بعد فشل الثورة الإسبانيّة غادر وطنه وقضى معظم حياته في المنفى، ولم يعد إلى ( الأندلس) مسقط رأسه، إلاّ بعد أفول حقبة الطاغية فرانكو.

رفائيل ألبرتي شاعر البحر، يراه فاروق في أحد المؤتمرات وهو يدخل الفندق، فيرغب في أن يحييه بعبارة قصيرة ليست سوى ثلاث كلمات. ولكن الشاعر الكبير محاط بسكرتيرته، وبحشد يلتّف حوله، وهو ما يحول دون وصول فاروق إليه.

تشبه هذه الواقعة ما حدث مع غارسيا ماركيز الذي رأى الكاتب الأمريكي الكبير همنغوي وهو يظهر أمامه في أحد شوارع باريس، فيرغب في أن يحييه، ولكنه يتردد، ويكتفي بأنه رأى كاتبه العظيم.
في مقالته البسيطة، الشاعريّة، يثير فاروق شهيّة القارئ للتعرّف أكثر على هذا الشاعر الكبير، المديد القامة كالبحر، الذي انتقى سكرتيرة طويلة ووسيمة كالبحر.

يكتب فاروق : كانت المرأة حسناء حقّا، مربكة وطويلة. كأنه اختار قامتها بدقّة لتنسجم مع طوله، وانتقى جمالها الفريد كمفردة نادرة في بيت من الشعر. اختارها تفيض حضورا وعذوبةً، حتى لا يتناقض حضورها باذخ السحر مع روح القصيدة. ( ص232 )

لم يتمكن فاروق من قول كلماته الثلاث لشاعره الإنساني الكبير: اليوم.. رأيت البحر.. ولكنه قالها لنا، وللحياة، فقلّة من الناس يمكن أن يكونوا بحارا، وقلّة من الشعراء من نسافر في شعرهم، ومع حضورهم الذي لا ينتهي.

خمس وخمسون مقالة بين دفتّي هذا الكتاب، الذي يعيد إلينا ظلال كتّاب، وشعراء، وفنّانين، قرأنا لهم، وتابعناهم، عرفنا بعضهم عن قرب، وبعضهم عن بعد من خلال إبداعاتهم - كما هو شأن فاروق وادي - يجمعهم في عائلة واحدة حّب فاروق لهم، وإعجابه بهم، وحرصه على ( تظهير) ملامحهم من عتمة الذاكرة.

هذا الكتاب هو سيرة نفسيّة، روحيّة، ثقافيّة، تذوقيّة للكاتب فاروق وادي، والذي جعل من مدخله وبوّابته ناجي العلي و( حنظلة)، ومن خاتمته شاعر عالمي أممي كبير ثوري فنّا وفكرا وحياةً هو رفائيل ألبرتي.

الكاتب منتج مقالاته، فتخلّص من الزوائد، ووضع كّل مقالة في موضع يخدم غرض الكتاب، وهدفه، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى اهتمام الكاتب بالسينما، ولدراسته قبل سنوات - وكنّا معا في تونس - لفّن كتابة السيناريو في دورة أشار لها في إحدى مقالاته التي ضمّها الكتاب.

____________________

* سيرة الظّل، لفاروق وادي، صدر العام 2008 عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر _ بيروت.

التعليقات