"النزعة الإنسانية والإسلام" مؤلف جديد لمحمد اركون

مؤلف هذا الكتاب هو البروفيسور محمد أركون أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي في السوربون لأكثر من ثلاثين سنة، وهو الآن أستاذ محاضر في العديد من الجامعات العالمية في أوروبا وأميركا والعالم العربي والإسلامي. والأستاذ أركون جزائري الأصل، ولذلك أهدى كتابه إلى الجزائر التي تعاني ما تعانيه منذ عدة سنوات والتي قطعت الأحداث الدموية والمأساوية مسيرتها الصاعدة نحو الحرية والتقدم وتجسيد النزعة الإنسانية على أرض الواقع، ولكنه مصاب أليم سوف ينتهي بإذن الله قريباً، بل إنه انتهى إلى حد كبير.


وينطلق المؤلف من الأطروحة العامة التالية: وهي أن المجتمعات العربية والإسلامية شهدت تشكل النزعة الإنسانية قبل أوروبا بعدة قرون، ومعلوم أن النزعة الإنسانية ظهرت في إيطاليا أولاً ثم عموم أوروبا ثانياً في عصر النهضة، وفي القرن السادس عشر، ولكنها ظهرت في العالم الإسلامي بين عامي 800-1100 للميلاد أي قبل أوروبا بسبعمئة سنة على الأقل!. ولكن القضية هو أن هذه النزعة الإنسانية والنهضوية ماتت في العالم الإسلامي بعد القرن الثالث عشر والدخول في عصور الانحطاط الطويلة،


أما في أوروبا فقد ظلت متواصلة ومتصاعدة من دون انقطاع منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم، وهذا هو سر تفوق أوروبا على العالم العربي والإسلامي. ويرى محمد أركون أن جيل مسكويه والتوحيدي وبقية الفلاسفة والأدباء كان ناشطاً بين عامي 950-1020م على الأصعدة والمستويات كافة من أدبية، وتاريخية، وجغرافية، وفلسفية، وكان يمزج بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية بطريقة ذكية منفتحة، وكان أبعد ما يكون عن التزمت والتعصب، فمسكويه كان يستشهد بأرسطو والقرآن الكريم من دون أن يشعر بأي مشكلة، وكان يفهم الدين فهماً عقلانياً، وسطياً، بعيداً عن التشنج، والتجهم الفكري أو العقائدي.


مثل الأمر ذاته عند أبي حيان التوحيدي صاحب الكتب الشهيرة والأسلوب الرائع: كالمقابسات، والإمتاع والمؤانسة، والصداقة والصديق، كلهم كانوا مؤمنين وعقلانيين في آن معاً. ولكن هذا الموقف العقلاني ذا النزعة الإنسانية اختفى في ساحة الفكر العربي والإسلامي بعد موت الفلسفة وانتصار الجمود العقائدي والتحجر الفكري، واستمر الأمر على هذا النحو طيلة ستمائة سنة، أي حتى مشارف النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر.


هكذا نلاحظ أن مجريات الأمور في العالم العربي كانت معاكسة لما حصل في أوروبا، فعندما توقفت الفلسفة عندنا ـ أي الفكر العقلاني ـ راحت تنشط عندهم وتزدهر حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم.


فعندما كنا نحن نغط في ظلام العصور الوسطى الانحطاطية، أي في القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر وحتى التاسع عشر، كانوا هم يصنعون الحداثة والحضارة درجة فدرجة، ومرحلة فمرحلة. ففي تلك القرون ظهر دانتي، وبيترارك، وكوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، وسبينوزا، ولايبنتز، ونيوتن، وكانت، وهيغل، وفيخته، وكيبلنغ، وهولدرلين، وماركس، وأوغست كونت، وفرويد، الخ.


هذا في حين أنه لم يظهر فيلسوف واحد في العالم الإسلامي كله خلال تلك الفترة! وكان ابن رشد الذي مات في نهاية القرن الثاني عشر (1198) آخر فيلسوف كبير عرفناه، بعده كان القحط والجدب، ولكن لا ينبغي أن نستثني ابن خلدون المؤرخ النقدي الكبير الذي مات عام 1406م. وبالتالي فإن أركون يستنتج ما يلي:


الفكر العربي الإسلامي ذو النزعة الإنسانية والعقلانية لم يمت نهائياً إلا بموت ابن خلدون في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ولكنه مات كمرحلة واسعة وجماعية بدءاً من القرن الثالث عشر، أي بعد موت ابن رشد، وبالتالي فابن خلدون هو استثناء على القاعدة، ليس إلا انه فرد معزول داخل عالم قاحل هجره الفكر إلى حد كبير وغطس في مستنقع التكرار والاجترار العقائدي أو المذهبي الضيق.


وبالتالي فالتحقيب المعرفي للفكر العربي والإسلامي يختلف عن التحقيب المعرفي للفكر الأوروبي، فعندما كانوا نائمين على الفكر طيلة القرون العشرة الأولى للميلاد كنا نحن مستيقظين، وعندما استيقظوا هم بعد ذلك نمنا نحن!


وهكذا يمكن القول إن الفكر العربي مرّ بالمراحل الخمس التالية:


1 ـ المرحلة الكلاسيكية المبدعة (بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد)، حيث حصل تفاعل مع الفكر الإغريقي والهندي والفارسي عن طريق الترجمات، وحيث حصلت مصالحة بين الدين والفلسفة على يد كتّاب كبار كالجاحظ، والتوحيدي، ومسكويه، والمتنبي، والمعري، والبيروني، وفخر الدين الرازي، وعشرات غيرهم، هذا من دون أن ننسى كبار الفلاسفة في المشرق والمغرب، كالكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، وابن الطفيل، الخ هذه الفترة امتدت كما قلنا حتى القرن الثالث عشر تقريباً، بل وحتى بداية القرن الخامس عشر إذا ما أردنا أن نشمل بها ابن خلدون.


2 ـ المرحلة السكولاستيكية: أي التكرارية والاجترارية أو حتى الانحطاطية، وقد استمرت منذ موت ابن خلدون وحتى ظهور رفاعة رافع الطهطاوي في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر والاحتكاك بالحضارة مرة أخرى من خلال البعثات إلى أوروبا.


طيلة هذه المرحلة اكتفى المسلمون عرباً كانوا أم غير عرب بتكرار واجترار ما أبدعه القدماء أو حتى تقليصه إلى أقصى الحدود ونسيانه، وبالتالي فقد راحوا يكررون المقولات العقائدية والفقهية لهذا المذهب أو ذاك دون أي إبداع أو إضافة تذكر، في تلك الفترة تحجر الفكر والعقل وأصبح الناس يكررون كالببغاوات المقولات والأفكار نفسها.


3 ـ المرحلة الثالثة من مراحل الفكر العربي: وهي ما ندعوها بالمرحلة الليبرالية أو مرحلة عصر النهضة وقد امتدت من عام 1800 بعد حملة نابليون بونابرت على مصر وظهور محمد علي وانتهت عملياً عام 1952، تاريخ ظهور عبد الناصر وهي من أكثر المراحل خصوبة في تاريخ الفكر العربي ويمكن تشبيهها بالمرحلة الكلاسيكية المبدعة التي ذكرناها أولاً.


4 ـ المرحلة الرابعة: مرحلة الثورة القومية العربية الاشتراكية بقيادة جمال عبد الناصر والبعث، وقد امتدت من عام 1950 إلى 1970 أي حتى موت عبد الناصر، وقد امتزجت بالماركسية في مرحلتها الثانية.


5 ـ المرحلة الخامسة: وهي التي لا نزال نعيش فيها حتى الآن، فبعد موت عبد الناصر بطل القومية العربية انتشر تيار الإخوان المسلمين وسيطر على الساحة الايديولوجية، وظهرت الثورة الخمينية في إيران وبقية الحركات الأصولية في مشرق العالم العربي ومغربه.


ثم يردف المفكر الجزائري الكبير قائلاً: لقد عاب عليّ المستشرقون لأني تحدثت عن النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري، أو العاشر الميلادي، وقالوا لي إن النزعة الإنسانية غير معروفة في تاريخ العرب والإسلام كله، وإنما ظهرت فقط في أوروبا أثناء عصر النهضة، وبالتالي فلا يحق لك أن تستخدم هذا المصطلح ولا أن تطبقه على تاريخ الفكر العربي فمصطلح هيومانيزم لا علاقة للإسلام به.


ولكني أثبت لهم أن هذا التيار وجد بالفعل، وكان له ممثلوه، ولكنه لم يعش طويلاً للأسف الشديد، فقد قضت عليه التيارات المنغلقة فكرياً والمتزمتة دينياً بعد الدخول في عصر الانحطاط.


هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل، بل إن العرب أو المسلمين أنفسهم نسوا هذا التيار وتنكروا له بعدئذ، وما عاد أحد يهتم بفلسفة ابن رشد، وابن سينا، والفارابي، وفكر المعتزلة، الخ. كل هذه الأشياء أصبحت مشبوهة بالنسبة للعقل الفقهي اللاهوتي الضيق الذي ساد وسيطر على العقول حتى الآن تقريباً، فابن رشد اتهم في صحة دينه ومعتقده، وكذلك ابن سينا ومصير المعتزلة وتيارهم العقلاني معروف، ومعظم كتب الفلاسفة والمعتزلة حرقت أو اختفت عن الأنظار.


وهكذا انقطع العرب والمسلمون عن أهم فترة إنتاجية وإبداعية في تاريخهم وما عادوا يتذكرون إلا الفترة الانحطاطية القائمة على التكرار والاجترار، والدليل على ذلك هو أنها لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.


وفي الوقت نفسه انقطعوا عن أفضل ما أنتجته الحضارة الحديثة في أوروبا بدءاً من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر.


وهكذا راحوا يعانون من قطيعتين كبيرتين لا قطيعة واحدة، وهذا هو سبب تخلف المسلمين حالياً وسبب الورطة الرهيبة التي يتخبطون فيها دون أن يجدوا لهم مخرجاً منها، فهم لا يعرفون الفترة الحضارية من تاريخهم، ولا يعرفون الفترة الحضارية في تاريخ أوروبا. وبالتالي فهم مدعوون لإعادة اكتشاف هاتين المرحلتين إذا ما أرادوا أن ينهضوا ويتقدموا.


ويرى المفكر الجزائري الكبير أن عصر النهضة العربية حاول أن يعيد الصلة بالماضي الكلاسيكي المبدع من جهة وبالحضارة الأوروبية من جهة أخرى.


وقد ترجم العرب عندئذ العديد من الكتب الفرنسية والإنجليزية في شتى الاختصاصات العلمية والفلسفية، وظهرت أسماء لامعة في تاريخ الأدب والفكر كأحمد مصطفى السيد، ومحمد حسنين هيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ويعقوب صروف، وفرح انطون، وعباس محمود العقاد، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وعشرات غيرهم، وشكلوا تياراً إنسانياً وعقلانياً رائعاً،


ولكن في الوقت ذاته راح حسن البنا يشكل حركة الإخوان المسلمين لمقاومة تيار النزعة الإنسانية الحديثة بحجة أنه تابع للغرب الأوروبي الملحد، وهكذا اشتعلت المعركة بين الطرفين على مدار القرن العشرين ولا تزال، وأكبر دليل على ذلك هجوم أنور الجندي على طه حسين من خلال كتابه: طه حسين في ميزان الإسلام، وقد حاكمه محاكمة صارمة متهماً إياه بالخروج على الدين الإسلامي وبالتبعية للفكر الغربي.


وطه حسين بحسب رأي أركون كان يمثل ذروة الموقف الإنساني والعقلاني والنهضوي الحديث، ولهذا السبب حاكمته الحركات الأصولية المتزمتة وأدانته في السنوات الأخيرة، وهذا أكبر دليل على مدى تراجع الفكر العقلاني في العالم العربي والإسلامي منذ ثلاثين سنة وحتى اليوم، كما أنه دليل على أن التيارات المعادية للنزعة الإنسانية أخذت تكتسح الساحة من أقصاها إلى أقصاها، وهذه هي أكبر مشكلة نواجهها حالياً.


وأخيراً نلاحظ أن أركون لا يهمل نقد النواقص التي تحيط بالحضارة الأوروبية أو الغربية بشكل عام، فهو يدين الصفحة الكولونيالية من هذه الحضارة ويعتبرها انحرافاً عن مبادئ عصر النهضة والتنوير وتشويهاً للقيم الأساسية التي بنيت عليها كل حضارة الغرب الحديثة.


يضاف إلى ذلك أن النازية والفاشية والستالينية كلها حركات ظهرت في أوروبا، وهي تمثل أكبر انحراف عن مبادئ النزعة التنويرية والإنسانية التي طالما نادى بها فلاسفة أوروبا الكبار من أمثال ديكارت، وجان جاك روسو، وكانط، وهيغل، الخ. ولكن ميزة أوروبا هي أن التيار العقلاني والإنساني ظل موجوداً ومتواصلاً واستطاع أن ينتصر على ما عداه في نهاية المطاف. هذا في حين أن العكس هو الذي حصل في العالم الإسلامي.


الكتاب: النزعة الإنسانية والإسلام


معارك فكرية ومقترحات


تأليف: محمد أركون


الناشر: فران ـ باريس 2005


الصفحات: 315 صفحة من القطع المتوسط


التعليقات